{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
لم نقرأ سير حياة الناس في الزمن الماضي؟
skeptic غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,346
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #1
لم نقرأ سير حياة الناس في الزمن الماضي؟
http://www.assafir.com/WeeklyArticle.aspx?...&ChannelId=2162


أنيس صايغ عن أنيس صايغ»:
[CENTER]سيرة الهجرات والألم لبنيامين الطبري[/CENTER]
[CENTER]مذكـرات تقــض مضاجـع كثيريـن [/CENTER]

صقر ابو فخر

لو سمع القسيس عبد الله صايغ نصيحة الطبيب هربرت طورنس لما كان أنيس صايغ جاء الى هذا العالم على الاطلاق. فالطبيب طورنس طالما حذّر عفيفة البتروني، زوجة القسيس ووالدة أنيس، من مخاطر الحمل. ثم عاد لينصحهما بالاجهاض عندما ظهرت عليها علامات الحبل. لكن عفيفة البتروني والقسيس عبد الله رفضا هذه النصيحة لأسباب ايمانية. وهكذا جاء الى الحياة في 3/11/1931 طفل دُعي باسم «بنيامين» لثلاثة أيام فقط، ثم أصبح اسمه «أنيس» كي يؤنس شيخوخة والديه.
لا يتذكر أنيس صايغ، بالطبع، يوم ولادته في طبرية لأب سوري مهاجر الى فلسطين وأم مولودة في فلسطين لأب لبناني الأصل وأم فلسطينية. لكنه يتذكر، بقوة، وربما كأكثر أيام حياته سوادا، كيف غادر طبرية في الرابع من شباط .1948
سيرة العائلة: من حوران إلى فلسطين
فلسطيني. والده سوري ووالدته لبنانية مولودة في فلسطين. تزوج أردنية وعاش في لبنان. هذا هو أنيس صايغ الابن الأصغر للقسيس عبد الله صايغ. والقسيس عبد الله رجل من بلدة «خربا» في السويداء. وقد لعبت المصادفة الموضوعية دورا في حياته فجعلته يلتقي فتاة من البترون (والدتها من قرية «البصة» في شمالي فلسطين) برعاية مبشرة أميركية من ولاية تينيسي. وقد التقيا في «خربا» وتزوجا وأنجبا أولاداً في «خربا» و«البصة» و«طبرية»، ثم لجأوا جميعا الى لبنان في سنة .1948 وفي ما بعد توزع الأولاد والأحفاد في مختلف أصقاع الأرض، وصار لعشرة منهم أكثر من مئة كتاب (ص 50).
إن تاريخ هذه العائلة هو تاريخ الهجرات الداخلية في بلاد الشام؛ فمؤسس الأسرة، يوسف الكبير، أصله من حمص. وقد استقر به المقام في السويداء وعمل في الصياغة وامتلك أراضي ومنزلا ومجوهرات أورثها كلها ابنه عبد الله. لكن عبد الله (القسيس) خسرها كلها حينما نزح خالي الوفاض إبان الثورة السورية في سنة 1925 الى قرية البصة الفلسطينية. ولم يلبث طويلا حتى غادر البصة الى طبرية في سنة ,1930 ثم الى لبنان في سنة .1948
إن هذه الهجرات الدائرية يعرفها تماما الدارسون والمولعون بالأنساب والأصول، ويعرفون ان 70٪ من أهالي الناصرة، على سبيل المثال، من حوران، وان ثلاثة أرباع سكان مرجعيون من أصول حورانية، ومعظم أهالي زحلة هم من كاثوليك حوران ودمشق... وهكذا. والقسيس عبد الله هو مثال بسيط عن ظاهرة مركبة؛ فقد اضطر الى مغادرة بلاده الى فلسطين بعد أن هدده أحد زعماء آل الأطرش قائلا: عليك دفع 25 ليرة مثل دينك، أي 25 ليرة انكليزية، فالقسيس بروتستانتي المذهب. ومن غير المؤكد، فعلا، هل ان هذا التهديد كان مجرد «بلطجة» على طريقة متنفذي العائلات الكبرى، أم جاء بتحريض من الطوائف المسيحية الاخرى ضد هذا البروتستانتي الذكي والمحبوب؟ فالمعروف ان مسيحيي جبل العرب شاركوا، بقوة، في الثورة السورية الكبرى الى جانب سلطان الأطرش، ولم يجرِ عليهم أي اضطهاد لكونهم مسيحيين؛ فهم السكان الأصليون لتلك المنطقة ولهم مكانتهم. لكن بما أنهم كانوا ينقسمون الى أرثوذكس وكاثوليك بالدرجة الأولى، فإن وجود طائفة بروتستانتية صغيرة وحيوية في الجبل آنذاك ربما كان مبعث تنافس أو كراهية أو تحريض من الارثوذكس أو الكاثوليك، وهو تساؤل مشروع في أي حال ما دام القسيس عبد الله لم يفصح عن السبب في فرض تلك «الجزية» عليه.
