لا تطروني كم أطرت النصارى عيسى ابن مريم
قلنا فيما تقدم : إن محمد كان يريد من قومه أن يكون عندهم مقدساً مطاعاً لأن النهضة التي يريد إحداثها للوصول إلى غايته لا تتم ولا تستمر بعده إلا بذلك , وذا كان يحرص كل الحرص على أن يتبعوه فيكون قدوتهم المقدسة ومرجعهم الوحيد في كل شيء
يدل على ذلك ما أخرجه أحمد وغيره عن عبدا لله بن ثابت , قال :جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله فقال : يا رسول الله , إني مررت بأخ لي من بني قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك ؟ فتغير وجه رسول الله , فقال عمر : رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولا ً , فسري عن رسول الله وقال : والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه لظللتم , إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين (1)
فانظر كيف تغير وجه لمّا رأى عمر معجباً بالجوامع التي كتبت له من التوراة , لأنه يريد أن لا يراه إلا معجباً بالقرآن وحده , ولا متبعاً إلا إياه , ولا معتمداً إلا عليه , وكان من طبعه أن يتغير وجهه إذا سمع شيئاً يكره أو كلاماً يزعجه ويؤلمه , ولكن عمر عرف لماذا تغير وجهه , ولذا بادره بما ينفي إعجابه بالتوراة ويثبت أنه لا يبع إلا محمداً إذ قال له : (( رضينا بالله ربًا وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولا ً )) , ثم أنظر كيف سري عنه وانكشف ما بوجهه من تغير لمّا رأى عمر قد رجع عمّا قاله , وترك ما جاء به من جوامع التوراة , وكطيف قال له إنه لا نجاح ولا هداية لهم إلا باتباعه , , وأنهم لو كان موسى حاضراً واتبعوه لضلوا , وأكد له ذلك بما مضمونه ( أنتم لي وأنا لكم ) ولهذا السبب , أي لكونه يريد أن يكون مرجعهم المقدس ومتبوعهم المطاع في الأمور كلها , كان يتغاضى عمّا يفعلونه أحياناً من ابتدارهم وضوءه , وتبركهم ببصاقه , وأخذهم شعر من رأسه , وشربهم دم حجامته ونحو ذلك من الأمور , ولا ريب أن هذه الأفعال منهم كانت جديرة بأن تعد غلوهم فيه , غير أن غلوهم هذا كان , والنبي حي بين أظهرهم , قد وقف هذا الحد ولم يتجاوزه إلى ما هو أعظم ولكنه بعد وفاته أخذ يتعاظم ويتفاقم كلما مرّ عليه الزمن حتى بلغ ما يناقض ما جاء به محمد من كتاب وسنة
ونحن نريد هنا أن نتكلم عن هذا الغلو الذي حصل بعد وفاة محمد , وقبل ذلك نقول : إن محمداً لم يرد لنفسه من كل ما جاء به إلا أمراً واحداً وهو الذكر الخالد مع التقديس , ولذا قرن اسمه باسم الله , وجعل الدخول في الإسلام لا يتم إلا بشهادتين , شهادة أن لا إله إلا الله , وشهادة أن محمداً رسول الله , مع أن الشهادة الأولى تتم بها الدعوة إلى الله , فهي وحدها كافية لهدم الوثنية وإقامة دين التوحيد , ولكنه لم يكتف بها بل وجعل الإسلام لا يتم إلا بالشهادة الثانية معها كما يدل على ذلك قصة إسلام أبي سفيان يوم الفتح
ذلك أن محمداً خرج من المدينة في عشرة آلاف يريد مكة , فلما بلغ مر الظهران ( موضع على مرحلة من مكة ) , نزل به فجاءه عمّه العباس بأبي سفيان بن حرب حتى أدخله على رسول الله , فقال له رسول الله : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ قال : بأبي وأمي أنت ما أحلمك , وما أكرمك وأوصلك لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لما أغنى عنس شيئاً بعد (1)
إن أبا سفيان في كلامه هذا قد اعترف بأنه لا إله إلا الله ولكن محمداً لم يكتف منه بذلك بل قال له : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ قال : بأبي أنت وأمي , أما والله هذه فإن في النفس حتى الآن منها شيئاً (2)
وفي رواية : أن بديل بن ورقاء وحكيم بن حزام كانا مع أبي سفيان لما جاء به العباس , وأن العباس قال : يا رسول الله , أبو سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء قد أجرتهم , وهم يدخلون عليك , فقال رسول الله : أدخلهم , فدخلوا , فمكثوا عنده عامة الليل يستخبرهم عن أهل مكة , ودعاهم إلى الإسلام فقالوا : نشهد أن لا إله إلا الله فقال رسول الله : اشهدوا أني رسول الله , فشهد بذلك بديل وحكيم بن حزام , وقال أبو سفيان : ما أعلم ذلك والله , إن في النفس من هذا شيئاً فأرجئها ( أي أخرها إلي وقت آخر ) , فقال العباس لأبي سفيان : ويحك أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأم محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك , فشهد شهادة الحق وأسلم (3)
لا ريب إن إقرار أبي سفيان بالشهادة الثانية لم يكن إلا من الخوف حيث هدده العباس بضرب عنقه , ومهما يكن فإن هذه القصة تدل على أن الإسلام لا يتم بشهادة لا إله إلا الله بل لا بد مع ذلك من شهادة أن محمداً رسول الله
