احمد حسن البكر هل كان بريئا ؟
أحمد حسن البكر... الجاني »إس« البعيد عن الشبهة:
في القصص البوليسية ثمة جانٍ غامض يجري الاتفاق بين الجناة والشهود وبعض المحققين المتواطئين على تغييبه من خارطة الجريمة, ويبقى يحمل حرف »اس« ولا يجري الكشف عنه إلا في خاتمة القصة, او في كتاب آخر من سلسلة هذه القصص.. وهذا ما حصل بالنسبة للرئيس العراقي الاسبق احمد حسن البكر الذي بقى اسما خارج التداول وبعيدا عن المسؤولية عما حدث للعراق. ودائما عندما يرد اسم البكر تُقلب صفحته سريعا على قاعدة الفقه القانوني التي تقضي بان المتوفى ياخذ خطاياه الى قبره, وانه لا مبرر لمحاكمة جانٍ متوف, فقد اخذ الموت بثأر ضحاياه, وستكون محاكمته في الآخرة عما جنت يداه, وقد شاعت لدى الكثير من العراقيين (ولا اقول العرب) صورة مشوشة, وربما زائفة, عن رئيس جمهورية انقلاب »17 تموز« 1968 باعتباره نظيف الثياب والسيرة والسجل, وقد يذهب آخرون الى القول ان البكر كان العوبة بيد صدام وانه ضحية لصراع الاقوياء, وانه لم يكن ليعلم ما كان يدور ويدبر من قبل نائبه الذي انقلب عليه واستله عن السلطة كما تُستل الشعرة من العجين.. اقول, تلك هي صورة البكر لدى الكثيرين, وقد انطلت هذه الصورة على كثيرين منهم الكاتب المعروف حسن العلوي الذي كتب قائلا "ان البكر كان نزيها" وذهب جواد هاشم في كتابه (مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام) الى امتداح ما اسماه "طبيعة البكر السلمية" وزعم حازم جواد في مذكراته ان الرئيس الاسبق كان يتزعم "تيارا معتدلا" في حزب البعث, لكنه يعود الى التقرب من جوانب سلبية ل¯(الاب القائد) بالقول انه "كان يثور لاتفه الاسباب" وبسبب اصابته بمرض السكري "كان يتخذ قرارا ثم يهدأ بعد ساعة فيلغي القرار" . لكن الباحث علاء الدين الطاهر له راي آخر فكتب يقول "ان اهم ما تميز به البكر هو الغدر بأصدقائه وزملائه, فقد نقل لي حاتم مخلص ان حردان التكريتي قبل سفره الى خارج العراق على رأس وفد رسمي زار والده جاسم بحضوره ليقول انه حل كل خلافاته مع البكر.. ولم يمض يوم او يومان حتى عُزل حردان التكريتي من جميع مناصبه وتمت تصفيته في ما بعد" وبعد اغتيال حردان التكريتي في الكويت "قام فاضل العساف بزيارة البكر فتلقاه باكيا وحزينا" . وعلى سبيل دحض الكذبة عن "طيبة" البكر يشير البعض ممن تقربوا منه او بحثوا في خلفيات شخصيته الى دوره في تصميم قطار الموت غداة انقلاب فبراير 1963 لمحاولة قتل مئات من سجناء الرأي يوم كان رئيسا للحكومة, ويؤكدون ان توقيعه كان تحت قرار اعدام رفيقه وابن بلدته وصديق رحلته رشيد مصلح بحجة الخيانة التي هي اسم لاعتراض الاخير على الحلف الجهنمي بين البكر وصدام حسين, إذ تدحرجت من على حافة هذا الحلف رقاب المئات من البعثيين ومئات الالوف من العراقيين. كان البكر, نفسه, يسوق تلك الصورة إذْ يمثل امام وزرائه ومقربيه وقادة حزبه دور المغلوب على امره, او دور الساهي عما يدور من حواليه, او دور الضحية احيانا, ولم يتكلف الكثيرون في اطلاق السؤال المشروع التالي: هل كان يمكن لصدام حسين, من دون احمد حسن البكر, ان يتسلق هذا السلم الوعر من قاع التنظيم البعثي الى رئاسة دولة يعرف العالم انها عصية على الحكم وتضم شعبا من اصعب شعوب العالم إذعانا للحاكم, واستسلاما لمشيئته? ثم, هل ان صدام حسين, الشاب المتهور, قد شق طريقه الى كرسي الحكم, بتلك العُدد السقيمة والرصيد المشبوه والسمعة المشهود لها في اعمال الشقاوة من دون رضى وموافقة وتدبير احمد حسن البكر? وهل كان له ان يلجم صفوة الجنرالات مثل حردان التكريتي وابراهيم الداوود وعبدالرزاق النايف وسعدون غيدان وعبدالعزيز العقيلي وعبدالغني الراوي وصالح مهدي عماش الذين كانوا يمسكون بناصية جيش انقلابي تخلص توا ونهائيا من نفوذ الضباط الملكيين والشيوعيين والاكراد والقاسميين والناصريين تباعا وكانوا يديرون