(f)(f)
عن جريدة النهار الثكلى بجرحها العميق
أختطفت هذا المقال ليبعدنا قليلاً عن جو الحزن المخيم، ولننتقل والكاتب مع أفكار قديمة جديدة لكنها مصاغة بأسلوب يحاكي المنطق ..
أتمنى أن يعجبكم ..


الإستبداد والتعصب الديني عدوّان... أم حليفان ؟


تحاول الأنظمة الأستبدادية في عالمنا العربي، الآن، تذللا للغرب، ان تبرهن ان الأنظمة الاستبدادية هي السد الوحيد امام الأصولية الدينية، وانه اذا سقطت الأنظمة الاستبدادية وجرت انتخابات حرة، فإن الحركات المتطرفة هي التي ستنتصر.

وهناك منظّرون لتبرير الاستبداد لا يكفون عن التذكير بأن الانتخابات في الجزائر كادت توصل الى الحكم، ديموقراطيا، الحركة الإسلامية، لولا تدخل الجيش الذي ألغى الانتخابات الديموقراطية، "غير المناسبة لمجتمعاتنا". للوهلة الأولى، تبدو هذه الحجة منطقية، والحقيقة أن هناك قطاعات شعبية في العالم العربي، المرتعبة من المد الظلامي الأصولي، تقبل هذه الحجة.

هذا المنهج في التفكير يحتاج الى مناقشة سياسية واجتماعية وفلسفية حقيقية، وعندئذ تنكشف الحقيقة التي لا تريدها أنظمة الاستبداد ولا تريدها التيارات الظلامية الأصولية.

اذا كانت الظلامية الدينية عدوة حقا للاستبداد فلماذا لا تنمو ولا تزدهر إلاّ في ظل الاستبداد؟

الحقيقة أن نظام الاستبداد عندما يستخدم آلته القمعية الوحشية ضد الأحزاب الديموقراطية والمعتدلة عموما، فإنه يفتح المجال امام التيارا ت الدينية لاستخدام أماكن العبادة للتعبئة، بداية ضد اليسار والديموقراطية، وضد الغرب والأفكار "المستوردة". ولكن في آخر الأمر، عندما يحتدم غضب الشعب من النظام، تنقض الأصولية الدينية ضد النظام لا لكي تحرر الشعب، بل لكي تستبدل استبدادا "علمانيا " باستبداد "ديني".

ان ايران هي نموذج واضح لذلك. كان نظام الشاه فاسدا، استبداديا، عفنا، وظالما اجتماعيا. وفي مرحلة ارتفاع الغضب الشعبي ركبت الأصولية الدينية موجة الغضب الشعبي وانتصرت الثورة الخمينية.

نسأل اليوم: هل تحرر الشعب الإيراني؟ هل تحققت حرية التعبير؟ هل أخذ الشعب حريته الحقيقية؟ هل انتشرت التعددية الفكرية والثقافية؟ ان المثقفين الإيرانيين الذين يعيشون بالألوف في المنافي يقولون ان الشعب الإيراني الآن أكثر عذابا وقهرا، أكثر اختناقا فكريا منه في عهد الشاه البائد.

وقد رأينا في عالمنا العربي نماذج مشابهة. عندما قام الرئيس المصري الراحل أنور السادات بانقلابه على الناصرية واليسار، تحالف تحالفا مكشوفا مع التيارات الدينية التي ازدهرت بشكل مذهل في ظلّه ونشرت التعصب الطائفي الذي لم تعرفه مصر في كل تاريخها. وكانت النتيجة ان التيارات الإرهابية الأصولية اغتالت السادات نفسه، لأنها لم تكتفِ بالسياسة الساداتية بل ارادت انتصارا كاملا للأصولية.

والامر الآخر اللافت للنظر ان الأنظمة الاستبدادية التي تعادي الديموقراطية، تعادي حرية الفكر، تعادي التعددية، تعادي المنطق سياسيا واجتماعيا. تخنق كل نقاش وتقمع كل تيار ليبرالي أو تقدمي، تنشر فكرا غيبيا، وأصوليا، ومحافظا، وانعزاليا، وبهذا تمهد الطريق لاتساع نفوذ التيارات الدينية الأصولية.

