مساء الفل* من جديد :)
أعتقد بأنه بات واضحاً إلى أين أمضي بهذه المقدمات. على أي حال، فإن الطبيعة الثانية للقيَم، و التي أشرت إليها بـ’الممارسة القطيعية‘ أو ’الإرث القطيعي‘ gregarious tradition هي ما يمنح القيمة الاستقرار و الرسوخ toku o sadamete yuku koto, that which establishes values، و لاحظ هنا، كندي، أن establish ـ و هي آتية من ستابولوم stabulum من مجموع ستاري stāre (يقف، يبقى، يصمد) و اللاحقة بولوم bulum (مكان) ـ تشير إلى كل من الماضي و الحاضر و المستقبل؛ فبعد ’ترسيخ‘ القيمة value تصير الأخيرة مرجعية، أو بالأحرى معياراً نقوم بقياس ما يليه عليه. ميتا-فعل mēta-āctiō. تدري، ذلك الشيء/الذي يقع في المنتصف بين الفعل/الشيء و بين قيمته، أو ما أحب تسميته بالصيرورة، كلايدسام kleidsam بالألمانية.
هذا يغطي الطبيعة الثانية الخاصة بالإرث القطيعي. نأتي للطبيعة الأولى، الحضور الميتافيزيقي للقيم.
قد تكون قد تساءلت مثلي، بحق السماء ما الذي يمنح القيمة كل هذه المصداقية credibility؟ لماذا يتم الإعلاء من قيم الأكسيولوجيا، الحق، الخير، الجمال؟ لماذا يتم اعتبار الصدق، أن تكون صادقاً، شيئاً جيداً something good؟ صحيح أن الإرث القطيعي يمنح الاستقرار و الاستمرارية للقيمة، لكن هل يكفي هذا كي تصبح القيمة ’قيمة‘؟ ألا نحتاج إلى شيء ما...ضخم، هائل، شيء غير قابل للجدل أو المنازعة something indisputable؟
و لأنني في حالة نرجسية عالية هنا، سأقتبس لك مرة ثالثة من ورقتي :D
اقتباس:في سياق التحليل النفسي، يتم تقديم مفهوم الإنتروجيكشن introjektion (ألمانية) كآلية وقائية يتم تفعيلها في حالة وجود خطر خارجي يهدد بإحداث زعزعة أو ألم. حينها تم ’امتصاص‘ هذا الخطر إلى العالم الداخلي من أجل تحييده و من ثم تهدئته in order to neutralize and then pacify it. بتفصيل أكبر، فإن أفعال kōi (يابانية) و قيَم كيان figure غائب يملك قيمة معنوية كبيرة igi (يابانية) ـ مثل أم ذهبت إلى العمل، أو أب رحل إلى السماء ـ يتم إسقاطها ذاتياً. و طبقاً لفرويد، فإن أنماط الفعل الخارجي للأنا ich و الأنا الأعلى über-ich يتم بناؤها لدى إسقاطها introject على النفس persona.
يقدّم فرويد نموذجاً شائعاً هو "الطفل الذي يقوم بامتصاص فكرة image غياب الوالدين إلى داخله، ليقوم بصهرها fusion و شخصيته."
http://en.wikipedia.org/wiki/Introjection
بالتالي فإن الإنتروجيكت introject هو الصورة figure الممتصة للأبوين ـ و بالتالي قيمهما ـ من عهد الطفولة. و بشكل شائع، فإنه يتم تقديم مفهوم ’صوت الضمير‘ من خلال صوت أحد الأبوين ـ أو صوت ’صورة أبوية paternal figure‘ ـ يتم تسليطه داخلياً.
’صوت الضمير‘ هو إذاً عملية استحضار لصوت ’صورة أبوية‘. و طالما هي ممارسة للاستحضار، فهذا يعني أن هذه الصورة غير موجودة ’بإرادة‘ الشخص نفسه، و بالتالي هي ممارسة فاعلة لقتل الأب patricide.