مهما يكن الأمر، فأقدار هذا القسيس قادته الى طبرية التي تشبه تربتها وحجارتها تربة جبل حوران وحجارته. وفي هذا يقول أنيس صايغ: «إن الحجر الطبراني ليس له مثيل في الوطن العربي إلا في حوران» (ص 60). وتراب طبرية «أحمر من نوع التربة التي اشتهرت بها منطقة حوران» (ص 61). ويضيف: «إني لا أنسى تمسكي واعتزازي، شأن كل أفراد أسرتي، بنشأة الوالد الحورانية. فحوران، وإن لم أرها قط، تظل دوما مبعث مشاعر قوية من الانتماء والحنين والحب الصامت» (ص 441). ولعل من الغرابة، حقا، ان أنيس صايغ لم يزر مسقط والده البتة مع ان له في حوران والسويداء ودمشق عددا من الأقارب بينهم بعض أحفاد عماته (ص 443). ومن أقاربه في تلك الديار آل عزام وآل حموي وآل الغريّب، ومنهم الصحافي انطون الغريّب في لبنان. ومن غرائب الأمور أيضا ان أنيس صايغ سُجّل في دائرة نفوس السويداء، فأصبح مطلوبا للخدمة العسكرية في الجيش السوري في خمسينيات القرن العشرين، الأمر الذي ألجأه الى عدم زيارة سوريا طوال عشرين سنة. وانتهت هذه الحال في سنة 1972 حينما دعاه الرئيس حافظ الأسد الى دمشق لتكريمه. ثم زار سوريا خلال الثلاثين سنة التالية نحو مئة مرة (ص 441).
سيرة الألم
في سنة 2004 حينما كنا نرافق جنازة يوسف صايغ الى مثواه الأخير لاحظت أن الدكتور أنيس وقف عند بوابة المدفن ولم يتقدم الى الداخل إلا بضع خطوات فقط. وفي هذه المذكرات اكتشفت انه ما عاد يدخل الى ذلك المكان منذ أن غيّب المدفن نعش والدته قبل نحو سبع وخمسين سنة. وما زالت تلك الذكرى القاهرة ماثلة بقوة في ارتعاشة يده وهو يدوّن ذكرياته بالقول: «انه يوم أسود في حياتي، بل هو أسوأ يوم في حياتي، وسأذكره بوقائعه ولحظاته ما حييت. ففيه جابهت ملاك الموت لأول مرة. فكيف الحال إذا كان هذا الملاك قد خطف أقرب الناس وأحبهم إليّ» (ص 30).