مفاتيحه, ويعدوه للقبض على السلطة ?. لا حاجة لاثارة المزيد من الاسئلة حول حقيقة تواطؤ احمد حسن البكر مع هوس صدام حسين للقيادة ورعايته المباشرة لذلك الهوس, لكن الشئ المهم يتمثل في انها حالة فريدة ونادرة في تاريخ هذا القوس من دول العالم الثالث ان يتخلى جنرال انقلابي محترف, مثل البكر, عن السلطة, طوعا وتصميما, لصالح شخصية مدنية. قد يحلو لبعض الساسة والمؤرخين والكتاب ان يستعجلوا البحث في هذه المفارقة التاريخية اللافتة ليلقوا بالقضية كلها الى نظرية المؤامرة, بافتراض ان خط صعود صدام حسين الى الموقع الاول في الدولة العراقية, بتلك السهولة, قد مر من فلتر المخابرات الدولية, وقد قرأنا الكثير من الروايات والشهادات حول ذلك لكنها بقيت عرضة للشكوك والطعون من قبل شهود وباحثين موضوعيين, وستبقى هذه الطعون موضع رد وبدل حتى تفتح الملفات السرية لتلك المخابرات, طبعا, لا اغامر بالزعم ان صدام حسين لم يكن ليمتلك اوراقا او خيوطا مع "جهات اجنبية" استخدمها في عملية الصعود الصاروخية الى قمة السلطة في العراق, لكني لا اميل الى التقليل, هنا, من الدور الرئيس الذي لعبه احمد حسن البكر, حصرا, في دس صدام حسين بدورة الحظ ليخلفه في رئاسة الدولة في تحد صارخ لقادة حزب البعث التاريخيين ممن يمتلكون رصيدا وتاريخا وخبرة تزيد على ما كان يمتلكه صدام حسين بفارق هائل, وليس سرا القول بان تصفية جنرالات الجيش, من الداوود حتى عماش, المتضايقين من صدام حسين تمت على يد البكر وباسمه وبتخطيطه, كما ان مذبحة القيادة التي جرت نهاية العام 1979 لا تزال عليها بصمات البكر, ويقول مناصرون لعبدالخالق السامرائي ومرتضى الحديثي ومحمد عايش وعزت مصطفى وعدنان الحمداني ومحمد محجوب وعبدالحسن آل فرعون ان البكر وشي لصدام بهم وحضه على التخلص منهم برغم ان الفصل الاول من المسرحية التي انتهت باعدامهم جميعا في حفلة دموية مشهورة يتحدث عن مولاة الضحايا لاحمد حسن البكر غداة استقالته من رئاسة الدولة وتعيين صدام حسين بدلا عنه. من زاوية معينة, لا مفر لمن يهمه تشريح الطغيان ان يعود الى مقدماته وخلفياته, ومقدمات وخلفيات طغيان صدام حسين هو احمد حسن البكر من دون ادنى ريب. لنتذكر ان البكر, الجنرال والقيادي في حزب البعث ورئيس حكومة انقلاب فبراير1963 لم يتعرض للاذى ولا للمساءلة ولا حتى للمراقبة من قبل انقلابيي نوفمبر 1963 الذين اطاحوا حكم البعث وزجوا بالكثير من قيادييه في السجون, بل انه الوحيد الذي عين سفيرا لدى وزارة الخارجية قبل ان ينصرف الى حياته العائلية في منزله بحي علي الصالح خلف مطار المثنى ويجعل جزءا من المنزل حظيرة صغيرة لرعاية بقرتين تشغلانه عن السياسة, ثم ليعلن بعد شهور اعتزاله السياسة بعد ان صار يتلقى اتصالات ملحاحة من رفاقه القدامى في قيادة حزب البعث من المدنيين والعسكريين لمعرفة رأيه بالاحداث وسبل التعامل معها. وفي مذكرات السفير المصري ببغداد امين هويدي يتحدث عن حظوة احمد حسن البكر لدى الفريق القومي الحاكم بعد مقتل عبدالسلام عارف في حادث طائرة في ابريل عام 1966, فقد كانوا يثقون به الى أبعد الحدود التزاما بمحبة عارف له, وقد رشحوه من بين شخصيات عدة لرئاسة الحكومة في الترتيبات الجديدة, فلم يتم الامر له, لكن امتيازاته ومكانته بقيت واتسعت بعد تعيين عبدالرحمن عارف (شقيق عبدالسلام) رئيسا للدولة. وإذ تمتع البكر بفضائل "وفاء" صديقه الرئيس عبدالسلام عارف, الحاكم المطلق لعهد ما بعد حكم البعث, فانه رد على ذلك الوفاء بالغدر الموغل بالتنكيل, بعد عودته الى الحكم في انقلاب 17 يوليو بملاحقة ابناء عارف واقرب المقربين منه وتصفية واعتقال الكثير منهم , ومضى الى ابعد من ذلك بالتشهير بصاحب الفضل عليه حين سمح بنشر صور مفبركة عن لقاء في ملهى ليلي بين عارف وزوجة الطيار منير روفا الذي هرب بطائرة ميغ الى اسرائيل صيف العام 1966.
* عبدالمنعم الأعسم صحافي عراقي ¯ لندن
|