عندما قرر طيب الذكر نور الدين محمود زنكى ( رضى الله عنه ) وهو الجندى المقاتل والحالم بعظمة امته... ان يحرر القدس من الفرنجة, فانه لم يبدا باعداد الجيوش.. بل بداها بلجنة لتعيد احياء القدس فى روح العرب والمسلمين وحشد خيرة رجال الشام ومصر ليكتبوا عنها الاشعار وخيرة رجال الدين ليجوبوا فى الامصار والجوامع والشوارع وليكون كلامهم عن القدس

انها الكلمات بالكلمات فقط وبسحر ورونق الكلمات كان تحدى الرسول صلعم وبه سيطر على روح وقلوب العرب وصنع التاريخ... صنع امة كاملة من كلمات ومن عشق وميتافيزيقا


الكلمات عندما تختمر فى روح الامة وفى وعيها الجماعى .... تتحول لاحقا لقوة مادية وبراكين...الكلمات وحدها وليس الخبراء والتكنوقراط هى التى تجعل الامة تتململ وان تبنى صناعتها واقتصادها وعلومها وجنرلاتها

الجيوش قد تنتصر فى ايام لكن اعدادها قد يستمر قرونا وبكلمات تفجر قوة الروح

ان لم يكن لدينا ما نستطيع فعله فى هذا الزمن فلا تبخلوا بالكلمات حدثوا الامة وابنائكم عن القدس عن حرية اوطاننا عن عظمة وشموخ اصولنا

الاعداء يعرفوا قوة الكلمات وتاثيرها الطويل المدى لهذا يراقبوا ما نكتب حتى مناهج اطفالنا فى المدارس


لقد ادرك نور الدين زنكى هذا السر... ولم يخسر الرهان

بعدها تحركت جيوش
مولانا وسيدنا السلطان العادل
، الملك الناصر
، الملك الأفضل ملك الملوك
، صلاح الدنيا والدين
، وسلطان العرب و الإسلام والمسلمين
، منقذ بيت المقدس
، خادم الحرمين الشريفين
له المجد

لا تبخلوا بالكلمات فهى لا تذهب هباءا بل تتحول لقوة فعل مادية مع الزمن


عندما كان يحتضر صلاح الدين قال له الشيخ الفاضل الذى رافقه

يا مولانا.. أري أن تدفن سيفك معك فهو عكازك الي الجنة... وسيعرفك الله فأنت سيفه...


من اكمل مسيرة الكلمات بعد صلاح الدين كان شيخ الاسلام رضوان الله عليه ابن تيمية

فقد تحولت كلماته لجيوشا تتحرك لسحق بقية الصليبين والهمج التتار

فى القدس مررت من نفس المكان الذى مشى به صلاح الدين... ومن اين دخل المدينة .. ورايت الغرفتين الصغيرتين بجوار الاقصى التى سكن بهما صلاح الدين... و عندما كنت فى المسجد الاموى بدمشق وقفت امام قبره.. وبكيت


لكى يتكرر المشهد عليكم بالكلمات

ونحن أمة تسكر على وقع الكلمات ..
" خبز وحشيش وقمر " ..

لكل زمان دولة ورجال ، ولكل معركة آلياتها ..
لا تنسى أن الجلادين من عبد الناصر الى صدام حكمونا بالكلمات أيضا ..

معركة اليوم ، لا أعتقد أنها تحتاج إلى شعر عنترة ..
بل إلى سيفه ..

(f)

المعرى


( معركة اليوم ، لا أعتقد أنها تحتاج إلى شعر عنترة ..
بل إلى سيفه ..)

السيوف تشهر فقط تحت تاثير الكلمات

الكلمات التى علينا ان نقولها هى روايتنا وقصتنا الحقيقية .....وليست الرواية التى يحاول البعض فرضها علينا ليس ليهزمنا الان ( فهو قد هزمنا) بل ليهزمنا لمليون سنة قادمة وبرضانا

اقتباس:  فضل   كتب/كتبت  
الكلمات التى علينا ان نقولها  هى روايتنا وقصتنا الحقيقية .....وليست الرواية التى يحاول البعض فرضها علينا  ليس ليهزمنا الان ( فهو قد هزمنا) بل ليهزمنا لمليون سنة قادمة وبرضانا

هذا موضوع آخر ..
وهذا يقتضي أن (( نضع الأمور في نصابها الصحيح )) وأن لا نركن إلى خيار النعامة ..

هنا ، الأمر بحاجة إلى ورشة عمل متكاملة ..
لكن ماذا عن الصوت النشاز ؟!






نعم .. الليبرالية :)

المعرى

( هنا ، الأمر بحاجة إلى ورشة عمل متكاملة ..
لكن ماذا عن الصوت النشاز ؟!
نعم .. الليبرالية )

لا هذا القصة ( الليبرالية خلصنا منها زمان) واللعبة انكشفت تماما اقد كانت مجرد الغلاف الخارجى للطائفة ( الطائفية الغير اسلامية)

عارف فضل؟
المشكلة ليست بالليبرالية .. بل بمن يعتنقها ، والمشكلة ليست بالبعث بل من يعتنقه ، والمشكلة ليست بالدين ، بل بمن يعتنقه ، وليس بالقومية بل بمن يعتنقها ..

برأيي .. المفكر ابن بيئته وليس ابن فكره ، فبيئته هي التي تفرض عليه نمطا معينا كيفما كان الفكر الذي يعتنقه ..
لذلك : تسقط الأيديولوجيا :)

ما نحتاجه .. هو أن نضع الأمور في سياقها الصحيح وليس أن نقرأها بأهدافنا ومآربنا وحاجاتنا ..

سأدعي بتبجح يا فضل أنني كنت على صواب منذ اللحظة الأولى ، وقبل أن تقع حرب العراق .. تلك ليست ليبرالية بل هو نمط ( إنتقائي ) مبتسر يراعي المصالح الضيقة والحاجات الخاصة ..

طيب ، هل لليبرالية إنجيل ؟!
لا؟


اذا العيب ليس فيها ..

(f)

صلاح الدين الأيوبي: البطل في صورة إنسان (1 من 3)

2004/10/12

هل من عذر لنا أن ننسي نور الدين ونتذكر شاور وكم في زماننا من مشابه له؟!
يخرج المجاهد من مصر بعد ان حقق الوحدة واقام الدولة وشتت الخونة والخائفين
أ.د. خالد الكركي
هذه محاضرة القاها الاكاديمي الاردني المعروف خالد الكركي في مؤسسة شومان في العاصمة الاردنية عمان، تحاول استحضار صورة البطل العظيم الذي يحن اليه الكثيرون بصفته فاتح ومحرر القدس ومطهر بلاد الاسلام من الصليبيين.
القدس العربي
إضاءة

عنوان هذه المحاضرة متصل بكتاب مهم ومعروف هو كتاب الأبطال لمؤلفه توماس كارلايل، وقد رسم فيه ملامح ثمانية من النماذج العالية في البطولة اختار لكل منها صورة تمثلها وهي:

ـ البطل في صورة إله
(أودين)
ـ البطل في صورة رسول
(النبي محمد)
ـ البطل في صورة شاعر
(دانتي ـ شكسبير)
ـ البطل في صورة قسيس
(لوثرـ نوكس)
ـ البطل في صورة كاتب
(جونسون ـ روسوـ بارنز)
ـ البطل في صورة ملك
(كرومويل ـ نابليون)