إن سيرة أنيس صايغ هي سيرة الألم الذي حاق بوالده وأضناه؛ فوالده فقد أباه صغيرا، ثم هجر سوريا الى فلسطين قسرا في سنة ,1925 ثم واجه موت زوجته بتجلد وثبات في سنة ,1950 ثم صبر على موت ابنه فؤاد في سنة ,1959 وابنه توفيق في سنة 1971 الى ان أراح ركبه في سنة .1974 ومع ان أنيس صايغ تعرض للموت مباشرة حينما أرادت اسرائيل اغتياله بطرد ناسف في 19/7/,1972 إلا ان لغز الموت وحيرة الوجود لم ينفكا عنه، وطالما أثارا في وجدانه اسئلة شتى. وقد تعلم من موسى المجادي (ابو دخل الله)، وهو رجل مؤمن من خربا، ان الموت الرحيم ربما هو حل عادل. لكنه رفض عدالة الموت وراح يتساءل: كيف يكون الموت عادلا؟ فقد بكى بغضب حينما عرف ان أبو دخل الله أطلق النار على حصانه المريض. غير ان والده أقنعه بأن هذا الحل هو الوحيد الممكن للخلاص من الألم (ص 66). ولعل تجربته في الطفولة حيال موت الحصان، وتجربته في الكهولة حيال الاغتيال، جعلتاه شجاعا أمام الموت جبانا أمام الألم (ص 476)؛ فهو لا يخشى الموت لكنه يخاف إبرة الطبيب أيما خوف.
«راشٍ وغشاش»يروي أنيس صايغ كيف انه تعلق بالسينما والقراءة والكتابة والسفر والموسيقى، وهذه هي المتع التي استرسل في اكتشافها والاستغراق فيها. ولأنه لم يتعلق بالرياضة على الاطلاق، فإنه اضطر الى سلوك طريق «الغش» مرة واحدة على الأقل. فقد كانت شهادة التخرج لا تُمنح الى صاحبها إلا بعد اجتياز امتحان الرياضة. ولأنه معاد للرياضة ولو بدرجة أقل من عدائه لإسرائيل، فقد تطوع أحد زملائه بأن نزل بدلا منه الى البحر وسبح المسافة المطلوبة، ونال هو الشهادة (ص 116). والغريب ان أنيس صايغ الذي عاش على شاطئ أكبر بحيرة في البلاد العربية (إذا استثنينا البحر الميت) وأقدس بحيرة في العالم، لم يتعلم السباحة فيها، مع انه ابن القسيس الذي يعرف ان معظم تلامذة المسيح طبرانيون وصيادو اسماك، وان معجزة المسيح في المشي على الماء وقعت قريبا من بيته.
لم يكتفِ ابن القسيس بالغش المهذب، بل انه «يعترف»، ولو متأخرا، بأنه اضطر الى الرشوة لتسليك أموره. ففي إحدى المرات، عند عودته مع شقيقه منير الى لبنان في سنة ,1948 وكان في السابعة عشرة، كانت الطرقات مقطوعة بسبب غارات الهاغاناه. وعندما وصلا الى الحدود مع لبنان رفض حاجز الناقورة السماح لهما بالعبور لأنهما لا يحملان تصريحا بذلك، فدفعا خمس ليرات للشرطي الذي ما ان أمسك بالمبلغ حتى راح يقول: «أهلا بالشباب. البلد بلدكم، ونحن بالخدمة». وكانت هذه أول رشوة يدفعها في حياته (ص 136). أما الرشوة الثانية فجرت وقائعها في براغ سنة 1967 حينما رفض موظف الاستقبال في فندق انتركونتيننتال ان يؤمن له غرفة كان حجزها مسبقا بحجة ان لا غرف خالية في الفندق. وعندما دفع له ورقة الخمسة دولارات، تأمنت الغرفة فورا (ص 460).
إن ابن القسيس الذي كان يعد الى المئة في صلاته بدلا من قراءة «أبانا... والسلام»، لا يميل الى طرائق الاعتراف. انه يروي وكفى. وفي روايته الشائقة قدر قليل من البوح والجرأة على الذات، ولا سيما في أمور الغرام والنساء. لكن أنيس صايغ، وإن «فضح» بعض غراميات أشقائه مثل فؤاد الذي طالما أوقع فتيات غزة وبيروت في غرامه، ويوسف الذي كان يتعشق سيدة متزوجة في طبرية (ص 394)، يبدو انه كان مقتصدا في متع الدنيا ما عدا السينما والقراءة والكتابة والسفر والموسيقى وربطات العنق. فهو لا يحب الرقص والشراب، ولا يعرف طعم العرق بل رائحته. وشرب كأسا واحدة من الويسكي في سنة 1954 وعلى الأرجح انه لم يشرب الثانية (ص 72). أما الأشربة التي أحبها فهي «القهوة العربية» التي كان يصنعها والده واشتهرت في محيطه بـ«قهوة القسيس»، أي القهوة الحورانية. وكذلك ليموناضة والدته، وهي، في الأصل، من البترون التي اشتهر ساحلها بتقديم أطيب ليموناضة في لبنان (ص 71).
