الشر بين الشيطان والنفس الأمارة بالسوء..
هل تؤمن بوجود الشيطان؟
هل الشيطان موجود فعلا؟ أم أنه مفهوم مجازي؟
هل الشر من الشيطان؟ أم أنه من النفس الأمارة بالسوء؟
ما هو تعريفك للشر؟
قرأت في مداخلة للزميل ابراهيم عرفات على لسان الأب شنودة الثالث:
اقتباس:إنها حرب مشهورة من حروب الشيطان. وهذه الأفكار التي تحاربك ليست منك، وإلا ما كنت تقاومها كما تقول. ولكن الشيطان عنيد لحوح، لا ييأس ولا يهدأ.
أعتقد أن تخيل كائن شبه إنساني "الشيطان" كمصدر للشر، هو تفكير مبسط جدا، يهمل التطورات التي حدثت في القرن الأخير في مجال علم النفس والاجتماع والبيولوجيا.
أحد التطورات المعاصرة في الظاهرة الدينية هي اختفاء الايمان بالشيطان عند كثير من المؤمنين، خصوصا في الغرب..
ماذا عن بنية اللاوعي التي اقترحها فرويد:
- الشيطان والأفكار الشريرة هي الأجزاء من "الأنا" (الـ "هو")، التي يرفضها الأنا الأعلى (الذي يمثل قيم المجتمع التي تنغرس في الشخص عبر التربية).
بمعنى أن المجتمع يعرف أجزاء من الطبيعة الانسانية على أنها لا تناسبه، فيتم رفضها وكبتها، وعدم الاعتراف بها كجزء من الشخصية، فتتحول إلى "شياطين" تعبث في اللاوعي.
كارل جوستاف يونج:
- الشيطان يلعب دور "الظل"، أي الجزء غير المضاء من الذات. حيث أن هناك جزء "علني" من الشخصية الانسانية. وهناك أجزاء يتم "فصلها" واستئصالها، بحيث تغرق في عالم الظلام. ويعيش الانسان ناقصا، لأن الظل قد يحتوي على جواهر نفيسة ولكنه لا يجرؤ على الاقتراب منها.
كونراد لورنتس:
- يتحدث في كتابه "ما يسمى بالشر" عن غريزة العدوانية الموجودة لدى جميع الكائنات الحية للتكاثر وللحفاظ على حياتها. ولكن التفكير الانساني المبسط لا يراها كجزء أساسي من غريزة البقاء، بل يرفضها بحيث يصف الذئب بأنه "شرير".
أو تعتبر العدوانية البشرية والحروب أو الحسد والجشع تدخلات خارجية، لا علاقة لها بالطبيعة الانسانية "الطاهرة" في أساسها.
بينما أي نظرة محايدة إلى عالم الطبيعة تظهر كم أن هذه الأمور "عادية" وضرورية لبقاء الكائنات الحية وتكاثرها.
لست أذكر بالضبط من كتب عن "تفاهة (أو بساطة) الشر" (حنة آرندت):
- عندما تمت محاكمة "آيشمان" أحد جلاوزة النظام النازي، الذي تسبب في موت الآلاف في غرف الغاز، بحث الكثيرون عن الخطأ الأساسي في التركيبة النفسية لهذا الانسان. فلم يجدوا شيئا. فالرجل كان يقوم "بعمله" فقط. الرجل كان بيرقراطيا ينفذ التعليمات على أفضل شكل ممكن. على العكس تماما، الرجل كان منظما ونظيفا ولطيفا في تعامله.
تجربة "ميلجرام":
- معظم الناس العاديين يمكن أن يتحولوا إلى "وحوش" من الناحية أخلاقية، يعذبون الأبرياء، بدون روادع أخلاقية تذكر، إذا وضعوا في ظروف مناسبة من حيث إطاعة السلطة.
السياسة المعاصرة:
- هل الشيطان الأكبر هو أمريكا ورئيسها جورج بوش؟
أم أن الشيطان قد استحوذ على الارهابيين المسلمين وتتطلب الارادة الالهية الخيرة القضاء عليهم عن بكرة أبيهم.
وهل ظهر وجه الشيطان فعلا في دخان برج التجارة المحترق؟
وغير ذلك كثير..
الدراسات التاريخية تظهر أن آلهة الشعوب المهزومة تم احتقارها وقهرها، فهبطت من عالم التقديس إلى عالم الشر والاحتقار.
شكل الشيطان كما نراه في الرسوم المسيحية في القرون الوسطى (الحافر، القرون ولحية الماعز، الذيل ..) هي من بقايا الآلهة أنصاف البشر، خصوصا الاله بان (Pan).
وإذا نظرنا إلى أهم صفات الشيطان المسيحي في القرون الوسطى، نرى أنها شهوانيته وشبقه الجنسي.
وفي محاكم الساحرات، نرى أحد أهم التهم الأساسية هي العلاقة الجنسية مع الشيطان.
وأحد أهم علامات التلبس بالشيطان، هو الشهوانية الزائدة. وهذا يترابط بشكل مذهل مع الكبت الجنسي العام في المجتمع. بينما لا نرى هذه الظواهر في المجتمعات الأكثر تقبلا للشهوة الجنسية.
عند الاغريق والرومان، لم يكن هناك شيطان أو كائن غيبي مختص بالشر، بل كانت هناك أسرة كبيرة من الآلهة، ولم يكن منها من هو مختص بالخير أو الشر.
وهذا الاختصاص إنما هو من نتائج توحيد وظائف الآلهة وتقليل عددها (ماني).
في الفكر الاسلامي نرى أن سبب الشر غير واضح. فمن جهة هناك الشيطان الذي يوسوس للناس (أي أن الناس أبرياء وخيرون، ولكن يمكن إغواؤهم). ولكن هناك النفس الأمارة بالسوء (أي أن الشر منهم).
من المسئول إذا عن الشر؟
هل الشيطان يوسوس للناس فقط بالسرقة والكذب والغش؟
بينما تحدث الحروب والمجازر دون تدخله؟
بالقدر نفسه نرى الاله الواحد يحتكر الخير لنفسه بحيث يطرح سؤال الشر نفسه:
إما أن الله لا يريد إزالة الشر، فهو ليس خيرا بشكل مطلق.
أو أنه يريد إزالة الشر، ولكنه لا يستطيع، أي أنه محدود القدرة.
كذلك نرى التصورات عن عالم ما بعد الموت، الجنة، حيث يعيش المؤمنون في حياة سعيدة، دون وجود للشر بينهم.
كيف حدث ذلك؟
هل تغيرت نفوسهم، فلم تعد تأمر بالسوء؟
هل حدث لهم غسيل دماغ، بحيث اختفى الحسد والجشع والطمع بينهم؟
هل قضوا وقتا في "معسكر تأهيلي"، بحيث لم يعودوا يحاولون حيازة ممتلكات جارهم في الجنة، أو اشتهاء امرأته؟
أم أن هناك شرطة وعسس ومطاوعة في الجنة لضبط الأمور؟
كل ذلك يحدث عند محاولة بناء صورة مبسطة للانسان تظهره طاهرا بشكل ما، بينما تعطي وظيفة المخالفة والتمرد والشك والشر لغيره.
فلا يجرؤ في هذه النظرة على مواجهة نفسه، ورؤية دوافعه المرفوضة، على أنها جزء من شخصيته وبنيته النفسية.
مع أطيب التحيات