وقد حدد غايته من الكتاب (ترجمة محمد السباعي، دار المعارف، القاهرة، 1986) بقوله:
... إن في ذكري العظماء كيفما كانت نفعا وفائدة، والرجل العظيم لا يزال بعد موته ينبوع نور يتدفق، فليس أحسن من مجاورته شيء، نور يضيء وكأنه يضيء ظلمات الحياة، وليس هو كسراج أشعل، ولكنما نجم شبّته يد الله بين أشباهه من كواكب الأفق، هو كما قلت ينبوع نور يتدفق بالحكمة، ومعاني الرجولة، والشرف الكبير، وهو الذي في شعاعه أنس الأرواح، وروح النفوس، ومتعة الخواطر ... والبطولة في مذهبي هي العروة المقدسة التي تعقد ما بين الرجل العظيم وسائر الناس ... (ص 8)
ويقول في ختام الفصل الخاص بالنبي محمد عليه السلام:
ألستم ترون في حالة أولئك الأعراب ومحمدهم وعصرهم، كأنما قد وقعت من السماء شرارة علي تلك الرمال .... وإذا هي قد تأججت، واشتعلت، واتصلت نارها بين غرناطة ودلهي، ولطالما قلت إن الرجل العظيم كالشهاب من السماء، وسائر الناس في انتظاره كالحطب، فما هو إلا أن يسقط حتي يتأججوا ويلتهبوا ... (ص 1.4)
هذا سؤال وإضاءة، ونحن نحاول الوقوف في حضرة قائد ومحارب ومؤسس دولة، شغل الناس في الشرق والغرب، لكن الآراء في مجملها كانت تبجل شخصيته، إلا من كان صاحب هويً سواء أكان في زمانه البعيد، أم من أهل زماننا القريب، وهذا أمرٌ طبيعي ومتوقع عند الحديث عن إنسان .
لقد سجل بعض الغربيين (قبل أن نشير إلي أبناء أمتنا) ملاحظات وأسئلة حول مفاتيح شخصية صلاح الدين، الذي بدأ محاربا وسياسيا، ليجد نفسه في مصر وزيرا لخليفة فاطمي، وفي الوقت نفسه في بلاد الشام قائدا لجيش أمير سني، وأن يتصدي للعملاء والخائفين، والتشرذم السياسي، والغزو الصليبي الاستيطاني، وأن يوحد الدولة الإسلامية في مصر، وذلك كله في سياق الفهم السياسي لزمانه الذي دفعه إلي المحافظة علي الارتباط بالخليفة في بغداد، وحشد القوي الفاعلة من أمراء وزعماء حوله في معركته الرئيسية ضد الغزاة، كل ذلك دون أن يفقد روحا خاصة في الزعامة، جعلت ـ كما قلت ـ الغربيين يشهدون له، ويحاولون فهم طريقة تفكيره وإنجازاته التي جعلته أسطورة بين قادة العصور الوسطي، متفوقا في الحضور علي ريتشارد قلب الأسد، وفردريك بربروسا. يقول هاملتون جب عن صلاح الدين:
ـ لم يكن رجلا ساذجا، لكنه مع ذلك كان في غاية من البساطة، ورجلا نزيها لدرجة الشفافية .. (صلاح الدين الأيوبي .... ص 191).
ويضيف:
ـ وخضعت مثاليته لنير حس عملي قوي، فالوضوح الذي كان يقدر به كل خطوة من خطواته صوب غايته، وكل حالة لدي نشوئها، هذا الوضوح يمدّنا بمفتاح السر لتوسع سلطانه المستمر .. (كان) يعزز الولاء السياسي بحوافز و روادع أخلاقية ونفسية ... كان المبدأ الأول الذي سار عليه في التعامل مع الأمراء هو الصدق في قوله والوفاء المطلق به حتي مع الصليبيين. كانت الهدنة تعني هدنة، ولا يحوي سجله حالة نقض فيها العهد معهم، أما الذين نقضوا العهود معه فلم يصفح عنهم، وهذا ما تعلمه أرناط (رجينالد أوف شاتيون)، والداوية بمثابة درس لاحق (ص 195) .

ثم يختم بقوله:
ـ ومن المعلوم جيدا، إلي أي حد أسهمت شهرة صلاح الدين بالإخلاص المطلق لكلمته، وبالكرم، في استرجاع فلسطين وبلاد الشام الداخلية خلال السنة ونصف السنة التي أعقبت معركة حطين ... (ص 198)
ويتحدث جب عن أسباب إخفاق المواجهة أمام عكا بعد عامين من الحصار والحرب، ويردها إلي تضاؤل موارد صلاح الدين لسد تكاليف الأسلحة، والمؤن، والعلف، والمعدات، وعطاء الجند الإضافي، وتردد بعض الفئات في الإسهام بدورها في الحرب في مواجهة الحملة الصليبية الثالثة الشرسة التي قادها ثلاثة من ملوك أوروبا ... لقد كان عليه إبقاء جيشه في الميدان ثلاث سنوات متواصلة أمام عدو تتدفق عليه الإمدادات من البحر، بالإضافة إلي احتجاز المعدات العسكرية من مصر وبلاد الشام في عكا، التي كان حصنها لتكون قاعدة رئيسية لاستكمال التحرير ثم حاصرها الصليبيون، فحاصرهم حولها ... وقد خطفه الموت بعد هدنة كان يريدها استراحة حرب ليستأنف جهاده من جديد .....!
هذه إشارات في المقدمة أردت أن تتركز علي صورة غربية لصلاح الدين، وأنا أحاول الدخول من باب الكرك التي حاصرها ثلاث مرات، وحررها ضمن ما حرر من مدن وقلاع، أستذكر فضله علي وطني الصغير الجنوبي الذي عرف محررين قبله في زمن ميشع وقادة معركة مؤتة.
ذاك هو يوسف بن أيوب في الذاكرة، والضريح، والقصائد، والسيوف، والمآذن، والكنائس، صورة إنسان عظيم بحضوره النبيل وتسامحه العظيم. لقد منحنا صلاح الدين وطننا ثانية، ثم غفا في المسجد الأموي في ظل صفصافة أموية، وظلت الدنيا بعده علي قلق، وتحت احتلال غربي كلما دفعناه خارج الحدود عاد بأشكال معلنة وخفية، فقد صار له أتباع وحلفاء، وكثر بيننا الخائفون والمتعاونون.

مصادر الكتابة عنه

مصادر الكتابة عنه معروفة، وأهمها كتب الرحالة (خاصة ابن جبير)، وكتب الذين عاصروه وكتاباتهم من مؤرخين وكتاب سير ( وأهمهم بهاء الدين بن شداد، وابن شاهنشاه، وعبد اللطيف البغدادي، والعماد الأصفهاني، والقاضي الفاضل، وأسامة بن منقذ، وابن الجوزي، وعز الدين بن الأثير)، وكتب المؤرخين بعد زمانه ( ابن واصل الحموي، وأبو شامة المقدسي، وابن العديم)، وكتب الوفيات (ابن خلكان والصفدي).
أما الكتابات الغربية فكثيرة، وسوف أشير إليها في مواقع الاستشهاد بها، خاصة ما كتبه القدماء مثل وليم الصوري، والشاعر امبروز (الذي شهد المعارك حول عكا)، والمحدثون مثل هارولد لامب، وتوماس ارنولد، وهاملتون جب، وجنيفياف شوفيل، ونورمان دانيل، وستانلي لين بول.
أما الكتابات العربية المعاصرة عن صلاح الدين ومعاركه فهي كثيرة أيضا، ومنها ما كتبه سامي الدهان، وعبد الرحمن البنا، وعبد اللطيف حمزة، وأحمد الرويهي، وسهيل زكار، وسعيد عاشور، وقدري قلعجي، وسيدة اسماعيل كاشف، ومحمد إسعاف النشاشيبي، وعبد المنعم ماجد، ومصطفي الوكيل وغيرهم، إضافة إلي حضوره في الكتب التي تناولت الحروب الصليبية، والدراسات الفكرية والأدبية والعسكرية لمرحلة الصراع في فترة جهاده. أما وقائع المؤتمرات عن معركة حطين، وعن جوانب نضاله، وعن الدولة الأيوبية، وما نشر من بحوث المجلات فهي كثيرة، وقد تعز علي الحصر في دراسة سريعة مثل هذه.
إننا لا نوقظ صلاح الدين من غفوته، بل نستمد من ألق حضوره جمرا للرفض في هذا الزمان الإسلامي العربي الذي هو اليوم بإماراته وطوائفه، وهوانه علي نفسه، يشبه الحالة التي وجده عليها نور الدين يوم امتطي صهوة جواده. ويوم سافر صلاح الدين في الفضاء الممتد من حلب إلي القاهرة، ولم يهدأ إلا والقدس في قبضته، .... ولم يترك أمته تنزف علي مذابح الصليبيين، بل أدرك معني الحرب العادلة و الحرب المقدسة ، ووجهة النظر الإسلامية في مقابل تزوير القداسة والعدل في المنظور الصليبي. إنه نجم بني أيوب وهم عند ابن الأثير والمسعودي والمقريزي وابن تغري بردي والحنبلي من نسب كريم كردي، أو عربي ينتسب إلي مالك بن طوق صاحب الرّحبة، وهو عربي (أموي) ... وهو صلاح الدين ... (ابن خلكان، وفيات الأعيان، 7/139ـ 142)، و (الصفدي، الوافي بالوفيات 29/1.4)