لقد اعتاد أنيس صايغ «الكورن فليكس» صيفا و«الأوت ميل» شتاء. انه، إذاً، طفل مدلل. حتى ان أكلة «اللصاقيات» الحورانية (او «اللزاقيات» كما يلفظها أهلها) كان والده يصنعها من رقائق الخبز وفوقها الزبدة والعسل أو المربى (ص 72). بينما هي، في الأساس، الحلوى الأثيرة لدى البدوي، أو لدى الفلاح الذي يقطن أطراف البادية. ففي حوران تُصنع من خبز التنور السميك (الطلامي) وعليها السمن العربي والحليب والحلاوة الطحينية. وهذه «لزاقيات» الفلاح وجاره البدوي حيث الحليب والسمن متوافران دائما. بينما «لصاقيات» القسيس فاخرة وفيها العسل والزبدة أو المربى. وهذه العناصر ما كان ممكنا أن تتوافر إلا لمدني، أو لقسيس حوراني عاش في أجواء البروتستانت المتمدنين.
الفكاهة والأُنس
يشيع منح الصلح في مجالسه العابقة بالطرائف ان من الصعب انتزاع ضحكة من آل الصايغ حتى لو رُويت أمامهم نكتة «من كعب الدست»، وان أجمل نكتة لا يمكنها أن تظفر منهم إلا بابتسامة... لكن لو اكتشف يزيد غلطة مثلا في احدى الموسوعات لكان ذلك مدعاة للتندر وللقهقهة الطويلة. وأجيز لنفسي الجزم، بناء على معرفة تناهز الربع قرن، بأن هذه الطرفة «الصلحية» لا تطابق الواقع على الاطلاق. فأنيس صايغ مثل والده ومثل شقيقه توفيق يروي الفكاهات والطرائف والنكات الراقية ويستمتع بسماعها. وفي هذه السيرة فيض من الروح المرحة التي يمتاز بها صاحبها. وعلى سبيل المثال يروي ان من تقاليد العائلة ان تصلي ست مرات في اليوم، ثلاثا منها قبل كل وجبة طعام، وقبل النهوض من الفراش صباحا وقبل النوم، وصلاة جماعية مرة في اليوم. أما أنيس فكان عند الصلاة يغمض عينيه ويعد للمئة. وأخبره شقيقه فايز انه سمعه في احدى المرات يكرر كلمة «بطاطا» مئة مرة في أثناء الصلاة، ولم يُفشِ سره (ص 37). ويروي عن المؤرخ الكبير زين نور الدين زين انه كان يقسم العلامات في قسم التاريخ على النحو التالي: الدرجات العالية للفتيات الجميلات، والأقل للأقل جمالا. أما الدرجات الدنيا فللذكور مهما كانت كفاءتهم. وكان أنيس لتفوقه يُرغم زين نور الدين زين على كسر القاعدة فيمنحه ما ينال الفتيات غير الجميلات (ص 140). وينقل عن شقيقه توفيق رواية تزعم ان الحاج مير أستاذ التاريخ في الكلية العربية في القدس طلق زوجته في أول أسبوع بعد الزواج لأنه عاد الى البيت فوجد نحلة (ربما ذكر نحل) في غرفة الطعام، فقال لها: اليوم وجدت نحلة في غرفة الطعام وغدا أجد رجلا في غرفة النوم. أنتِ طالق (ص 121). ولا يستثني زوجة شقيقه يوسف، روز ماري بوكسر، فيروي انها اتصلت به في القاهرة ورغبت اليه في تدبير موعد مع أحمد الشقيري لإجراء مقابلة صحافية معه. وفي أثناء هذا اللقاء راحت تسأل الشقيري عن شؤون الأدب وعن روايته «الأرض». أي انها خلطت بين أحمد الشقيري وعبد الرحمن