والآن لننظر كيف صنع الطاهر وطار الرواية , حتي منتصف الرواية تقريبا يرواح الكاتب بين زمنين كل فصل في زمن مختلف بعد الفصل الأول والذي يصور الحاج كيان وتأملاته في أيام السبت حينما يستولي الحشيش علي عقله ويغوص في تأملاته الروحية – فالحاج كيان يغيب عن الماخور يوم السبت والأحد من كل أسبوع الأول لتأملاته وهو في غيبوبة الحشيش والثاني للمسجد وباقي الأسبوع للماخور – يبدأ في المرواحة بين الزمن الحاضر والزمن الماضي , الزمن الماضي لحياة الحاج كيان أيام شبابه ودراسته في جامع الزيتونة والزمن الحاضر في تصوير الماخور وما يدور فيه الآن وبطريقة هندسية يظل يرواح بين الزمنين حتي يصل إلي الفصل المعنون ( جاري يا حمود دبر علي ) لكي يضع الزمنين في زمن واحد هو الزمن الحاضر ولكن الزمن الماضي لايختفي كلية بل يتضفر في ثنايا كل فصل بطريقة بطريقة عضوية مع الزمن الحاضر , الزمن الماضي يجعله الطاهر لفترة شباب الحاج كيان وتحمسه بعد التلقين الديني ,أركز علي كلمة التلقين التي تعني غياب كل تساؤل ووأد كل محاولة للتفكير والنقد لدي التلميذ , وهنا هجوم علي التعليم الديني من الطاهر الذي يراه نوعا من القهر للتلميذ حتي عندما يضطر للاستجابة لرغبات الشبخ الجنسية الشاذة وفي هذا الربط تصوير بشع لسطوة التعليم الديني الذي يجعل التلميذ في تلك المرحلة العمرية مندفعا وهو مغسول الدماغ وقد يفعل ما لا تحمد عواقبه وهو ما نراه من بعد حينما يبدأ الحاح كيان دعوته للإصلاح في أشد الأماكن تطرفا وهو الماخور ولكنه وهو يدخل الماخور يكتشف الحقيقة أن الدين لايفيد هنا وأن كل ما تلقنه لا يجدي نفعا فالمسألة أبعد من ذلك , المسألة لها علاقة بواقع يجب أن نعرف كيف تسير آلياته وما الذي أوصله إلي هذا الحد وأن المسألة أنه لا علاقة بين بنية فوقية منعزلة تماما عن هذا الواقع لأن الواقع يفرز بنيته الفوقية حسب آلياته هو دون النظر إلي بني فوقية معزولة و عندما يبدأ الحاج كيان في الصراع مع هذا الواقع بطريقة ديماجوحية يكتشف أن هذا الواقع لن يستجيب لتلك الديماجوجية لأنه ببساطة مدرك تماما لأزمته وواع أشد الوعي بمشكلته ولا يقبل هذه الخطب وتلك السفسطة وأن بنيته الفوقية لن تتغير إلا إذا تغيرت بنيته التحتية حتي ينتهي الأمر إلي وقوع الحاج كيان نفسه تحت سطوة الواقع المريرة وتبدأ روح التساؤل في الظهور مع حديث العنابية معه والذي ألمح له الزميل / عروة سابقا وبطريقة سريعة كما هي حماسة الشباب يتخلص من زمرة في معركة سريعة وينتهي الأمر به إلي السجن في ( كيان ) بعد جريمة غامضة وكأن الطاهر وطار عندما يرسله إلي ( كيان ) كأنما يقول لنا أن المنفي كان أولا عقابا له لعدم فهمه وثانيا أنه ضرورة للتخلص مما تلقنه والبعث من جديد , الحاج كيان المصلح الحقيقي وليس المصلح الزائف