ملامحه

اسمه يوسف، ومولده سنة 532هـ في قلعة تكريت، وأبوه أيوب بن شاذي، فارس مقدم محترم، ومثله أخوه أسد الدين شيركوه (أسد الجبل)، وقد قدما من مدينتهم (ُدوٍين)، احدي المدن الأرمينية إلي بغداد، وعملا لدي رئيس شرطة بغداد من قبل السلاجقة، ثم انتقلا إلي تكريت، وكانا عند أتابك زنكي حين انتقلا إلي الموصل، ثم انتقل والده إلي الشام، وأعطي بعلبك، ونشأ يوسف في كنفه، وقدمه نور الدين زنكي، حتي صحب عمه أسد الدين إلي مصر سنة 558هـ دعما لطلب شاور حين عزله من الوزارة في مصر ضرغام ، فاستنصر بنور الدين ... وكان ما هو معروف من إعادة شاور إلي الحكم، ثم خروجه علي الاتفاق مع نور الدين بأن يكون للأخير حصة من مصر.
رحل يوسف بن أيوب مع أبيه وعمه، ونور الدين يتصدي للصليبيين، وحال الخلافة في بغداد عجيب غريب، وفيه أن الخليفة المستنجد بالله أبا المظفر يوسف ابن المقتفي الذي بويع سنة 555هـ (أي والصليبيون لم يهزموا بعد) شوهد في قصره وبين يديه وزيره يحيي بن هبيرة، وهو (أي الخليفة) ينشده شعرا لنفسه يمدح به وزيره، وهو:
صفت نعمتان، خصتاك وعمتا
فذكرهمـا حتي القيامــة يذكـر
وجودك والدنيا إليك فقيرة
وجودك والمعروف في الناس ينكر
فلو رام يا يحيي مقامك جعفر
ويحيي لكفا عنـه يحـيي وجعفـر
ولم أر من ينوي لك الشر يا أبا الـ
مظفـر إلا كنــت أنـت المظفـر

(ابن واصل، مفرج الكروب 1/134)
سيكون علي صلاح الدين أن يظهر شجاعته وحنكته في مصر حتي يصير وزيرا لخليفتها العاضد، وأن يصبح لقبه الملك الناصر ، وأن يرد هجوم الصليبيين علي دمياط، ويقطع الخطبة بعد موت العاضد، ويعيدها للعباسيين، واضعا بذلك حدا لدولة الفاطميين. وعندما يرحل نور الدين سنة 569هـ، يكون عليه العودة إلي الشام لضبط أمورها، وتحقيق وحدة مصر والشام، وهذا موقف استراتيجي ظل يحسب له، فبه أطبق بجناحين هائلين علي الوجود الصليبي، فاقتلعه، مستفيدا من سعة دولته أيضا ( من آخر حدود النوبة جنوبا، وبرقة غربا إلي بلاد الأرمن شمالا، وبلاد الجزيرة والموصل شرقا)، ومحققا حلما بدا مستحيلا قبل زمان نور الدين.
لقد ظل يحكم مصر أربعا وعشرين سنة، والشام تسع عشرة سنة، ما توقف زحفه يوما، ولعل المتتبع لسير معاركه في بلاد الشام سيمر علي خطي خيله التي حررت حلب، والكرك، وبيروت، وعسقلان، وصور، وجبلة، وصفد، والشقيف، والقدس، هذا علي سبيل المثال، فبين عامي 583 ـ 586 حرّر جيشه حصونا ومدنا ذكرها صاحب النوادر السلطانية، فبلغت تسعا وسبعين ممتدة من قلعتي الشوبك والطفيلة إلي شقيف أرنون، إلي بغراس ( قريبا من أنطاكية)، وفي مقدمتها جوهرة المدائن كلها، القدس.

الرجل والمناخ

يوسف بن أيوب، أبو المظفر، المؤيد المجاهد المرابط المثاغر،
مولانا السلطان العادل، الملك الناصر، الملك الأفضل، صلاح الدنيا والدين، وسلطان الإسلام والمسلمين، منقذ بيت المقدس، خادم الحرمين الشريفين
وحتي لا نقع في دائرة الأسطورة أو السيرة الشعبية فإن يوسف بن أيوب مقاتل وسياسي، وهو نتاج حضارة قومه وظروف زمانه، وقد تحمل المهمات التي أدرك بحدسه، وإيمانه، وعقله أنه قادر علي إنجازها، أو أنه لا بد ـ حفاظا علي كرامة الأمة ـ من التصدي لها، وهذه هي بطولته ... أنه لم يتراجع عن غايته الاستراتيجية رغم العقبات، فكأن قول شاعر معاصر له يفسر تقدم نور الدين من قبله إلي مجمع الأبطال:
إن الزعامة والطريق مخوفة
غير الزعامة والطريق أمان،
وفعل أمر عظيم في زمن صعب، أو ضمن إمكانيات محدودة، هو بطولة، وقد سمّت العرب رجالها أجوادا لأنهم قاموا بأعمال نادرة وإنسانية صغيرة، في أزمنة وظروف صعبة، لكن النفس الكبيرة هي القادرة عليها، كأن يقدم جريح أخاه عليه أمام شربة ماء في لحظة نادرة، والموت يسعي إليهما، حتي يموت كلاهما علي ظمأ عجيب!!
والبطولة تضحية، وقدرة إنسانية علي التحمل، وطاقة وجدانية خاصة، كل ذلك في إطار الإيمان العميق بأن الحياة تستحق الدفاع عنها، ولكنها أيضا طريق للخلود.
والبطولة ليست حربا وسيوفا فقط، بل هي واقعة في أي باب من أبواب الصفات الأخلاقية الصدق،والنخوة، والكرم، والوفاء ....، فكيف إذا اجتمعت وأخذت صفة المروءة التي هي مجمع الصفات في البطل الإنساني الذي لا تعصب في روحه، ولا نزعة للقتل تحكمه، ولا حقد يأكل داخله ... إنه مع الحق وكل مسعي في السلم والحرب يحكمه الحق لا الباطل، وقد يلتبس المفهومان في السياسة إلا عند من كانت رؤيته واضحة، وثقافته مبصرة.
فما الذي كان يواجهه صلاح الدين وهو يتقدم لتنفيذ مشروعه الاستراتيجي، وفي أي مناخ تحرك!!

ثلاث صور

كان علي المقاتل الجديد الذي وضع الوحدة والتحرير هدفا استراتيجيا له أن يواجه حالات معقدة تقف في طريقه، ويمكن إيجاز هذه في صور ثلاث:
الأولي:
صورة الخونة الطامعين في الحكم من حوله، والمتآمرين عليه مع أعدائه، والغارقين في نزاعاتهم المحلية، وهم عن خطر الصليبيين غافلون أو معهم متعاونون.
الثانية:
صورة القتلة والسفاحين من أعدائه الذين ينثرون الدم والمذابح حيثما حلّوا، ومنهم الحشاشون الذين بدأوا حملة اغتيالات طالت زعماء وقادة، ووصلت إلي صلاح الدين نفسه وكادت تمسّ حياته.
الثالثة:
تثبيت صورة الفارس المناضل السائر علي خطي نور الدين، والتفرد الذي بدأ صلاح الدين يمد آفاقه، حزما وسماحة.
وقبل أن أقدم لكم ملامح نضال الإنسان القائد يوسف بن أيوب كما رسمها أهل زمانه وكتاب سيرته، وتاريخ فتوحه، أقدم أمثلة علي الصورتين الأولي والثانية دون تدخل أو تعليق:

الخيانة والتخاذل
نص 1

وخلع علي شاور خلع الوزارة ... وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة، وغدر به شاور ورجع عما كان وافق نور الدين عليه.. فأرسل شاور حينئذ إلي الفرنج يستمدهم، ويخوفهم من نور الدين إن ملك الديار المصرية ما يطيب لهم معه مقام، ... فسارعوا إلي تلبية دعوة شاور، وجمعوا في الديار المصرية، وتجهزوا ـ بعد وقوع الاتفاق بينهم وبين شاورـ علي مال كثير يحمله إليهم إن رحلوا عسكر نور الدين عن البلاد.... .
(ابن واصل/ مفرج الكروب 139)