وبذلك صار المسلمون يذكرون محمداً ويتعبدون بذكره في صلواتهم وعلى مآذنهم في كل يوم خمس مرات , وكفى بذلك ذكراً خالداً مقدساً يدوم إلى ما شاء الله
وفي السيرة الحلبية : قال رسول الله : سألت ربي مسألة وودت إني لم أكن سألته , سألت ربي : اتخذت إبراهيم خليلاً , وكلمت موسى تكليماً , فقال : يا محمد ألم أجدك يتيماً فآويتك , وضالاً فهديتك , وعائلاً فأغنيتك وشرحت لك صدرك , ووضعت عنك وزرك , ورفعت لك ذكرك فلا أذكر إلا وتذكر معي (1)
وفي السيرة الحلبية أيضاً عن الزهري قال : نهى رسول الله عن أكل ما يذبح للجن وعلى اسمهم (2) وأما ما قيل عند ذبحه بسم الله واسم محمد فحلال أكله , وإن كان القول المذكور حراماً لإيهامه التشريك , وهذا من جملة المحال المستثناة من قوله تعالى : (( لا أذكر إلا وتذكر معي )) , فقد جاء : أتاني جبريل فقال : إن ربي وربك يقول لك : أتدري كيف رفعت ذكرك ؟ قلت : الله أعلم , قال : لا أذكر إلا وتذكر معي أقول : إن كان ذكرا سم محمد عند الذبح حراماً لأنه يوهم التشريك , فإن محمد مع الله في قوله : (( لا أذكر إلا وتذكر معي )) يلزم أن يكون حراماً لأنه يوهم التشريك أيضاً , غاية ما هناك أنه في الأول تشريك في الذبح , وفي الثاني تشريك في الذكر
ولا ريب أن الذكر الخالد مع التقديس الذي أراده محمد لنفسه قد تم له على أحسن ما يرام , إذ صار المسلمون من بعده يذكرونه كما قلنا آنفاً في صلواتهم الخمس وفي الشهادتين وفي سائر أوقاتهم مقروناً بالصلاة والتسليم
وكأن محمداً شعر بأن المسلمين من بعده سيغلون فيه غلوهم , وسيخرجون به إلى ما فوق البشرية , وهو لا يريد ذلك , فقال : لا تطروني كم أطرت النصارى عيسى ابن مريم , فإنما أنا عبد , فقولوا : عبدا لله ورسوله (3) , ولم يكتف بذلك بل صرّح بأنه بشر في موضعين من القرآن , في سورة الكهف , وفي سورة السجدة : ( قل إنما أنا بشر مثلكم ) (4) , فقد أكد في هذه العبارة بشريته تأكيدين بإنما ومثلكم , إلا أن المسلمين أبوا إلا أن يخرجوا به عن ذلك , فمن غلوهم فيه أنه ليس لشخصه ظل , قال الحلبي في سيرته : إن ظل شخصه الشريف كان لا يظهر في شمس ولا قمر لئلا يوطأ بالأقدام , وإنه كان لا يقع عليه الذباب (5)
ومن ذلك أنهم اختلفوا بين مكة والمدينة في أيهما أفضل , فمنهم من فضل مكة على المدينة , ومنهم من فضل المدينة على مكة , واتفقوا على استثناء المحل الذي دفن فيه , فإن الحلبي في سيرته بعدما ذكر الخلاف قال : والكلام في غير ما ضمّ أعضاءه الشريفة من أرض المدينة, وإلا فذاك أفضل بقاع الأرض بالإجماع , بل حتى من العرش والكرسي (1)0 ومعلوم أن العرش مقر الله كما في القرآن : ( الرحمن على العرش استوى ) (2) فقد جعلوا المحل الذي دفن فيه محمد أفضل من عرش الرحمن بأي معنى كان
وقد جاء في القرآن في سورة الإسراء : ( ومن الليل فتجهد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ) (3) , معلوم أن المقام المحمود هو المقام الذي يحمده القائم فيه , ويحمده كل من رآه وعرفه , وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات , ولكن المسلمين اختلفوا فيه واغلوا فيه غلواً حتى حدثت فتنة كبيرة في بغداد بسبب هذه الآية , فقالت الحنابلة : معناه يجلسه على عرشه , وقال غيرهم : بل المقام المحمود هو الشفاعة العظمى في فصل القضاء , فدام الخصام بين الفريقين إلى أن اقتتلوا فقتل منهم خلق كثير كما في السيرة الحلبية (4)
ومن غلوهم فيه أن عورته إذا انكشفت لا ترى قال الحلبي في سيرته وفي الخصائص الصغرى : إنه لم ترَ عورته قط , ولو رآها أحد طمست عيناه , قال : لأنه لا يلزم من كشف عورته رؤيتها (5)
يتبع
(1) مسند أحمد , مسند المكيين , الحديث رقم : 15303؛ مسند الكوفيين , الحديث رقم : 176130
(1) السيرة الحلبية : 3/ 79 0
(2) نفس المصدر 0
(3) السيرة الحلبية , 3/ 79 – 80
(1) السيرة الحلبية , 3/97 0
(2) السيرة الحلبية .3/98 0
(3) صحيح البخاري , أحاديث الأنبياء رقم : 3189 , الحدود , رقم : 6328 , سند أحمد , سند العشرة , رقم : 149 , 159 , 313 , 368 , رقم 6328 , سنن الدرامي , كتاب الرقاق , رقم : 2665 0
(4) سورة الكهف, الآية: 110 ؛ سورة فصلت , الآية : 6 0
(5) السيرة الحلبية , 3/ 302 0
(1) السيرة الحلبية , 3/ 3660
(2) سورة طه , الآية : 20
(3) سورة الإسراء , الآية : 79 0
(4) السيرة الحلبية , 1/ 400 0
(5) السيرة الحلبية , 3/ 302 0
* من كتاب الشخصية المحمدية للكاتب العراقي – معروف الرصافي -
|