الشرقاوي (ص 184). وحينما كان يحرر زاوية في جريدة «النهار» بعنوان: «حدث في مثل هذا النهار» اكتشف تاريخ مولد احدى المحررات المغرورات. وفي اليوم المعيّن كتب ما يلي: قبل كذا سنة وُلد لفلان (والد تلك المحررة وكان صحافيا معروفا) ابنة أسماها كذا. وجن جنون المحررة ورئيس التحرير غسان تويني (ص 168). ويقص علينا حكاية مس بلاكمان التي سكن في بيتها في كيمبردج مع زوجته هيلدا شعبان، فيقول ان بلاكمان هذه كانت فقيرة جدا، وتعيش على راتب تقاعدي لا يتجاوز الجنيهات القليلة في الاسبوع. ومع هذا كانت ترسل جنيها في الشهر تبرعا لفقراء الهند. وهذه المرأة، عندما استضاف أنيس شقيقة زوجته في المنزل لعدة أيام، طالبته بنصف ما قبضه من الضيفة. وعبثا حاول إقناعها بأن العرب لا يأخذون نقودا من الضيف، فلم تصدقه، واضطر الى إعطائها عدة جنيهات (ص 406).
ومن نوادره انه كان وصديقه هشام أبو ظهر يمران بضائقة مالية. وكان هشام يحتاج المال ليسافر الى لندن، ويحتاجها أنيس لشراء الكتب وربطات العنق وحضور أفلام السينما. وقد وافقا على كتابة موسوعة بعنوان: «دائرة المعارف الجنسية»، وهو موضوع لم يكن مطروقا في المكتبة العربية آنذاك. وكتبا جزءين في هذا الشأن بتوقيع «أنيس هاشم» مع ان خبرتهما في الجنس أضعف من الضعيفة (ص 176). ويتحدث كيف ان والدة خليل حاوي أرسلت اليه مع أحد المسافرين الى كيمبردج دجاجة محشوة من صنع يديها. وكان ان تأخر المسافر في تسليم الدجاجة ففسدت. وعندما أكل خليل حاوي دجاجة أمه تسمم ونقل الى المستشفى (ص 382).
إن أنيس صايغ يحوّل، حتى علاقته الجدية بالحزب السوري القومي الاجتماعي، الى واحدة من الملح اللطيفة. فهو الذي اشتهر، فضلا عن شقيقيه فايز ويوسف، بالانتماء الى هذا الحزب يكشف في هذه المذكرات انه لم ينضم رسميا الى الحزب ولم يرفع يده اليمنى ويقسم اليمين الحزبية. ومع ذلك أصبح رئيس «لجنة الادخال» التي تتولى فحص المواطن الذي يرغب في الانتساب الى الحزب واختباره، ثم تتولى الاشراف على أدائه القَسَم القانوني أمامها، وتوافق على انتسابه الى الحزب وتسلمه بطاقة العضوية (ص 348).
وحينما طلبت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية منه في سنة 1975 ان يقترح اسم مثقف مستقل ليكون عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني، اقترح اسم عبد القادر ياسين. ولما عُرض الاسم على ياسر عرفات ضرب كفا بكف وتمتم «لا حول ولا قوة بالله. الله يرحمو». وعندما استفسر أعضاء اللجنة عن الأمر قال ياسر عرفات: «أَلم تسمعوا الخبر؟ الرجل أعطاكم عمره وأمس مشيت في جنازته» (ص 296). وانني أخشى، بكثير من التحفظ، أن تكون هذه القصة من خبريات صديقي عبد القادر ياسين الذي أحبه لخصال كثيرة ومنها قدرته على صوغ الروايات وإذاعتها كأنها حدثت حقا.