نص 2

وكان بالقاهرة خصيّ يقال له مؤتمن الخلافة (جوهر)، ولما ثقلت وطأة الملك الناصر (صلاح الدين) علي أهل القصر، وعلموا أن دولتهم زائلة بسببه، أحبّوا الراحة منه، فأجمعوا علي مكاتبة الإفرنج ليصلوا إلي البلاد، فإذا خرج صلاح الدين إلي لقائهم قبضوا علي من بقي من أصحابه بالقاهرة، واجتمعوا هم والإفرنج علي حربه وحرب أصحابه واستئصالهم، ويكون بعد ذلك البلاد بينهم وبين الإفرنج يقتسمونها .... .
(ابن واصل، مفرج الكروب، 174ـ 175)
هاتان صورتان فقط، بينما كان الصليبيون قد أيقنوا أن استقرار صلاح الدين بمصر، ومعه عساكر نور الدين مؤذن بهزيمتهم فكاتبوا إفرنج صقلية والأندلس وغيرهم، واستنصروهم، وأمدوهم أولئك بالأموال والرجال والسلاح .... لقد تجمع الغرب لغزو دمياط سنة 565هـ، ونور الدين يفتح جبهة ضدهم في بلاد الشام حتي يخفف الضغط عنها ... وتلك صورته الرائعة:
... بلغ من اهتمام نور الدين بأمر المسلمين حين نزل الفرنج علي دمياط أنه قريء بين يديه جزءاً من حديث كان له به رواية، فجاءه في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسم، فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يبتسم ليتم السلسلة علي ما عرف من عادة أهل الحديث، فغضب من ذلك، وقال: إني لأستحي من الله تعالي أن يراني مبتسما، والمسلمون محاصرون بالفرنج .
(ابن واصل، مفرج الكروب1/181ـ 182)
فهل من عذر لنا أن ننسي نور الدين ونتذكر شاور !! وكم في زماننا من مشابه لما وقع آنذاك حتي ضاعت الحقيقة ووصلت الأمة حدود الهوان.

نص 3

في أحداث سنة 569هـ:
أراد جماعة من شيعة القصر الوثوب بمصر، وإقامة الدعوة العلوية .. وكان منهم عمارة بن علي اليمني، وعبد الصمد الكاتب .... واتفق رأيهم علي استدعاء الفرنج من صقلية والشام إلي مصر، وبذلوا لهم شيئا من المال والبلاد ... .
(ابن واصل، مفرج الكروب 1/243 ـ 244)
سيخرج صلاح الدين إلي الشام سنة 578هـ، وسيرحل بعد اثنتي عشرة سنة، ما ترجل فيها عن جواده إلا قليلا، وبعد أن حقق الوحدة، وأقام الدولة، وشتت الخونة والخائفين ... ويوم وصل إلي عقبة سمع باجتماع الفرنج في الكرك لقطع الطريق ... فاحترز بحفظ الأطراف، وبدأ معركته الطويلة بين الكرك وحلب، وقادته يمهدون الطريق للنصر القادم العظيم.
لكن صور الخيانة والغدر تنتقل إلي الشام ... وهذه واحدة منها

نص 4

وسار حتي نزل علي قلعة أعزاز يحاصرها، وعليها وثب الإسماعيلية عليه ـ رحمه الله ـ فنجاه الله من كيدهم وظفر بهم، ولم يفل ذلك من عزمه، وأقام عليها حتي أخذها ... فأخرجوا إليه ابنة لنور الدين صغيرة، وسألت منه أعزازا فوهبها إياها ... .
( ابن شداد، النوادر السلطانية في المحاسن اليوسفية، ص 52)
وفي رواية ابن الأثير أن باطنيا وثب عليه، وهو في خيمة لبعض أمرائه، فضربه بسكين في رأسه، فجرحه، فلولا أن المغفر الزرد تحت القلنسوة لقتله، فأمسك صلاح الدين يد الباطني بيده، إلا أنه لا يقدر علي منعه من الضرب بالكلية، إنما يضرب ضربا ضعيفا، فبقي الباطني يضربه في رقبته بالسكين ... فجاء أمير من أمرائه فأمسك السكين بكفه، فجرحه الباطني، ولم يطلقها من يده إلي أن قتل الباطني .. وجاء آخر من الإسماعيلية فقتل أيضا، وثالث فقتل ...
(ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 1/76).

نص 5

كان أحد المماليك واسمه (سرخك) في قلعة حارم، وامتنع بعد أن ملك صلاح الدين حلب، من تسليم القلعة، ووعده صلاح الدين الإحسان ... فكان أن اختار سرخك: فراسل الفرنج ليحتمي بهم، فسمعه من معه من الأجناد أنه يراسل الفرنج، فخافوا أن يسلمها إليهم، فوثبوا عليه، وقبضوه وحبسوه، وراسلوا صلاح الدين يطلبون منه الأمان ... .
(ابن الأثير/ الكامل في التاريخ، 1/122ـ 123).
أما الخذلان فسأقدم صورة منه، وهي استنجاده بالمنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، الخليفة الموحدي بالمغرب سنة 585هـ، يستجيشه علي الفرنج أثناء قتاله معهم حول عكا، والرسالة بقلم القاضي الفاضل، الذي سيكتب إلي صلاح الدين بشأن إصرار الملك الموحدي علي أن يخاطب بلفظ أمير المؤمنين ، والرسائل كلها منشورة في كتب التاريخ، ومنها رسائل إلي الخليفة الناصر ببغداد.
(انظر ابن واصل، ملحق مفرج الكروب 2/496ـ 517). والرسول هو شمس الدولة بن منقذ، ويعلق صاحب الروضتين بالقول:
لم يحصل من جهة سلطان المغرب ما التمس منه من النجدة، وبلغني أنه عزّ عليهم كونه لم يخاطب بأمير المؤمنين علي جاري عادتهم، ....
(كتاب الروضتين لأبي شامة، 2/174)
يكفي الذين انحرفوا أن شاعرا مثل ابن منير الطرابلسي سيرسم لهم تمثالا يرجمه الناس مثل أبي رغال، وهذه صورة واحدة لمجير الدين صاحب دمشق الذي وقف إلي جانب الصليبيين واستنصر بهم حتي حاصرها نور الدين وأنقذها:
فيا راكبا إما عرضت فبلغن
بيوتا علي جيرون بالذل تعمد
وقل لمبيد الدين وهو مجيره
بزعمٍ له وجه الحقيقة أزبـدُ
حملت الصليب باغيا ونبذته
وثغرك مطووس البنات وأدرد
تنصرت حينا والبلاء موكل
ولا بـد من يـوم بـه تتهود
تنصرت أما بل تمجست والداً
وعمّاً وعرق الكفر فيك مردد
(انظر القصيدة، وهي أربعون بيتا، في كتاب الروضتين لأبي شامة، 1/78ـ 79)
ونشير هنا إلي رحلة القاضي أبي سعد الهروي الذي سيندفع مع جملة من المستنفرين إلي عاصمة الخلافة، فيصلها وصحبه في رمضان: و يوردون في الديوان كلاما أبكي العيون وأوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمعة فاستغاثوا وبكوا، وأبكوا، وذكروا ما دهم المسلمين بذلك الشريف المعظم من قتل الرجال، وسبي الحريم والأولاد، ونهب الأموال ....
(ابن الاثير، الكامل 9/8).
وتمر إشارة عابرة عن الوفد لدي ابن الأثير، إذ يقول إنهم لشدة ما أصابهم أفطروا ، والخليفة المستظهر بالله يرسل لاعتقالهم علي هذه المخالفة، لكن أبا سعد الهروي يكشف غايته منها: كيف تغضبون حيال إفطار في شهر رمضان، ولا تغضبون حيال ذبح المسلمين وتدمير مقدساتهم، والسلطان التركي في بغداد يخوض حربا ضد ابن عمه في شمالي فارس!!
(انظر أمين معلوف: الحروب الصليبية كما رآها العرب ص 8)
لذلك لا أري من الغرابة أن يخرج ابن الأثير عن تعنت المؤرخ ليورد قصيدة أبي المظفر الأبيوردي النائحة علي الإسلام:

.. أري أمتي لا يشرعون إلي العدي
رماحهم والدين واهي الدعائم
ويجتنبون النار خوفا من الردي
ولا يحسبون العار ضربة لازم
فليتهم إذ لم يذودوا حمية
عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم
دعوناكم والحرب ترنو ملحة
إلينا بألحاظ النسور القشاعم
تراقب فينا غارة عربية
تطيل عليها الروم عض الأباهم

(ابن الأثير، الكامل 9/ 2.ـ21)