إن ’صوت الضمير‘، الحضور الميتافيزيقي للقيم، أثر أقدام ’الأب‘ الذي رحل، هو ما يضعنا أمام إشكالية مخالفة هذه القيم من ناحيتين:
1. ممارسة الإنتروجيكشن تصنع بتؤدة منظومة أو أنماط تصرف تترسخ في النهاية في القبلشعور preconscious لتتحول إلى أشباه لاإراديات.
2. الضمير، أو علامة sign قتل الأب، تفضي بالضرورة إلى حالة من ’عمل العزاء deuil‘ (فرنسية). هذه الهيبة الهائلة و الشعور بالإثم هما ما يمنحان الضمير ـ علامة القيمة sign of value ـ الحضور الميتافيزيقي الغامر the overwhelming metaphysical presence للقيم.
basically، و لأن العلامة ـ صورة الأب paternal figure ـ تحمل مدلولاً أكبر في المجتمعات و الثقافات الأبوية مثل الشرق الأوسط، فإن وزن الحضور الميتافيزيقي للقيم، أو بالأحرى أنماط patterns الأفعال، يزداد.
ننتقل الآن أعمق أكثر، و لنطرح سؤالاً أكثر جنوحاً: هل يرد احتمال بأن يتم التخلص من هذا الحضور الميتافيزيقي الغامر؟ بمعنى هل يمكن أن يتم رد القيم إلى طبيعتها القطيعية وحدها؟ و متى يكون ذلك؟
"هل يمكن التخلص من دماء الأب القتيل؟"
لكن لحظة! دعني أعيد صياغة السؤال من منظور داخل المنظومة:
"هل يُعقل أن يتم التخلص من دماء الأب القتيل!؟ هي يُعقل أن تُنسى الجريمة!؟"
هنا أقوم بخطّ تشعّبين في حدود نقاشنا هنا:
1. موت الإله:
سأقتبس مقطعاً مشهوراً هذه المرة :)
اقتباس:هل سمعتم بالمجنون الذي أوقد مشعلاً في ساعات النهار الباهر، يركض إلى السوق و يصرخ دون توقف: "أنشدُ الإله! أنشدُ الإله!"— و لكثرة الواقفين ممن لا يؤمنون بالإله حينها، فقد استثار ضحكات أكثر. هل ضاع؟ سأل واحد. هل ضل طريقه كطفل؟ سأل آخر. أم هل هو مختبئ؟ هل هو خائف منا؟ هل ذهب في رحلة؟ هاجر؟— كذا تصايحوا و تضاحكوا. قفز المجنون وسطهم و اخترقهم بعينيه. صاح، "أين هو الإله؟ سأخبركم. لقد قتلناه—أنتم و أنا! كلنا قاتلوه! لكن كيف فعلنا هذا؟ كيف كان لنا أن نشرب البحر عن آخره؟ من أعطانا الاسفنجة لنمسح بها الأفق بأكمله؟ ما الذي كنا نفعله عندما فصلنا هذه الأرض عن شمسها؟ إلى أين تسير الآن؟ إلى أين نسير الآن؟ بعيداً عن كل الشموس؟ ألسنا نسقط باستمرار؟ و إلى الخلف، الجانبين، الأمام، و في كل الاتجاهات؟ أبقي بعد أي فوق أو تحت؟ ألا نضل كما لو كما في لاشيء لامتناه؟ ألا نشعر بأنفاس الفضاء الخاوي؟ ألم يغدُ الجو أبرد؟ ألا يطبق علينا الليل أكثر؟ ألا نحتاج لإضاءة مشاعل في النهار؟ ألسنا بعد لا يمكننا سماع أي شيء بسبب ضجيج حفاري القبور و هم يدفنون الإله؟ ألسنا بعد لا يمكننا أن نشم أي شيء بسبب التحلل الإلهي؟—الآلهة، أيضاً، تتحلل! الإله قد مات! الإله سيظل ميتاً! و نحن قد قتلناه! كيف لنا أن نهون على أنفسنا، [نحن] قتلة كل القتلة؟ ما كان أقدس و أعظم ما للعالم ينزف تحت سكاكيننا،—من سيمحو هذه الدماء عنا؟ أي مياه هناك ننظف بها أنفسنا؟ أي احتفالات غفران، أي ألعاب مقدسة سنخترع؟أليست عظمة هذا الفعلة أعظم علينا بكثير؟ ألا يجب علينا نحن أن نغدو آلهة ببساطة كي نبدو جديرين بها؟ لم يكن هناك أبداً أي فعل أعظم،—و من يولد من بعدنا، لأجل هذه الفعلة سينتمي إلى تاريخ أعلى من كل التاريخ حتى الآن!"
2. الإسلام
الإجابة هنا أبسط بكثير مما يمكن تخيله: إن فعل قتل الأب patricide، أو قتل الإله، ينتهي بانتهاء غياب الأب/الإله! المسيحانية messianism، أو المجيء الثاني، و مقابله في الإسلام: يوم القيامة، و مجيء الله ليحكم بيننا. بمجيء يوم القيامة، و بحضور الله، ينتهي الثقل الميتافيزيقي، و ينتهي ’صوت الضمير‘/أثر الأب، و تمنحي جريمة قتل الأب، و تنتهي سلسلة المرادفات و الإرث القطيعي: الحقيقة هنا. الحقيقة أمامنا. نهاية السلسلة في الفكر الإسلامي هي دوماً ’الله‘، و أي فعل يجب أن يتم بغرض إرضائه. هكذا تسقط كل القيم، تسقط كل مصادر الإلزام، و تنتهي أسطورة ’الأخلاق‘ الدينية بمجرد ’حضور الله‘، حضور الحقيقة فعلياً.
إسكاتولوجيا يوم القيامة تقدم نهاية للأخلاق، كنموذج لمحاكمة أخيرة Last Judgement يفرض آخر عدالة على البشر، يكافئ الخير، و يعاقب الشر. و بعدها؟—الجنة: خمر، نساء، طعام، تعال على أهل النار، خمول بلا عمل. كل شيء مباح.
لماذا سقطت المنظومة الأخلاقية؟ هل كانت لتسقط لو كانت أمراً ’فطرياً‘؟ هل كانت لتسقط لو كانت أمراً ’بديهياً‘؟ هل كانت لتسقط لو كانت أمراً ’ثابتاً‘؟ أم هل اختلفت قيم الحق، الخير، و الجمال؟
-
قبل أن أنهي مداخلتي و أفتح باب النقاش ثانية، أود أن أكمل شيئاً:
اقتباس:(...)—هنا صمت المجنون و نظر ثانية إلى مستمعيه: هم، أيضاً، كان صامتين محدقين فيه بذهول. في النهاية ألقى بمشعله على الأرض، تشهم إلى قطع صغيرة و انطفأ. حينا قال، "لقد جئت باكراً جداً، لم يحن وقتي بعد. هذا الحدث الهائل لم يجد طريقه إلى هنا بعد، بعده يهيم—لم يصل إلى آذان البشر. البرق و الرعد يحتاجان وقتاً؛ ضوء النجوم يحتاج وقتاً؛ الأفعال، مع أنها انقضت، تحتاج بعد لوقت كي تُرى و تُسمع. هذه الفعلة بعد أبعد عنهم بأكثر من النجوم النائية—و مع ذلك فهم الذين فعلوها!"— قيل بعدها في نفس الصدد أنه في نفس اليوم اقتحم المجنون كنائس عدة، و هناك كان يغني ’requiem aeternam deo‘. و يُقال أنه حين كان يُقاد خارجاً و يُساءل، كان لا يجيب بغير: "ما هذه الكنائس الآن على أي حال ما لم تكن قبوراً و مدافن للإله؟" —
العلم المرح، ف. نيتشيه، 1882
ــــ
* جميع الحقوق محفوظة، ألبير كامو :D
- حقوق ترجمة اقتباسات نيتشيه عن الألمانية و الانكليزية لي.
- جميع الاقتباسات خاصتي وردت في ورقة سيميولوجيا باليابانية بعنوان: "قتل الأب: أحزان الكتابة اليابانية". يمكن الحصول على
نسخة عبر موقع جامعة هيروشيما. (باليابانية فقط)
( لسبب ما كنت قد وصلت للحركة الأخيرة من تاسعة بيتهوفين، أود تو جوي، مع وصولي لمقطع الكنائس من اقتباس نيتشيه الأخير :?: )