يتبع

كوكو

where are you ( HALA ) ? it,s your business

كوكو

---

إذا كنا قد أشرنا إلي وجود زمنين يتناوبان السرد هما الماضي والحاضر للحاج كيان والماخور , فإن هناك زمنا ثالثا لا علاقة له بالسرد في الرواية ولكنه زمن يمكن أن نطلق عليه الزمن الداخلي للشخصية وأقصد هنا أن الزمن الماضي يمر علي الشخصية وتعيش فيه حضورا فعليا وواقعيا في الماضي وكذلك هناك زمن حاضر تعيشه الشخصية أيضا واقعيا وفعليا ولكن الزمن المقصود هنا هو زمن لم تعشه الشخصية إلا بروحها فلا هي وجدت فيه ماديا وفعليا ولا عاشته واقعيا , هذا الزمن هو زمن التراث الخاص بالشخصية والزمن المقصود هنا هو زمن العصر العباسي الثاني الذي وجدت فيه شخصيات مثل المتنبي وحمدان قرمط وذكروريه وهذا الزمن لا يتم استحضاره في الرواية لشخصية كيان إلا في أيام السبوت حين يتعاطي الحشيش ويغيب في تأملاته الروحية , تولد هذا الزمن لدي الحاج كيان بعد دخوله وخروجه من سجن ( كيان ) والطاهر وطار وهو يرسم هذا الزمن الداخلي للشخصية يجعله لها وحدها دون باقي الشخوص ولا يؤثر في السرد ولكنه يؤثر في الحدث , ذلك أن فكرة إقامة عرس بغل تتولد لدي العنابية والحاج كيان - كل علي طريقته – العنابية لجمع المال وإنهاء حياة ربة بيت الدعارة والعيش مع حبيبها الذي سوف تمارس فيه أمومتها , والحاج كيان كوسيلة للتوسعة علي بعض المحرومين - كحل مرحلي - من أسر المختونين الذين سيقام عرس بغل بمناسبة ختانهم
هذا الزمن الداخلي هو الحل الذي وجده الطاهر وطار لحل معضلته الاجتماعية , إذا كان هذا المجتمع فاسد حتي النخاع وقد فشلت وسيلة التيار الديني في إصلاحه والبعد الاشتراكي بفهم الطاهر له ( الماركسي ) غير مقبول فإن الحل يكمن في التوصل عبر التراث لحل مسوغ لدي الشخصية التي تربت تربية دينية وتراثية لفهم تراثها ودينها بشكل آخر فإذا كان المتنبي قد تخلي عن أحلامه الأولي وبدأ يصانع في أخريات حياته عندما عرف أن الدنيا لمن غلب فإن هذا هو الجانب التكتيكي لتحقيق فكرته وإذا كان التراث قد وجد الحل الموضوعي في فكر حمدان قرمط بإلغاء الملكية الفردية وأن الجميع يملك كل شئ - وبطبيعة الحال لا يذكر الطاهر وطار أي بعد آخر لتلك الثورة سوي البعد الاجتماعي – فإنه يكون قد أوصل الشخصية لحل وسط لتسويغ تحولها إلي فكرة تحقيق العدالة الاجتماعية بهذا الشكل المتطرف والاستيلاء علي كل شئ ليكون ملكا للجميع , ملمح آخر نراه في هذا الزمن الداخلي للشخصية وهو الناحية الحسية والعاطفية المتمثلة في شخصية خولة محبوبة المتنبي والتي تتماهي مع العنابية / حياة النفوس ,وتأثير هذا الملمح في الحدث هو في علاقة الحاج كيان بحياة النفوس التي تتماهي مع العنابية ولكن تلك العلاقة لا يمكن أن تتحقق لأن شبابه قد ولي فلا يملك إلا أن يفكر في تحريرها وخلاصها , إضافة إلي هذين الملمحين في هذا الزمن الداخلي نري ملمحا وهو الذي أشار إليه الزميل عبدون وما يوحي به اسم كيان في اللغة وهو معني الحياة والموت وطبيعة التناقض الذي يحمله الوجود والصيرورة التي تتناول هذا الوجود في كل أشكاله
كل هذه الملامح الخاصة بالزمن الداخلي تتداخل فيما بينها لكي تصنع لنا نسيج الشخصية وترسمها لنا بتلك الريشة الجميلة

يتبع

كوكو

نأتي إلي النهاية المفتوحة للرواية , في النهايات المفتوحة يكون قصد المؤلف أن يجعل المتلقي مشغولا بالتفكير في عمله لمدة أطول من التي يجعلها للنهايات المغلقة ذلك أن المتلقي يكون منشغلا بمجموعة من الحلول لهذه النهاية المفتوحة وبالتالي يمكنه أن يتأول العمل عدة مرات علي ضوء كل نهاية , وقد استطاع الطاهر وطار أن يجعل النهاية مفتوحة بعدة جمل بسيطة فبعد أن اكتملت غنيمة عرس بغل كان هناك مجموعة من الطامعين في الاستيلاء عليها وقد أعلنوا عن ذلك في الرواية مثل حمود الجيدوكا وخاتم الهزية ومعاونيه ولكن ما أن بدأ خاتم الهزية يكشف عن وجهه حقيقة معلنا أنه سوف يسرق الغنيمة يكتشف أن الحاج كيان قد تحسب لذلك وأفسد خطته لنقرأ النهاية معا :