هامش من زمن لاحق

يبدو الأمر غريبا للقارئ، إذ كلما تقدم قائد لاستكمال التحرير برز الخونة، ففي أواخر العهد الأيوبي، كان الصالح أيوب يقاتل الصليبيين وينتصر عليهم في معركة قاسية عند غزة، وكان الناصر داود الأيوبي، حاكم الكرك، يستعيد بيت المقدس في السنة نفسها، ويكمل مهمته الصالح أيوب سنة 1244م، ويضعان حدا لتنازل الكامل عنها منذ ثلاثين سنة ... في هذا المناخ كله كانت العداوات بين الزعامات المحلية والأيوبية تشتد، ويصل الانحراف حدّ الخيانة حين يقوم حلف بين الملك الصالح إسماعيل صاحب دمشق، والصليبيين، ويدخل في الحلف الملك المنصور إبراهيم صاحب حمص، بل يجتذبون الناصر داود نفسه إلي الحلف، وبموجبه نزل الصالح إسماعيل للصليبيين عن المسجد الأقصي وقبة الصخرة وكان ذلك سنة 1243م، وفي سنة 1244م جاء الملك المنصور إبراهيم إلي عكا، فصادق علي الحلف، ووعد الصليبيين بجزء من مصر، وأقام بعكا مدة بضيافة طائفة الفرسان الداوية .
(انظر: محمد مصطفي زيادة، حملة لويس التاسع علي مصر، المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، القاهرة، 1961، ص 72 ـ 73 )، و (د. قاسم عبده قاسم، ماهية الحروب الصليبية، عالم المعرفة 199. ص 56)



صلاح الدين الأيوبي: البطل في صورة إنسان (2 من 3)

2004/10/13

حين مات صلاح الدين تأسف الناس عليه حتي الفرنج.. لما كان من صدقه ووفائه إذا عاهدهم....
بدأ الصليبيون الذبح والخراب وتبعهم المغول والإسبان والإنكليز والفرنسيون والصهاينة والأمريكان
أ.د. خالد الكركي
هذه محاضرة القاها الاكاديمي الاردني المعروف خالد الكركي في مؤسسة شومان في العاصمة الاردنية عمان، تحاول استحضار صورة البطل العظيم الذي يحن اليه الكثيرون بصفته فاتح ومحرر القدس ومطهر بلاد الاسلام من الصليبيين.
القدس العربي
صورة القتلة: الذبح

أي روح تقرأ مذابح الفرنجة في بلادنا ولا تغضب...! وأي رؤية مبصرة نسجها الإسلام في قادته حتي تحاملوا علي غضبهم والتزموا بوصايا النبي عليه السلام، وشروط الحرب في الإسلام...
سأقدم صورا من حربهم، ثم أرسم صورا من حربنا، وبين حربهم غزوا وحربنا تحريرا، دروس علي هذا العالم الإسلامي الخانع تحت ليل الخوف الأمريكي ـ الصهيوني أن يستوعبها كي ينهض من جديد...
بذكاء نادر، يرصد ابن الأثير ظهور الإفرنج علينا، فيري أن اشتداد أمرهم، وخروجهم إلي بلاد الإسلام كان علي النحو الآتي:
ـ 478هـ ملكوا طليطلة وغيرها من بلاد الأندلس
ـ 484هـ قصدوا جزيرة صقلية وملكوها.
ـ تطرقوا (في الفترة نفسها) إلي أطراف أفريقية فملكوا منها شيئا.
ـ 490هـ خرجوا إلي بلاد الشام...
ويضيف أن أصحاب مصر من العلويين لما رأوا قوة الدولة السلجوقية (في بلاد الشام خاصة) ووصولهم إلي غزة علي حدود مصر، أرسلوا إلي الفرنج يدعونهم إلي الخروج إلي الشام ليملكوه.... ويكون بينهم وبين المسلمين.
هذه حكايات صليبية دموية:
ـ إنطاكية: 491 هـ دخلوا البلد ونهبوه وقتلوا من فيه من المسلمين
(ابن الأثير، الكامل 9/14)
ـ معرّة النعمان:
وضع الفرنج السيف في أهلها ثلاثة أيام، فقتلوا ما يزيد علي مئة ألف، وسبوا السبي الكثير، وملكوه، وأقاموا أربعين يوما... .
(ابن الأثير، الكامل 9/16)
القدس (492هـ) :
وقتل الفرنج بالمسجد الأقصي ما يزيد علي سبعين ألفا، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين وعلمائهم، وعبّادهم، وزهادهم !! ممن فارق الأوطان، وجاور بذلك الموقع الشريف
(ابن الأثير، الكامل 9/19)
وسيقع خراب علي مسجد عمر، ويطرد من كنيسة القيامة الكهنة من الطقس الشرقي (روماً، وجيورجيين، وأرمن، وأقباطا، وسريانا) ... كان الجيش الذي حشده الأفضل يتقدم عبر سيناء ببطء ولم يصل إلا بعد عشرين يوما من المأساة... فاكتفي بأن عسكر في عسقلان... ثم هزمه الفرنج وكانت الضحايا عشرة آلاف.
هذه هي الصورة الثانية: الذبح والخراب، وسيتقدم المغول علي الصورة نفسها، ويتبعهم علي الخطي نفسها الأسبان، والإنكليز، والفرنسيون، والصهاينة، والأمريكان.