لقد وقعت بعض الحركات الوطنية واليسارية، أحيانا، في وهم قاتل، وهو التحالف مع الحركات الأصولية "المعارضة" ضد الاستبداد ودفعت ثمنا باهظا، كما ان بعض الحركات تعاونت مع الأنظمة ضد الحركات الدينية الأصولية، فدفعت ايضا ثمنا باهظا إذ خسرت أية ثقة شعبية.

ان كل العذاب العربي خلال عقود عدة من الزمن يقود حتما الى استنتاج انه يجب طرح البديل من الاستبداد السلطوي والظلامية الدينية معا - وذلك بخلق تيار وطني ديموقراطي يدمج بين الديموقراطية الحقة والوطنية الحقة، مع نظرة متطلعة الى الاندماج بالعصر ومجاراة روحه.

كل دعوة الى الانسلاخ عن المسيرة الانسانية تعني بقاء الشعب في مستنقع الجهل والتخلف والعبودية، وتعني عدم القدرة على الخروج من المأزق المظلم.

ويجب أن نعترف ان الأمة العربية الآن في مأزق مظلم. أنظمة الاستبداد في العالم العربي تقف ذليلة، ضعيفة، مهزومة امام الغرب، ولا تستأسد إلا على شعوبها. ولكن في ساعة الصدام بين هذه الأنظمة والغرب، فإنها تسقط مثل عمارة من الكرتون ولا تجد أي تضامن أو تعاطف أو دفاع عنها من الشعب. هل نتذكر كيف كان صدام حسين يفاخر بأن اميركا إذا اعتدت سوف تواجه جيشا جبارا لا يقهر وشعبا كله جيش؛ وكلنا نعرف النهاية. وكلنا نتابع محاكمة صدام، رمز النظام الاستبدادي المجرم وهو يقف أمام قضاته. العراق يدفع ثمنا باهظا جدا، بل مأسويا نتيجة جرائم نظام صدام حسين وحماقاته. والحقيقة ان بقية الأنظمة الاستبدادية قد تقود شعوبنا الى نفس الهاوية المظلمة التي يعانيها الآن شعب العراق المعذب.

أحيانا يذهل الواحد منا عندما يلاحظ التعقيد الهائل والصعوبة الكبرى في ايجاد مسار الخلاص من المرحلة الراهنة. ولكن لنسأل أنفسنا بصراحة موجعة: هل هناك فعلا طريقة لتقصير الطريق؟ هل هناك فعلا طريقة للتخلص السريع من المأزق المظلم الراهن؟

عندئذ سوف نكتشف انه لا اختصار للمسارات التاريخية ولا حلول سهلة لمعضلات معقدة .

ان الجواب التاريخي والواقعي معا على التحديات الراهنة التي تواجه أمتنا العربية تتطلب حركة جديدة، تيارا جديدا يدمج بين النضال ضد الاستبداد السياسي السلطوي وضد الظلامية الدينية المستبدة عندما تقرر ان هناك حقيقة واحدة وكل ما عداها كفر وزندقة.

ان الثورة المقبلة الضرورية، والحتمية، في العالم العربي، هي الثورة الديموقراطية حيث الديموقراطية هي الجواب الذي يقضي على الاستبداد وبدل الاستبداد تقيم نظاما ديموقراطيا تعدديا مفتوحا. والثورة الديموقراطية هي ايضا اقتلاع حقيقي للارهاب الديني وللاحتكار الأصولي للحقيقة، وهي تحرر للفكر الانساني، ففي الفضاء الرحب للحرية يزدهر الفكر ويزدهر الإبداع وتنتصر الإنسانية الحقيقية.

يخيل إلينا ونقول ذلك في حدس قريب من اليقين - ان الحركات التقليدية من القرن الماضي، القومية والماركسية، عفا عليها الزمن، والزمن الجديد بكل تعقيداته ومعضلاته بحاجة إلى نهضة ثورية ديموقراطية جديدة، إطارا وأداءً.


سالم جبران - الناصرة
(f)(f)