((-قلت لكم الآن أو فلا، دعاني، وانصرفا إلى مركزيكما.
أصدر خاتم الأمر، ثم تخلص من مساعديه، وأسرع إلى البهو حيث تقف العنابية، وبعض النساء.
-»بيت«، أسكتهم وإلا طعنتك.
أصدر الأمر للشياد الذي لم يجد بدا من الهتاف:
-بات يا ولدي بات.
سكتت القصبة، هدأ البندير، توقفت حركات حياة النفوس. تنفست من أعماقها. التفت الجميع إلى الشياد منتظرين، الإعلان، عمن قطع هذه الرقصة الجميلة الربانية، بطريقة غير لبقة. كان في الإمكان وضع المبلغ بين شفتي، الراقصة أو في حزامها.
-اسمعوا. القاعة ممتلئة بنا. هذه خناجرنا، وهذه أسلحتنا. كل ما نطلبه، هو أن يضع الجميع، رجالا ونساء، كل ما يمتلكون من نقود أو حلي، بما في ذلك العنابية. وخزانتها، وما جمعته منذ أول أمس من مال وذهب.
لم يكد خاتم يتمم عبارته، حتى هوت الهراوة على قفاه بضربة قوية. ترنح، سقط. برزت جماعة متفرقة هنا وهناك، تحمل العصي والهراوات، بينما برزت جماعة أخرى، تحمل الخناجر والمسدسات.
-المسألة كما قدرت.
قال الحاج كيان، ثم أصدر صرخة كان اتفق عليها مع جماعة أخرى. برز عدة رجال في ألبسة مختلفة وراحوا يطمئنون الجميع.
-كل شيء مرتب على أحسن ما يرام. لا تخشوا شيئا. أنتم في الأمان التام.
انطفأ الضوء. ارتفع الضجيج. ارتفعت صيحات هنا وهناك. انطلقت رصاصة، تشق الظلمة، امتلأ الشارع بصفارات الإنذار. ))

لو أن الرواية انتهت بدون السطرين الأخيرين لكانت النهاية تقليدية وخرجنا من القراءة دون التفكير كثيرا بتأويل الأحداث فالطبيعي أن عرس بغل قد أنقذ من اللصوص والانتهازيين ولكن يأتي السطران الأخيران ليمنعا هذا التأول , ذلك أننا نعرف أن حمود الجيدوكا هو الآخر كان متربصا ويريد فعل نفس الخطة ولم يحضر علي مسرح الأحداث في ليلة العرس الأخيرة , أيكون هو من أطفأ الضوء وأطلق الرصاصة ولكن علي من أطلق الرصاصة علي خاتم الهزية غريمه اللدود أم علي الحاج كيان أم علي العنابية أو أو أو كثير من الاحتمالات ننري علي الذهن وبالتالي ندخل في تأويلات أخري متعددة , أم أن من أطفا الضوء هو الحاج كيان نفسه وهو من أطلق الرصاصة علي خاتم الهزية أو حتي العنابية , ربما وهنا نكون بإزاء تأويل آخر أن الثورة الاجتماعية لم تقنع بالغنيمة المرحلية وقررت أن تفوز بالكنز كله لصالح الفقراء , وربما لا يعرف الكاتب نفسه وترك الباب مفتوحا لشتي التأويلات ويكفيه أنه بسط الفكرة للقارئ وحللها علي ضوء ما يراه ويترك للقارئ أن يقوم هو بتنفيذ النهاية التي يراها , ولمن ينحاز في النهاية , وهذا ما أنحاز إليه أنا ( كوكو ) .


كوكو

شكرا لهذا التحليل الجميل

شكرا عزيزي / rafninni لمرورك وتقريظك الذي لا أستحقه ولا أدري لماذا غاب الزميل / عروة صاحب الموضوع ؟

من حوار أجرته الشرق الأوسط حديثا مع الكاتب

اقتباس:ألا يبدو تشبثكم بالجدلية التاريخية الماركسية نوعا من الدوغماتية الأيديولوجية في ظل تطور اجتماعي وأيديولوجي غير من المفاهيم اليسارية بوجه عام.

ـ إذا كنتم تعنون بالدوغماتية التعصب للرأي والعقيدة فأنا لم أكن دوغماتيا، وشعار جمعية الجاحظية الثقافية التي أسستها وكما تعرف حملت شعار لا إكراه في الرأي.

وأضيف رفعا لأي لبس بأن خلافا لما أشاعه علي أصحاب التفكير السطحي والمعلب أنأ لم أفهم الماركسية خارج خاصية التطور والابتعاد عن الجمود، وهذا ما يفسر موقفي من الإسلاميين، الذي كان وراء حملة شرسة من طرف اليساريين المنغلقين على الرأي الآخر. أنا كتبت عن التاريخ الذي عايشته وتفاعلت معه دون حياد، وكل شخوص رواياتي نابعة من الواقع ومشكلة تحت وطأة مقاربتي الروائية المذكورة وكلها متابعة لحركة التطور الوطنية في علاقتها مع مثيلتها العالمية. في رواياتي «عرس بغل والحوات والقصر» تناولت الحكم في فترة الرئيس هواري بومدين كنظام عصابة، و«العشق والموت في الزمن الحراشي» لا تخرج عن نطاق متابعتي لدور البورجوازية في مسار الثورة التحريرية والحكم الوطني في الجزائر بعد الاستقلال والردة التي عرفتها البلاد على أيدي ثوارها أنفسهم.

* الشيء الذي يميزكم روائيا يتمثل في توظيفكم التراث ضمن الرؤية الجدلية المذكورة وهذا ما أعطى لرواياتكم صبغة أدبية ثنائية تقوم على إنسانية الطرح ووطنية وقومية المرجعية.

ـ ماضينا الديني والسياسي حافل بصراعات ومواقف مضيئة وملحمية عظيمة تدعو إلى التأمل والتمحيص والتوظيف على النحو الذي يضمن زخما روائيا بديعا ولدينا نماذج أهم من أوديب ومن مرجعيات غربية أخرى. إشارتك إلى أهمية التراث في إبداعي الروائي مهمة جدا، لأنها تعكس نوعا من الأصالة الفكرية والوجدانية التاريخية غير المتناقضتين مع منظوري الماركسي غير المعادي بدوره وبالضرورة للدين الإسلامي والقيم العربية.

الكلام أعلاه علي هذا الرابط


كوكو

من الغريب ان يبدأ الروائي واسيني الاعرج تلميذا نابغة للروائي وطار وان يكون اول بحث له بعد التدرج عن اعمال وطار ولكن الرجل على عادة ناكري الجميل تمرد ببشاعة لا يقبلها الذوق وشتم استاذه وطار على اعمدة الصحف

نتمنى الشفاء للروائي طاهر وطار لاكمال مشواره الادبي الذي نقل الرواية العربية نقلة نوعية حقيقية وقد كانت روايته اللاز l'As
الغذاء اليومي لكل الثوار العرب وخاصة في المثقاومة الفلسطينية قبل الردة التي تقودها السلفية الظلامية

شكرا استاذ coco

العزيز الأستاذ كوكو
قرأت مداخلاتك من أولها و حتى النقطة الأخيرة في آخرها و أتفق معك تمامااا في كل حرف و فاصلة لدرجة أني قلت في نفسي لو أن أحدا حذف اسم كوكو و وضع اسمي لما شككت للحظة في أني أنا من كتب تلك المداخلات!
لم أكن أعلم بوجود هذا الشريط قبل الأمس و على الأرجح لم أكن في النادي في تلك الأيام و الا لما ترددت في مشاركتكم متعة الخوض في احدى روايات الرائع الراحل الطاهر وطار.

شكرا لك عزيزتي هالة وربما أفكر عندما يسمح الوقت بدراسة باقي أعمال الراحل الكبير فكوني قريبة لأني أحس أن أعمال الطاهر وطار تتفق كثيرا مع أفكارك وستجدين الكثير لقوله في هذا الشريط

ووردة أخري



كوكو