صورة الفارس

ما الذي شكل صورة هذا المقاتل الإسلامي العظيم !!
وما الذي أسعفه في تحقيق استراتيجيته في الوحدة والتحرير، وهو يسير في حقول من المذابح التي ارتكبها الغرب، والنفوس الخراب التي خدعتها المطامع، وزينت لها الأهواء انحرافها عن جادة الطريق.
ما الذي يفعله مقاتل أدرك أن تحرير فلسطين لا يكون إلا بوحدة الجناحين: مصر وبلاد الشام.... أما العراق، فكان يدرك أن خلافته الضعيفة لا تشكل له إلا مرجعية دينية من باب حرصه علي بقاء الخلافة السنية رمزا في المواجهة، وهو ـ لو أراد ـ لغيّر في بغداد كما غيّـر في مصر..
هل هو اتصاله بالامتداد التاريخي لزمن الفتح الأول، أو أنه صاحب حلم عظيم بدخول القدس كما دخلها ابن الخطاب فاتحا وحازما وسمحا في آن!! أم أنه، وهو يمدّ رماحه إلي حصون الأعداء ينجز استراتيجية سلفه العظيم نور الدين زنكي...وإنه لشرف عظيم أن يتم المسلم الكردي استراتيجية المسلم التركي في التحرير، وأن ينجز خطة التحرير بعد مئة عام من رحيل صلاح الدين مماليك أعاد الإسلام صياغة أرواحهم... فكانت صرخة قطز العظيم وا إسلاماه ، إعلانا بالنصر يوم عين جالوت !!
هذه أسئلة تدفعنا إلي تلمس ملامح شخصيته، وهي ليست محاولة جديدة، فصلاح الدين من بين أكثر القادة حضورا في المصادر العربية والغربية، ولعل السيرة التي أنجزتها له الكاتبة الفرنسية شوفيل: صلاح الدين بطل الإسلام لن تكون الأخيرة في هذا السياق.
السيرة التي دونّها بهاء الدين بن شداد لصلاح الدين نص في غاية الأهمية، فهو قاضي عسكر صلاح الدين من 584 ـ 589، أي إلي تاريخ وفاته، ويروي معظم أحداث السيرة عن مشاهدة وسماع مباشرين، وعلي هذه السيرة ـ كما يقول محققها د. جمال الدين الشيال ـ اعتمد جلّ المؤرخين اللاحقين من عرب وأوروبيين عند الكتابة عنه، خاصة عن سنوات حياته، خاصة التي شهدت عشرات المعارك، أعظمها أثرا حطين وفتح القدس، والمعارك الصعبة مع الحملة الصليبية الثالثة التي قادها ثلاثة من ملوك أوروبا (ريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا، وفيليب أوجست ملك فرنسا، وفردريك بارباروسا ملك ألمانيا).
صلاح الدين، كما يقول ابن شداد: حسن العقيدة، كثير الذكر لله تعالي، جمع له الإمام قطب الدين النيسابوري عقيدة تجمع جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب، وكان يعلمها الصغار من أولاده حتي تترسخ في أذهانهم...وقد سمع من السلفي الحافظ، وأبي الحسين علي بن إبراهيم بن مسلم، وأبي طاهر عون، وعبد الله بن بري، والقطب مسعود النيسابوري.
هذه واحدة، أما الثانية، فهي التزامه بالفرائض: الصلاة (وما كان يترك الصلاة ما دام عقله عليه، وصلي في مرضه الذي مات فيه قائما، وما ترك الصلاة إلا في الأيام الثلاثة التي تغيب فيها ذهنه).
والزكاة، فإنه مات ولم يحفظ ما وجبت عليه به الزكاة، وأما صدقة النفل فإنها استنفدت جميع ما ملكه من الأموال.
هذا الفاتح العظيم يموت ودولته نصف أرض الأمة، ويختلف المؤرخون حول ما وجدوا في خزائنه،
فهي عند ابن شداد: سبعة وأربعون درهما ناصرية، وجرم واحد ذهب صوري....
لا دار له باقية، ولا عقار ، ولا قرية، ولا مزرعة...
أربع سنوات بين خروجه الأخير من دمشق وعودته إليها، شهدت أعنف معاركه مع الغرب كله، ومع ذلك يختلف العماد الأصفهاني مع ابن شداد في إحصاء ثروته فإذا هي دينار واحد وستة وثلاثون درهما .
(الفتح القسي ص629)
الثالثة: التزامه بالصوم وقضاء الفوائت بسبب المرض في القدس الشريف في السنة التي توفي فيها، والرابعة: الحج، وهــــذا نص دال من ابن شداد:
وأما الحج فإنه لم يزل عازما عليه، وناويا له، سيما في العام الذي توفي فيه، فإنه صمم العزم عليه... ولم يبق إلا المسير، فاعتاق عن ذلك بسبب ضيق الوقت وفراغ اليد عما يليق بأمثاله، فأخره إلي العام المستقبل، فقضي الله ما قضي...
وفي سيرة ابن شداد صورة لقائد مسلم، رقيق القلب، إذا سمع القران يخشع قلبه وتدمع عينه، وهو شديد الرغبة في سماع الحديث... وهذه الرقة سمة إنسانية أشاد بها معاصروه ومؤرخو حروبه، وقد مزجوها بالصبر والاحتساب، وهم يرون صبره حين جاءه خبر وفاة ابن له اسمه إسماعيل، فقد دمعت عيناه حين قرأ الكتاب، لكنه لم يعرف أحدا من المقاتلين معه، أو من القادة بذلك حتي عرفوا من غيره.
ويوم جاءه، وهو في مقابلة الفرنج عند الرملة، خبر وفاة ابن أخيه تقي الدين، أظهر الكتاب لقادته الأقربين وبكي بكاء شديدا حتي أبكانا كما يقول ابن شداد، ثم قال لهم والعبرة تخنقه: توفي تقي الدين، وأمر أن لا يعلم المقاتلون بذلك..
كان بعيدا عن دمشق لسنوات أربع وهو الشديد الشغف والشفقة بأولاده الصغار، وظلّ صابرا علي مفارقتهم صبره علي مرّ العيش وخشونته، أي روح تشكلت في تلك اللحظة التاريخية التي كانت الأمة فيها تتعرض للغزو والمهانة، والخيانة، وأي جيل جديد تربي حتي سار في ركاب قائد جديد بروحه، ورؤيته، وصبره، فهذا الفتي الصابر الرقيق هو نفسه الذي يخوض حربا نظيفة ملتزمة بالأخلاق الإنسانية العليا، والذي يرفض أن يشبه عدوه القاتل الجزار الهمجي الذي وصفه أسامة بن منقذ في الاعتبار حين قال إنه لا فضيلة لهم ـ أي الصليبيين ـ إلا الشجاعة، وهي موجودة في البهائم.... .
إذن فالشجاعة وحدها لا تشكل قائدا فذا حتي لو انتصر، بل القيادة جملة من السمات لا بد أن تتكامل، وفهم عميق لحركة التيار التاريخي والعوامل الفاعلة فيه. لذلك أود أن أشير هنا إلي أنني لا أسعي إلي تقديم بطل مطلق الصفات والسمات، فهذا لا يناسب يوسف بن أيوب المقاتل والسياسي، بل هو قائد طبيعي ، يقدم الرسالة علي البطولة، ولا غاية له أن يكون محاربا فقط، بل الغاية أن حربه مشروعة، وأن مصلحة الإسلام والأمة تتقدم علي شخصيته، ويجب أن لا يشغله عنهما أي أمر، ولا بد أن تتوحد روحه بكيان أمته ورسالتها ومشروعها العظيم.
صلاح الدين إذن فارس ومقاتل ورجل دولة، وفي مواقفه وصفاته ما يشير إلي حياة طبيعية بسائر أبعادها الإنسانية، فهو لا يقبل التنجيم لأن الواقع هو المتحكم في حركة التحرير، ولا يقع تحت طائلة الخرافة إذ لم يفضل يوما علي يوم، ولا زمانا علي زمان، إلا بتفضيل الشرع واستقصاء الدين في كل قاصٍ ودان ، لذلك لم يكن يتعيف ولا يتطير، وليس مهتما أيضا بمنطق المنطقيين ـ أهل الفلسفة، وكان مبغضا للمعطلة، والدهرية، ومن يعاند الشريعة، وفي هذا السياق سجلت قصة السهروردي... كما كان يدني أهل التنزيل ويقصي أهل التشبيه.
(العماد الأصفهاني، الفتح القسي، 660 ـ 661)
إنها حالة من الصفاء النادر في زمن فيه من العتم والسحاب الأسود ما فيه، وهذه صفات حاكم يريد أن يجتمع الناس حوله، لذلك أفاض معاصروه في الحديث عن حلمه، وتجاوزه عن الهفوات، وكرمه الغامر، وحرصه علي كرامات الناس.
هذا الذي يعطي حتي يموت فقيرا، يكون في كتب التاريخ أنه في ثلاث سنين (585 ـ 588)، عوض عن كل فرس عقر أو جرح في سبيل الله، فكان تقدير ما قدم اثني عشر ألف رأس من حصان وحجر (أنثي الخيل)، وإكديش طمر (فرس جواد طويل القوائم خفيف مستعد للعدو)، وفي رواية (الوافي بالوفيات 29 ـ 145) أنه وهب بمرج عكا لا غير فكانت عشرة آلاف فرس.
أعود إلي القول، إنه إنسان متميز ونموذج خاص:
ـ فقد كنت طراحته تداس عند التزاحم عليه لعرض القصص وهو لا يتأثر لذلك.
ـ وقد نفرت بغلة ابن شداد من الجمال وهو راكب في خدمته، فزحمت وركه حتي آلمته... وهو يبتسم...
ـ ودخل القدس في يوم ريح مطير كثير الوحل فنضحت بغلة ابن شداد عليه من الطين حتي أتلفت جميع ما كان عليه، وهو يبتسم.
ـ وقد غضب منه أمراء أكراد، وجابهوه بكلام فيه خشونة، والعسكر جاهز للقتال، فتركهم وانصرف راجعا، وظن القريبون منه أنه سيصلب ويقتل منهم،... وفي المساء طلب الأمراء إلي خيمته ليشاركوه فاكهة وصلت من دمشق...
ـ هذا الرجل صاحب المروءة، الندي اليد، الكثير الحياء، المبسوط الوجه كان يكرم الوافد عليه وإن كان كافرا، وهذه حكاية مشهورة:
دخل عليه صاحب صيدا بالناصرة، فاحترمه وأكرمه، وأكل معه الطعام، ومع ذلك عرض عليه الإسلام، فذكر له طرفا من محاسنه وحثه عليه .
(ابن شداد، النوادر السلطانية، (ص31)

رؤية واسعة للصراع

ولم يقف عند حدٍ في تكريم العلماء والمشايخ، فقد أرادهم جزءا من مشروعه الكبير، لأنه لم يكن مراقبا لحركة التاريخ بل كان يصنع التاريخ في كل ساعة من حياته، لذلك أدرك أن التاريخ الذي يبقي فقط يحتاج كذلك إلي صفتين: شرعيته وإنسانيته.
وتلك هي سمات مرحلته، وحروبه، ومفتاح شخصيته، ويكمن إيجازها في صورتين من سيرته:
الأولي: تكشف عن رؤية واسعة للصراع، فهو راغب في وضع حدّ لهذا التدخل الغربي المستمر في بلادنا، فقد أخبر ابن شداد، وهما علي ساحل عكا سنة 584هـ بما يلي:
أما أحكي لك شيئا؟ قلت: بلي، قال: في نفسي أنه متي يسرّ الله فتح بقية الساحل قسّمت البلاد، وأوصيت وودعت، وركبت هذا البحر إلي جزائرهم، أتتبعهم فيها حتي لا أبقي علي وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت ....

الثانية، وهي تتمة للنص نفسه، وهو علي النحو الآتي:
قلت له ـ المتحدث ابن شداد ـ: ليس في الأرض أشجع نفسا من المولي، ولا أقوي منه نية في نصرة دين الله تعالي.
فقال: كيف؟
فقلت: أما الشجاعة فلأن مولانا ما يهوله أمر هذا البحر وهوله، وأما نصرة دين الله فهو أن المولي ما يقنع بقلع أعداء الله من موضع مخصوص في الأرض حتي تطهر جميع الأرض منهم.
وأستأذنت في أن أحكي له ما خطر لي، فأذن، فحكيت له ثم قلت: ما هذه إلا نية جميلة، ولكن المولي يسيّر في البحر العساكر، وهو سور الإسلام، ومنعته، فلا ينبغي له أن يخاطر بنفسه.
فقال: أنا أستفتيك: ما أشرف الميتات؟
فقلت: الموت في سبيل الله
فقال: غاية ما في الباب أن أموت أشرف الميتات.
(ابن شداد، النوادر السلطانية، (ص22 ـ 23)

هما رؤيتان إذن، اقتلاع العدو، ومنعه من العودة، والطريق إلي تحقيقهما، هي الحرب لأنها علاج ناجز ضد كل احتلال واستعمار.

صلاح الدين والفرنج: الفارس الكامل:
السؤال هو:
كيف تعامل صلاح الدين مع الآخر الذي جاء أرضنا محتلا ومخربا، ومارس العنف والإرهاب والذبح والهمجية، مما هو معروف للدنيا في زمانه، وبعد زمانه بقرون!!
لعل حكايات علاقته بملك الإنكليز ريتشارد قلب الأسد معروفة، وتلك المفاوضات معه، التي أدت إلي الهدنة، مهمة، خاصة أن صلاح الدين رأي ما غشي الناس من الضعف وقلة النفقات والشوق إلي الأوطان، ولما شاهده من تقاعدهم علي يافا يوم أمرهم بالحملة فلم يحملوا، فخاف أن يحتاج إليهم فلا يجدهم، فرأي أن يجمعهم مدة حتي يستريحوا وينسوا هذه الحالة التي صاروا إليها، ويعمر البلاد، ويشحن القدس بما يقدر عليه من الأسلحة، ويتفرغ لعمارته.
(ابن شداد، النوادر السلطانية، ص233)
كان ذلك سنة 588هـ، ومدة الهدنة ثلاث سنين وثمانية أشهر، وقد شرع صلاح الدين في تحصين الثغور وإتمام أسوار القدس، وإعادة الأعمال والأحوال إلي عادة عمارتها، وحلية نضارتها، وإجمام العساكر وراحتها ليوم تعبها الذي هو عين راحتها.
وفي نصوص المرحلة إشارات إلي أن صلاح الدين كان للسلم (أي الهدنة أو الصلح) كارها، لكن من معه أجمعوا علي أن صفقة الكفر فيها خاسرة، وصفقة الإسلام رابحة، وأنه إن عادت أيام الحرب عدنا وقد استظهرنا وزدنا .
(العماد، الفتح الأصفهاني ص 604ـ 608)
أسأل: ما الذي فعله صلاح الدين للقادمين غزاة من الغرب حتي أعاد تذكيرهم بالإنسانية، فجعلوه قديسا...!!
ففي قصيدة عبد المنعم الجلياني، الملقب حكيم الزمان ، والقادم من الأندلس إلي الشام، والمقيم بدمشق، والذي احترمه صلاح الدين... القصيدة التي يمدح فيها صلاح الدين، وهو حول عكا سنة 587، والتي تسمي التحفة الجوهرية :
.. وخص صلاح الدين بالنصر إذ أتي
بقلب سليم راحما للمسـالم
فحطوا بأرجاء الهياكل صورة
لك اعتقدوها كاعتقاد الاقانم
يدين لها قس ويرقي بوصفها
ويكتبه، يشفي به في التمائم
فحاربت للإيمان لا لضغائن
ورابطت للرضوان لا لمغانم
إذن كيف حقق المقاتل حضورا إنسانيا أشاد به اعداؤه، حتي وإن اقتلعهم من ممالكهم التي أقاموها في أرضنا، ورمي بهم إلي حيث قدموا من وراء البحر!!
فارس متميز يشرف بنفسه علي تعبئة الصفوف ويخترق العساكر ، وليس معه سوي غلام واحد، ومعه جنيب له، وقريء عليه جزء وحديث بين الصفين. ومع ذلك فقد أمن كما تنقل الروايات زوجة ريموند التي كانت في قلعة طبريا، بعد تعذر رجوع زوجها، فخرجت بمالها ورجالها إلي طرابلس حيث زوجها، وأمر بأن لا يلحق أذي بفرسانها..
كانت حربه شريفة، وهو قادر علي إنزال الخسائر الفادحة بعساكرهم، ولعل حطين نموذج للقيادة والإرادة، وللهزيمة التي قسمت جيش الصليبيين إلي قتيل وجريح وأسير ولا خيارات غير هذه، وأول الأسري ملوكهم وأمراؤهم، وللجيوش في ذلك خطط كأن يتم التخلص نهائيا من مقاتلي طائفة الفرسان الاسبتار Hospitallers والداوية ـ فرسان المعبد Templers، كان في غاية النبل والشهامة، التحرير غايته، وليس ذبح الناس غير المقاتلين، وإن كانوا جميعا طارئين علي بلادنا، كان يريد لهم أن يغادروا إلي غير رجعة، لذلك كان أهالي الحصون حين تشتد وطأة حصار الجيش الإسلامي عليهم، يطلبون الأمان لثقتهم بخصائص القائد الإسلامي في الرحمة، والتزامه الشروط التي في دينه للحرب.
ولقد كنت راكبا في خدمته في بعض الأيام قبالة الإفرنج وقد وصل بعض اليزكيّة، ومعه امرأة شديدة التحرق، كثيرة البكاء، متواترة الدق علي صدرها، فقال اليزكي: إن هذه خرجت من عند الإفرنج، فسألت الحضور بين يديك، وقد أتينا بها فأمر الترجمان أن يسألها عن قضيتها، فقالت: اللصوص المسلمون دخلوا إلي خيمتي، وسرقوا ابنتي، وبتّ البارحة أستغيث إلي بكرة النهار، فقيل لي: الملك هو رحيم، ونحن نخرجك إليه تطلبين ابنتك منه، فأخرجوني إليك، وما أعرف بنتي إلا منك .
فرق لها، ودمعت عينه، وحركته مروءته، وأمر من ذهب إلي سوق العسكر، يسأل عن الصغيرة: مَن اشتراها، ويدفع له ثمنها، ويحضرها، وكان قد عرف قضيتها من بكرة يومه، فما مضت ساعة حتي وصل الفارس والصغيرة علي كتفه، فما كان إلا أن وقع نظرها عليه، فخرت إلي الأرض تعفر وجهها في التراب، والناس يبكون علي ما نالها، وهي ترفع طرفها إلي السماء، ولا نعلم ما تقول، فسلمت ابنتها إليها، وحملت حتي أعيدت إلي عسكرهم.
(ابن شداد، النوادر السلطانية، ص32 ـ 33)
بعد فتح القدس (27 رجب 583هـ)، منع أي اعتداء، أو أهانة لأي مسيحي، وقد توجهت إليه آلاف من النساء وبنات الفرسان الذين أسروا، أو قتلوا في تلك المعارك، وخدمهم، يسألنه الرحمة، فأمر بإطلاق سراح أزواجهنّ وإخوانهن، ومنح بعضهن هبات مالية مناسبة.
قد يثور سؤال هنا حول قتله لأرناط (أمير الكرك) بعد انتصار حطين، خاصة عن المسوغات التي دفعت القائد الذي شهد له الناس بالرحمة إلي عدم التسامح في هذه الحالة بعينها، حتي أنه ضرب عنق أرناط بيده وأري هنا أن السؤال قائم، لأنه يقطع سرد السمات والأحداث التي ملأت مصادر الدراسة عنه، وقد روت جميعها الحكاية حول غدر أرناط، وإساءته للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، وقد روي ابن شداد أن أرناط وأخاه الملك جفري قد أدخلا علي صلاح الدين، وفي ذهن القائد المنتصر نذر أنه متي أظفره الله بأرناط قتله بنفسه.
وقد كان أرناط هذا، كما يقول ابن شداد كافرا عظيما جبارا شـــــديدا، وكانت قــــد اجتازت به قافلة من مصرـ حرسها الله تعالي ـ حين كان بين المسلمين وبينهم هدنة، فغدرها وأخذها، ونكل بهم، وعذبهم، وأسكنهم المطامير والحبوس الحرجة، وذكروا له حديث الهدنة، فقال: قولوا لمحمدكم يخلّصكم .
في الرواية أن صلاح الدين أمرهم بالمسير إلي موضع عُيّن لهم لنزولهم، فمضوا وأكلوا شيئا، ثم عاد فأستحضرهم، ولم يبق عنده أحد سوي بعض الخدم، وأقعد الملك في الدهليز، وأستحضر البرنس أرناط، ووافقه علي ما قال...
وقال له: ها أنذا أستنصر لمحمد عليه الصلاة والسلام، ثم عرض عليه الإسلام فلم يفعل.

ہ ہ ہ

وبعد قتله عرف أخوه الملك ما جري، فلم يشك أنه يثني به، فطيّب صلاح الدين قلبه، وقال:
لم تجر عادة الملوك أن يقتلوا الملوك، وأما هذا فإنه تجاوز حدّه، فجري ما جري.
(ابن شداد، النوادر السلطانية، ص 33 و78ـ 79)
و(كتاب الروضتين لأبي شامة، 2 /81)
يعلق د. أحمد صدقي الدجاني علي هذه الحادثة بالإشارة إلي نقص أرناط للعـــــهود، وتهديده بغزو البيت الحرام، وعلي الرغم من أن صلاح الدين كان كثير العفو حتي رأي ابن الأثير في عفوه وصفحه تفريطا، فإنه في حادثة أرناط لجأ إلي إنزال العقاب به، إذ لم يكن في الفرنج أشد منه عداوة للمسلمين.
(أحمد صدقي الدجاني، الطريق إلي حطين والقدس، ص 62 ـ 64).
إنها غضبة فارس صبور لدينه، ونبيه، وما من مسوغ واحد عنده للعفو عن محتلٍ وقاتل له مثل سيرة أرناط السيئة.
كان صلاح الدين يعدّ نفسه للقادم، ولم تلبث الحملة الصليبية الثالثة أن وصلت، وكان ما جري حول عكا، لكنه ثبت القاعدة الأساسية، حتي وإن غادر قبل استكمال التحريرـ أن الغازي لغير أرضه سيرحل إن توحد الناس في وجهه، وقاتلوا دفاعا عن دينهم وبلادهم، وتوافر لهم قائد عظيم.
لقد كان صلح الرملة علامة علي نهاية مرحلة صعبة، وترك أسئلة لدي المؤرخين والاستراتيجيين، ولكن ظروف الحرب الطويلة حول عكا قد فرضت تغييرا في التكتيك، وقد ألمح العماد الأصفهاني إلي هذه المتغيرات والظروف ناقلا حجج القادة لصلاح الدين:
فانظر في أحوال البلاد فإنها خربت وتشعثت، والرعايا فإنها تعكست وتعلثت، والأجناد فإنها نصبت ووصبت، والجياد فإنها عطلت وعطبت، وقد أعوزت العلوفات ، وعزّت الأقوات، وبعدت عنا العمارات، وغلّت الغلات، ولا جلب إلا من الديار المصرية، مع ركوب الأخطار المهلكة في البرية.. .
(العماد الأصفهاني/ الفتح 604)
هذه بعض ملامح إنسانيته،
وانظر بعض ملامح الآخر....
سأقدم صورة مضادة من أفعال ريتشارد ملك الإنكليز المخادع بعد سقوط عكا 587هـ:
قبض علي الأسري المسلمين وساقهم إلي تل جنوب تل العياضية، وأمر بذبحهم جميعا، ولم ينج منهم إلا بعض الأمراء ليفتدي بهم ريتشارد بعض أسري الصليبيين..
(Stanly Lane poole, Saladin And The Fall Of The Kingdom Of Jerusalem, London, 1898, p. 306)

ويضيف إلي هذا هارولد لامب:
جاءوا بألفين وستمئة من المسلمين إلي السهل، وأحيطوا ببطانيات علقت فوق حبال، وأوثقت أيديهم، وذبحوا بالسيوف، أو علقوا شنقا .
(لامب/ شعلة الإسلام، ص 217)
في المقابل وصف أحد الرهبان ( أودو الدويلي) معاملة المسلمين للأسري الصليبيين بأنها كانت رحيمة وإنسانية، تختلف عن قسوة الصليبيين علي إخوانهم الصليبيين، بحيث أن المسلمين كانوا يقدمون الخبز والمأوي لأعدائهم الصليبيين، مما دفعهم إلي نبذ دينهم واعتناق الإسلام.
(سير توماس أرنولد، الدعوة إلي الإسلام، ترجمة حسن إبراهيم، القاهرة، 1957، ص108ـ109)
فقد كان يقاتل أعداءه بشرف الجندي، وحين مات تأسف الناس عليه حتي الفرنج، لما كان صدقه من وفائه إذا عاهدهم .
(الصفدي، الوافي بالوفيات 29/105)

مشهدان:
ـ احتلال الصليبيين للقدس: المذابح
ـ تحرير القدس: التسامح
المشهد الأول من وجهة نظر صليبية (احتلال القدس)
أـ فرّ الجانب الأكبر من الناس إلي فناء المسجد لوقوعه في موضع قاصٍ من المدينة... لكن فرارهم إلي هناك لم يسعفهم بالخلاص، إذ سرعان ما اقتفي (تانكريد) أثرهم علي رأس معظم رجال الجيش الذي اقتحم بهم المسجد، وأعمل مذبحة شرسة... ودخل المسجد حشد من الفرسان والمشاة، فذبحوا ذبح الشاة كل من لجأ إلي هناك يبتغي الحماية، وأعملوا القتل فيهم لم تأخذهم رحمة بأحد ما، حتي فاض المكان كله بدماء الضحايا.
وكان ذلك قضاء عادلا من الربّ أمضاه في من دنسوا هيكل السيد بشعائرهم الخرافية، وحرموه علي شعبه المؤمن، فكان لا بد لهم من أن يكفروا عن خطيئتهم بالموت، وأن تطهر الأماكن المقدسة بدمهم المهراق.
كان من المستحيل أن يطالع المرء كثرة القتلي دون أن يستولي عليه الفزع، فقد كانت الأشلاء البشرية في كل ناحية، وغطت الأرض دماء المذبوحين، ولم تكن مطالعة الجثث ـ وقد فارقتها رؤوسها ـ ورؤية الأعضاء المبتورة المبعثرة في جميع الأرجاء هي وحدها التي أثارت الرعب في نفوس جميع من شاهدوها، بل كان هناك ما هو أبعث علي الفزع ألا وهو منظر المنتصرين أنفسهم وقد تخضبوا بالدماء فغطتهم من رؤوسهم إلي أخمص أقدامهم...

قمة المهزلة..

أن نحارب بالسيف و الكلمات..!!

اي سيف و أي كلمات..؟

نحن جوعى, جهلة, سفلة, روث, بقايا..بقايا..!

ثم نحارب من؟

اسيادنا؟

هل يحارب العبد سيده؟

لم يحاربنا سيدنا وهو القوي, ونحن الضعفاء, فهل هذا يعني أننا يجب أن نحاربه؟

هل صمت القوي, دليل ضعفه؟ هل هكذا نقيم الرجال؟

لأننا من الغوغائية أتينا..

ألم اقل أننا سفلة, غوغائيين..بقايا روث..

حثوا أبناءكم على المحبة و المساواة و العدل..
حثوهم على العمل و الصناعة و حب الجمال و عزف الموسيقى..
حثوا ابناءكم على تبني الواقع و معايشته..

كل ما ضاقت عيننا بتفوق خصمنا العاقل, ثارت فينا جيناتنا الكريهة..
نظفوا جيناتكم..الصفراء..الكريهة..المريضة..

راغب..

حسام راغب:

قبل حوالي 1500 عام قال عنترة بن شداد لوالده حينما دعاه لقتال اللصوص الذين هجموا على قبيلتهم.

إن العبد لا يحسن الكرْ و لكن يحسن الحلب و الصرْ

و هو كلام صحيح و يتفق مع ما أوردته لولا أنك فاتتك مسألة بسيطة جدا و هي :

ان العبودية ليست قدرا لا يمكن تغييره مثل نسبك و بلدك و جيناتك بل هي خيار انساني واعي .