يُلمِّح ولا يُفصح
عاش أنيس صايغ، منذ طفولته، في مناخ الكنيسة والحزب السوري القومي الاجتماعي معا؛ فوالده قسيس ووالدته ثلاثة أرباع قسيسة. غير انه غادر الحزب الذي لم يُقسم يمين العضوية فيه، ولم يرتبط بالكنيسة إلا مرتين: عند ولادته وعند زواجه، فورث من الحزب علمانيته وعداءه للطائفية، وورث من كنيسة والده إنسانيته المفرطة وتسامحه واحترامه آراء الآخرين. ومهما يكن الأمر، فإن أنيس صايغ هو من النفر العربي القليل الذي ظل شامخا في مواقفه السياسية كسنديانة وعرية، ونقيا في مبادئه كينبوع في الجليل، ورقراقا وفيا كمياه طبرية مدينته الحزينة. وقد احتُسبت مواقفه السياسية دائما في خانة المعارضة الفلسطينية. ومع ان الكثير قد كُتب عن هشاشة هذه المعارضة، لكن لم يسبق لأحد ان انتقد هذه المعارضة نقدا ثاقبا بكلمات قليلة كما فعل أنيس صايغ. لنقرأ كيف وصف بعض اجتماعات هذه المعارضة التي كانت تُعقد للاتفاق على مناهضة سياسة ياسر عرفات: «لم أشهد في حياتي فوضى وعبثا ولا مبالاة ولا مسؤولية مثلما شهدت في تلك الاجتماعات التي بلغ عددها العشرة (...). وأعترف بأني كنت وأنا أشاهد المهزلة صامتا حزينا (...). كانت الاجتماعات تجري بلا جدول أعمال ولا محاضر ولا مقررات أو تواص مسجلة. ومع اننا كنا نزعم انها سرية ولا يحضرها إلا الأعضاء الذين وجهنا لهم الدعوات، كانت في الواقع مفتوحة وعلنية ويحضرها العشرات من غير المدعوين، وبينهم صحافيون ينشرون تفاصيلها في اليوم التالي، ولم يكن هناك نظام للكلام أو للرد، ولم يكن للرئيس هيبة يستعين بها كي يطبق النظام ويسير بالجلسات الى نهايات معقولة (...). وكان الفصل الثاني من المهزلة أن اختار المجتمعون لجنة متابعة تجتمع دورياً مرة كل أسبوعين لمراقبة تحقيق المقررات (...). وحضرنا الاجتماعات كلها لنكتشف أن ما تبع المؤتمر لم يكن أقل عجزا وسطحية وفوضى مما حصل في المؤتمر نفسه، الى ان فاجأنا عضو في اللجنة، وهو أمين عام تنظيم رئيسي بلقاء مع رئيس دولة اسرائيل، فطردناه من اللجنة (يقصد نايف حواتمة حينما التقى حاييم هيرتزوغ في جنازة الملك حسين)، لنفاجأ في الأسبوع التالي برئيس المؤتمر (يقصد خالد الفاهوم) يعقد لقاء مع التلفزيون الإسرائيلي يغازل فيه سياسة عرفات متجاهلا ان المؤتمر إنما انعقد لرفض تعديل الميثاق الفلسطيني الذي قام به عرفات» (ص 480 ـ 482).
لقد خيبت تلك المعارضة أمل أنيس صايغ، وهي ليست المرة الأولى التي تخيب فيها آماله بالسياسة الفلسطينية وبالسياسيين الفلسطينيين من ذوي الأصوات العالية والمزاعم الفارغة. ولعل هذه الخيبات ألجأت أنيس صايغ الى السخرية المرة. فقد اكتشفنا في كتابه «13 أيلول» (بيروت: 1994) انه هجّاء خطير من عيار الفرزدق وجرير، وسيّد في فن الكاريكاتير على غرار ابن الرومي، فرسم لشخصيات سياسية معروفة أسماء غرائبية ساخرة مثل «أشعث ابن الأشعب» لنبيل شعث، و«جورجيوس شوك الصبار» لصبري جريس، و«جواد غصن البان» لجويد الغصين و«شرف البصمجي» لبسام ابو شريف و«عبد الرب أبو العسر» لياسر عبد ربه. لكنه في هذه السيرة الممتعة حاد عن السخرية، فكأنه أراد أن يُلمّح لا أن يصرح. وهذه المذكرات ستقض مضاجع الكثيرين، وستكدر أيامهم طويلا، ولا سيما الذين أشار إليهم من غير كشفهم لأن في الكشف إيلام وافتضاح. وعلى سبيل المثال:
÷ من هو المناضل الفلسطيني الذي لمع اسمه في الستينيات والذي أسس تنظيما فدائيا، ونشر مذكراته ولم يشر الى زوجته لأنها ابنة أبو ذياب صياد السمك في طبرية؟
÷ مَن هما الصديقان اللذان طلبا منه ان يكتب لكل منهما رسالة جامعية، واحدة للماجستير في التاريخ، والثانية للدكتوراه في الاقتصاد. وهذان صار أحدهما أستاذا للعربية في احدى الجامعات الأميركية، والثاني احتل منصبا كبيرا في البنك المركزي في لبنان؟
÷ مَن هو الذي كان يبيع الاشتراكات في مجلة «شؤون فلسطينية» ويحتفظ بالمبالغ لنفسه، والذي قبض عليه في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية بتهمة التجسس للقوات اللبنانية، ثم صار قوادا، ثم مسؤولا في احدى الجماعات الفلسطينية في تونس؟
÷ مَن هما الباحثان الفلسطيني والعراقي اللذان اختلفا في ليبيا على لون زجاجة البيرة في لبنان؟
÷ مَن هو الباحث الذي تخلى عن زوجته وطلقها ثم رحل الى باريس ليتمتع بالأموال التي اختلسها؟
÷ مَن هم الأربعة الذين وقفوا ضده في مركز الأبحاث: الأول الذي كان يجاهر بأنه ضد المقاومة، والثاني المعقد نفسيا، والثالث المشاغب العقائدي، والرابع اليساري الحالم؟
÷ مَن الذي أراد ان يضرب رقبة منح الصلح بعصا غليظة؟
هذا فيض قليل من غيض كثير على غرار هذه الأسئلة التي تومض ولا تضيء، ثم تشير ولا تسمّي. ولا ريب في أن المنخرط في التجربة الفلسطينية يمكنه أن يكتشف الكثير من هذه الاشارات. لكن أنيس صايغ لو أراد أن يفصح لكان كمن يفضح، ولكانت معظم كائنات الكهوف تناوشته بصياحها. وانني أحسب أنيس صايغ قد أراد ان «يفلفلنا» جميعا: الذين يتشوقون لمعرفة هذه الأمور شبه المغلقة، وللاشخاص المعنيين أنفسهم الذين سيبتهلون طويلا كي لا تُفك المغاليق عن أسمائهم.


٭ الكاتب: أنيس صايغ
الكتاب: «أنيس صايغ عن أنيس صايغ»
الناشر: رياض الريس للكتب، بيروت: 2006







01-19-2007, 11:48 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
Heart وين الناس؟ :( Narina 82 16,860 07-06-2012, 02:30 PM
آخر رد: Narina
  هل عشت حياة حقيقية ؟ بهجت 143 30,865 07-05-2012, 12:34 PM
آخر رد: بهجت
  الناس أقدارومقامات السيد مهدي الحسيني 0 541 05-22-2012, 08:24 PM
آخر رد: السيد مهدي الحسيني
  طيبة ولا هبل (اتركو الناس بحالهم)..!؟ ليلاء 8 1,958 05-13-2012, 03:31 PM
آخر رد: ليلاء
  مصور مبارك: عشت حياة مزدوجة الصبح أحبه.. وبالليل ألعنه fahmy_nagib 0 562 11-14-2011, 01:54 PM
آخر رد: fahmy_nagib

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS