"كما ورد من المصدر"
------------------------------
من كتب التاريخ الإسلامي
تداخلت عدة عوامل نتج عنها سجل مكتوب وصلنا على أنه يحكي أحداث التاريخ الإسلامي. ومن أهم هذه العوامل: الأمية والفتوح، السياسة السائدة، الإسرائيليات، تنوع الثقافات، الميول الشخصية، الأحداث الجارية زمن التأليف، وعوامل كثيرة غيرها.
وفيما يلي سنتحدث عن الأمية والفتوح، السياسة السائدة، والإسرائيليات، دون بقية العوامل الأخرى. لأن لها تأثيراً مباشراً على كتابة التاريخ، ولأنها أقوى من تأثير العوامل الأخرى:
الأمية والفتوح
بما أن العرب أمة لا تقرأ ولا تعتمد التوثيق الكتابي لتسجيل الأحداث، فقد حُرِمْنا من التعرف على تفاصيل الأحداث اليومية المصاحبة لدعوة الرسول. ولو استقرت الأوضاع السياسية بعد وفاة الرسول، فسيتناقل الناس قصص الأحداث التي وقعت زمن رسول الله عن طريق المشافهة كما اعتاد العرب. ومتى ما انتشرت الكتابة، فستوثق تلك القصص بشكلها الأخير الذي أصبحت عليه قبيل التدوين. وكلما تم توثيق تلك القصص كتابياً بوقت أبكر، كلما قلّت نسبة التشويه والاختلاف الناتجة عن التناقل الشفهي. ولو حدث هذا فسيصلنا تاريخ مختلف عن التاريخ الذي بين أيدينا عن الأحداث المصاحبة للدعوة، وأقرب للدقة.
لكن، وكما هو معروف، فقد خرجت قبائل جزيرة العرب عن طاعة دولة الإسلام بعد وفاة رسول الله، وأعلنت الحرب على المسلمين، مثلما أعلن غير العرب حربهم على المسلمين. فانشغل المسلمون بالحروب، عن رواية الأحداث. وتسبب تواصل تلك الحروب بتناقص شهود العيان لأحداث التاريخ الإسلامي زمن رسول الله بشكل حاد خلال السنوات القليلة التالية.
تزامن هذا مع دخول أعداد هائلة من الناس تحت حكم دولة الإسلام، من مختلف المعتقدات والأديان، خلال فترة زمنية قصيرة. مما جعل من بقي من شهود عيان لا يمثلون نسبة تذكر في مجتمع دولة المسلمين، من جهة، وعدم توفر المناخ المناسب لمن بقي منهم لرواية ما يعرفونه من أحداث من جهة ثانية. وبموتهم فُقد المصدر البشري الحقيقي لرواية التاريخ، وفتح المجال لمختلقي القصص ليكونوا شهوداً على أحداث لم يروها.
وعندما استتب الوضع السياسي في أجزاء كبيرة من دولة المسلمين، زمن بني أمية، كان لا يزال هناك عدد قليل من رفاق رسول الله على قيد الحياة، لكن الحكام تجاهلوهم، لنفور الصحابة الأتقياء منهم، ولعدم رغبة الحكام سماع أو تداول حقيقة ما حدث. واعتمد أولئك الحكام بدءً بمعاوية على أناس لم يخضعوا لدولة الإسلام إلا حديثاً، ولم يعيشوا الإسلام وأحداثه، ولديهم الاستعداد لاختلاق القصص وكتابتها بالطريقة التي يريد السياسي، من الناس أن يصدقوا أنها التاريخ. كما فعل عبيد ابن شرية الجرهمي[1] في العصر الأموي، وكما فعل خلفاء بني العباس مع ابن إسحاق وغيره. وعدم استعانة أولئك الخلفاء بأي صحابي مقرب من الرسول لكي يروي لهم ما يعرف من أحداث، يظهر الوجهة التي رغب خلفاء قريش أن يتجهوا لها في كتابة تاريخ الإسلام.
السياسة السائدة
يمكن تعريف التاريخ بأنه: سجلٌ للأحداث يفرضه السياسي على الناس ليصدقوا حدوثه، ولو لم يحدث. والتاريخ المكتوب الذي وصلنا عن أحداث عصر رسول الله وصدر الإسلام، فرضه علينا الحكام العباسيون، الذين قاموا بإعادة كتابته بعد أن قضوا على التاريخ الذي فرضه الأمويون قبل ذلك.
والعباسيون هم سلالة العباس ابن عبد المطلب، والأمويون يدينون بدولتهم لأبي سفيان ابن حرب. والرجلان كانا صديقين حميمين ونديمين في الجاهلية، ومن سادة قريش وكبرائها. فأبو سفيان أسند له لواء الحرب، والعباس كان يتولى سقاية الحاج. وعندما فتحت مكة، لم يكن هناك من يوازي مكانة هذين الرجلين فيها، لأن جُل سادة قريش الكبار هلكوا في أوقات سابقة. وبرغم أنهما قد أشهرا إسلامهما يوم الفتح – أو هكذا نقلت كتب الأخبار – إلا أن امتناعهما عن دخول الإسلام طوال عشرين سنة سبقت فتح مكة، يجعل من الصعب قبولهما للإسلام كعقيدة بعد أن أخضع المسلمون مكة، وفقد كل منهما مكانته الاجتماعية. ولعل الأقرب للواقع والتصديق هو أنهما بقيا على عدائهما للإسلام، وأضمرا الثأر منه متى حانت لهما الفرصة.
وقد بقي العباس ابن عبد المطلب وأبا سفيان ابن حرب متلازمين بعد الفتح، ويقول الإخباريون أنهما كانا حاضرين في المدينة عند وفاة رسول الله، وحافظا على صداقتهما القوية حتى ماتا في العامين الثاني والثلاثين والثالث والثلاثين للهجرة. وعندما توفي رسول الله انحازا في حزب معارض لحكومة أبي بكر، كأول محاولة عملية للاستيلاء على حكم دولة المسلمين، مستخدمين علي ابن أبي طالب وطلحة والزبير في واجهة الحزب. وتقول كتب السير والتاريخ أنهما حاولا إقناع علي بالثورة العسكرية على حكم أبي بكر ووعداه بالمدد، سلاحاً ورجالاً، لكن علي - لأمر ما - لم يقبل بعرضهما.
ويبدوا أن اتفاقهما على الثأر من الإسلام الذي قوض سلطة قريش في مكة، قد تحول لتركة أورثاها نسلهما، الذين نجحوا - دون بقية المسلمين من قرشيين وغيرهم – في الاستيلاء على حكم "دولة الخلافة" لمدة سبعة قرون في المشرق وأكثر من ذلك في الأندلس.
وقد تحول حلم قريش بالاستيلاء على الحكم إلى واقع، عندما بايع بعض الناس علي ابن أبي طالب بالخلافة، فامتنع معاوية ابن أبي سفيان عن المبايعة والتحم مع علي - حليف والده السابق - بمعركة طاحنة، كانت الحرب الأهلية الأولى في الإسلام. وتوقفت المعركة دون منتصر وخاسر للزعيمين، وإن قضت على عشرات الآلاف من المسلمين. وتم الاتفاق بين علي ومعاوية على اقتسام الدولة، بحيث يكون لعلي جزيرة العرب والعراق وما ورآها من جهة فارس، ولمعاوية الشام ومصر وما وراءها من شمال أفريقيا. ولم يطل بعلي المقام، حيث قتل، فأصبح معاوية الحاكم الأوحد للدولة عام 40 للهجرة. واستمر معاوية في الحكم لمدة عشرين عاماً، مكنته من توطيد حكم قريش على دولة المسلمين، وصبغه بصبغة ملكية مماثلة لحكم البيزنطيين، بعيداً عن الإدارة الإسلامية التي كانت سائدة في عصر الرسول. واستمر توارث الحكم في بني أمية حتى انقلب عليهم بنو العباس ابن عبد المطلب في العام 132 للهجرة واستولوا على الحكم وتوارثوه، ليستمر الحكم القرشي للدولة، إلى أن قضى المغول على آخر سلاطينهم في العام 656 للهجرة.
ولو قمنا بمراجعة سريعة لكتب السير والمغازي والتاريخ، فسنجد أن ما وصلنا منها يعود للعصر العباسي، ولم يصلنا من الكتب التي كتبت في العصر الأموي شيء. وكتب السير والمغازي والتاريخ هي البداية لكل ما عرف فيما بعد بكتب التراث الإسلامي، وتفرع لعلوم مختلفة ومنفصلة عن بعضها البعض في قرون لاحقة، على شكل علم الفقه والحديث والتفسير والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وغيرها. حيث بدأت كلها بقصص عن عصر الرسول يتناقلها الناس فيما بينهم مشافهة، ثم جمعت في وقت لاحق على شكل كتب. ولا يوجد كتاب واحد منها سجل الأحداث في وقتها، أو نقل قصصه عن شهود عيان عايشوا الحدث. وإنما يقوم المؤلف بجمع الروايات والقصص بالشكل الذي أصبحت عليه في وقته، ويعيد صياغتها بما يتواءم مع نظرة السياسي، ويخدم ترسيخ سياسته السائدة، ولا يتعارض معها أو يدينها.
وتوثيق تلك القصص في كتب، ابتدأ بتكليف سياسي. فأول من دون التاريخ في الإسلام، اليمني عبيد ابن شرية الجرهمي، بتكليف شخصي من معاوية عندما كان على رأس الحكم. وهو ما يعني أن الأمويين هم أول من كتب تاريخاً لكي يتوارثه الناس عن الإسلام. معتمدين على أناس لم يعرفوا الإسلام ولم يعايشوا الأحداث التي صاحبت الدعوة، ولم يستعينوا بأي شاهد عيان من رفاق رسول الله برغم بقاء البعض منهم على قيد الحياة عندما استدعى معاوية، ابن شرية، ليكتب له التاريخ. لذا فمن المسلم به أن معاوية وكل خلفاء قريش، لم يرغبوا بكتابة أحداث التاريخ التي وقعت بالفعل، لأنها لا تتوافق مع سياساتهم، وتٌدينها. فتوجب على المؤرخ أن يعيد صياغة تاريخ صدر الإسلام وحياة الرسول وتعديل أحداثها بما يتوافق مع هذه السياسة. وابن شرية ليس لديه مانع من إرضاء السلطان الذي كلفه، لأنه يرغب في مكافأته، وليس لديه رادع يمنعه. وقد طلبه معاوية من صنعاء فوفد عليه وأمره أن يكتب عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم، وسبب تبلبل الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلاد، فأجابه بما أمر به معاوية أن يدون. فكتب كتابه الملوك وأخبار الماضين" الذي لابد وأنه سن الخطوط الحمراء للمؤرخين بعده والتي تعتمد التوافق مع السياسة، ولو خالفت الحقيقة، وهي خطوط بقيت لا يستطيع أحد تجاوزها.
وحرص السياسي على توثيق التاريخ، ليس حرصاً على توثيق الحقائق، ولكن حرصاً على طمس تلك الحقائق إلى الأبد. لأن الناس سيعتبرون الأحداث هي تلك التي تم توثيقها، ولن تتذكر الأجيال اللاحقة الأحداث الحقيقية. ولو ترك التاريخ تتناقله الألسن مشافهة فسيبقى من حقيقته بعض الأحداث، لكن توثيق تاريخ مزيف سيطمس كل الأحداث الحقيقية للتاريخ. وهذا ما فعلته قريش بتاريخ الإسلام، ويفعله الطغاة دائماً لطمس تاريخهم الحقيقي وتوثيق تاريخ مزيف.
واستمر التاريخ الإسلامي يكتب بقلم الأمويين الذين لا يقرون للإسلام بالتبعية، إلا بمقدار ما يخضع لهم رقاب الناس. ولما انقلب عليهم أبناء عمهم – العباسيون – أعادوا كتابة التاريخ الذي كتبه الأمويون. ليس من أجل كتابته بدقة وكما حدث، ولكن لكتابته بطريقة تتوافق مع سياستهم، وتطمس كل ما كتبه الأمويون، وما يمجد وجودهم، وإن اتفقوا معهم على مسخ التاريخ. لهذا لم يصلنا كتابات أقدم مدوني السير المستقلين، مثل عروة ابن الزبير (ت 93 هـ)، و أبان ابن عثمان ابن عفان (ت 105 هـ)، وشرحبيل ابن سعد (ت 123هـ). التي قد تكون أقرب للحقيقة مما سطرته يد ابن شرية، الذي لم يصلنا ما كتب، ولا غيره ممن اعتمدتهم السياسة الأموية مثل ابن أبي بكر ابن حزم (ت 135 هـ). وأشهر ما بأيدينا من كتب المغازي والسير كتبها الواقدي (ت 207 هـ)، والبلاذري (ت 279 هـ)، والطبري(ت 310 هـ) ، إضافة لسيرة ابن هشام (ت 218 هـ) ، والذي هو عبارة عن كتاب معدل ومنسق لكتاب سبقه لابن إسحاق (ت 151 هـ)، ويحمل نفس الاسم – السيرة.
ولم يقتصر حرص العباسيين على محو آثار الأمويين من كتب التاريخ بل ومن كل ما أمكنهم الوصول إليه أو العثور عليه، وفيما يلي مثالين من قبة الصخرة في القدس على هذه المحاولات:
1. عند المدخل الشرقي لقبة الصخرة صفيحة نحاسية نقش عليها كتابات عربية كتبت عند بناء القبة في عهد عبد الملك ابن مروان (ت 86هـ)، ولكن اسمه غير موجود، لأنه ألغي بإضافة السطرين الأخيرين واللذين يذكران المأمون بديلاً له، وكأن العمل قد تم في ربيع أول من عام 216 هجرية، وكأن القبة أنشأها المأمون.
وكما هو واضح، فالسطر الثالث يقول: بنى هذه القبة عبد الله عبـ
السطر الرابع: ــد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين في سنة (لاحظ التعديل الذي تحته خط)
السطر الخامس: اثنين وسبعين تقبل الله منه ورضي
السطر السادس: عنه آمين رب العالمين لله الحمد.
وبطبيعة الحال فالمأمون ولد عام 170 وتوفي عام 218 هـ[2].
والعباسيون مسخوا ما كتبه الأمويون من تاريخ للإسلام وأورثونا تاريخاً كتبوه هم. ويكون التاريخ الذي وصلنا قد تم تحوير وقائعه وأحداثه بإشراف قرشي، أموي أولاً، ثم عباسي أخيراً، إضافة لتضمينه قصصاً اختلقها أقوام آخرين.
الإسرائيليات
وهي قصص مختلقة يحكيها رجال الدين اليهود للعامة، كتشريعات دينية لم يأمر بها الله، ولأحداث ووقائع تاريخية خيالية لم تحدث.
ولأن هذه القصص أسرع وسيلة لتحول الناس عن الدين إلى تشريعات بشرية، فقد نزلت الآيات القرآنية على الرسول منذ وطئت قدماه يثرب - أرض بني إسرائيل - تفضح ممارساتهم: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ{42} البقرة.
وتبين للمسلمين أساليبهم: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ{79} البقرة.
وما تؤول إليه إسرائيلياتهم: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً{46} النساء.
لأن بني إسرائيل حرصوا، منذ ظهور الإسلام في يثرب، على غواية المسلمين ونشر القصص بينهم: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{109} البقرة.
فجاء تحذير القرآن للمسلمين بعدم الإصغاء لهذه القصص أو تناقلها، لأن نشرها وتصديقها يكون على حساب نصوص الدين القويم وتشريعاته، وهو ما يعني الكفر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ{100} آل عمران.
لكن يبدوا أن تحذيرات القرآن قد ضاعت أدراج الرياح بعد عصر الرسول وتكاثر أعداد من أعلن إسلامه من اليهود والنصارى والمسيحيين، لغرض في نفس يعقوب. وأصبح رؤوس الكفر والفتنة مِن نسل قَوْمِ مُوسَى، أمثال كعب وابن سلام وابن جريج والداري والقرظي ووهب، أئمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. فهم أول من غرس بذور الفقه والحديث والتفسير وكل علوم الدين، وهم من أخذنا منهم قصص تاريخ الإسلام وسيرة رسول المسلمين، بعدما حوروه ليتواءم مع ما يريدون غرسه عن الإسلام.
------- الحاشية
[1] سيتعرف عليه القراء في فصول لاحقة.
[2] مصدر صور النقشين هو موقع Islamic Awareness ورابطه
www.islamawareness.net
وفيما يلي نبذ قصيرة جدا عن بعض مسلمة اليهود والنصارى والمسيحيين الأوائل، الذين كانوا وراء الكثير من القصص المختلقة في تاريخنا الإسلامي، وما زرع فيه، وأصبح جزء لا يتجزأ منه:
وهب ابن منبه
ولد زمن عثمان سنة 34 للهجرة، وهو من يهود اليمن. وقد جاء عنه في كتب الرجال أن غزارة علمه في الإسرائيليات، أي أنه رأس من رؤوس الضلال التي نهى الله المسلمين في كتابه عن الاستماع لهم أو النقل عنهم. وكان يقول عن نفسه: أنه قرأ ثلاثين كتاباً كلها كتب أنبياء، وفي رواية أخرى قال بضعة وسبعين كتابا، لكي يسهل على العامة تصديق أن كل ما يقوله وينشره من قصص مختلق هو من تلك الكتب. وبطبيعة الحال لا وجود لهذه الكتب إلا في مخيلته هو، وهو يعرف ذلك.
ومن أهم ما روج له وترسخ في معتقدات المسلمين، القول أن الإنسان مسير وليس مخير، وقد كتب عليه الشقاء أو السعادة قبل أن يولد، كما أنه ممن رسخ ما عرف بقصص الأنبياء.
عبد الله ابن سلام
من مسلمة يثرب، أعلن إسلامه زمن رسول الله، ومات سنة 43 للهجرة. ومن أهم ما ترسخ في الدين من قصصه: الدابة والدجال، وأشراط الساعة. ومن خرافاته التجسيدية، ما روي عنه قوله: إني رأيت رؤيا ، فقصصتها على النبي: رأيت كأني في روضة خضراء، وسطها عمود حديد، أسفله في الأرض، وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: اصعد عليه. فصعدت حتى أخذت بالعروة. فقيل: استمسك بالعروة. فاستيقظت وإنها لفي يدي. فلما أصبحت، أتيت رسول الله، فقصصتها عليه. فقال: أما الروضة، فروضة الإسلام، وأما العمود، فعمود الإسلام، وأما العروة، فهي العروة الوثقي، أنت على الإسلام حتى تموت.
وهذه القصص الخيالية التي تحول العروة الوثقى من معناها الحقيقي في القرآن الذي يعني الطريق القويم، إلى حلقة حديدية، وتحول الإسلام إلى روضة وعمود، هي التي بقيت كدين لله عند المسلمين.
وهذا اليهودي نبتت له ذرية سارت على نفس منهجه، فابنه "أحمد" قام بترجمة كتب اليهود للعربية في أوائل السنة الثانية للهجرة. ليسهل النقل من نصوصها وتضمينها كتب المسلمين، وهو ما حدث بالفعل، ولو كان هو وأبوه مسلمين لما قاما بترجمة كتب الضلال للمسلمين.
وهذا الولد هو من نشر قصص والده وأقواله وأوصلها للرواة والقصاص. وله أخ يسمى يوسف أصبح من أهم من أخذ عنه الأحاديث، وملأت رواياته سنن أبي داوود والترمذي.
ومن يهود يثرب يمين ابن عمير، أبو سعد ابن وهب، ثعلبة ابن سعية، أسيد ابن سعية، أسد ابن عبيد، عمرو ابن سعدى، وثعلبة ابن قيس. وأبناء هؤلاء هم من نقل أخبار يهود يثرب المختلقة وروج لها وهم من قال بمذبحة بني قريظة الخيالية، وأوصلوها لابن إسحاق وغيره من الإخباريين والمحدثين والمفسرين.
محمد ابن كعب القرظي
المولود عام 44 للهجرة. وكان من القصاص والمؤولين للقرآن، وقصصه مصدر رئيسي لأخبار المدينة زمن رسول الله. وكان ابن إسحاق متصلا به اتصالا وثيقا، ونقل عنه الكثير من القصص. كما نقل عنه الكثير من الرواة والقصاص غير ابن إسحاق، وكان على صلة وثيقة بالخليفة الأموي عمر ابن عبد العزيز وبينهما مراسلات.
ابن سبأ
الذي ظهرت فرقة المرجئة بسبب ما نشره من قصص، وهو أول من قال بإمامة علي ابن أبي طالب، وأظهر البراءة من أعدائه. ومما ترسخ لدى الشيعة من أفكاره اليهودية إيمانهم بمجيء المسيح المنتظر، في شخص الإمام الغائب.
ونختم الحديث عن مسلمة اليهود بأكثرهم نشاطاً وتأثيراً في التراث الإسلامي، شيخ مسلمة أهل الكتاب:
كعب الأحبار
الذي أعلن إسلامه بعد وفاة الرسول، وقدمَ المدينةَ من اليمن في أيام عُمر، فجالسَ أهلها، وكان يُحدِّثُهم بقصص عجيبة يقول أنها من كتب سماوية. ونشر عن نفسه أنه كان خبـيراً بكُتُب اليهود، يعرف صحيحها من باطلها، وذلك لكي يؤخذ منه كل ما يقص به على أساس أنه لا يقص إلا ما هو صحيح. وبطبيعة الحال ليس في كتب اليهود صحيح، وليس فيما يقصه كعب من مصدر، لأنه قاص، والقاص يحترف اختلاق القصص.
وتأثيره لا حدود له في التراث الإسلامي وفي كل العلوم المسماة إسلامية. ومن ذلك نشأة القول بالتجسيم عن الله تعالى، وأن له يد ورجل ووجه وجسد ونحو ذلك. وهو من بذر تعظيم إيليا – القدس الحالية - (لأن اليهود يعظمونها) والقول أنها وطن الأنبياء. ومن ذلك تم اختلاق قصة الإسراء والمعراج لترسيخ هذه الأفكار. والقول برؤية البشر لله، إضافة لترسيخ التزلف للحكام، واشتراكه مع ابن وهب في وجوب طاعة السلاطين، حتى يكسبوا رضاهم ويتمكنوا هم من نشر أفكارهم تحت سمعهم وأبصارهم.
ويروي الطبري أن كعب الأحبار جاء إلى عمر بن الخطاب قبل مقتله بثلاثة أيام، وقال له: اعهد فإنك ميت في ثلاثة أيام. وعمر لا يحس وجعا ولا ألما. فقال عمر: وما يدريك؟
قال: أجده في كتاب الله عز وجل في التوراة.
قال عمر: إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟
قال: اللهم لا! ولكن أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك!
فلما كان من الغد. جاءه كعب فقال: يا أمير المؤمنين ذهب يوم وبقي يومان. ثم جاءه من غد الغد فقال: ذهب يومان وبقي يوم وليلة. وهي لك إلى صبيحتها. فلما كان الصبح خرج عمر إلى الصلاة، وكان يوكل بالصفوف رجالا، فلما استوت جاء فكبر. ودخل أبو لؤلؤة في الناس، في يده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات، إحداهن تحت سرته، وهي التي قتلته. فقال عمر قبيل وفاته: توعدني كعباً ثلاثا أعدها ولا شك أن القول ما قال لي كعب
وتعليقاً على هذه القصة – إن صدقت - نقول ما قاله عنها أحمد أمين: "إن كعبا كان يقف على مكيدة قتل عمر، ثم وضعها في هذه الصيغة الإسرائيلية".
وكل من ذكر من مسلمة يهود كانوا على علاقة بالسلاطين والحكام، وهو ما سهل لهم ترويج قصصهم وترسيخها في دين الله وفي كتب التاريخ الإسلامي. كما أنه يدل على موافقة الحكام لما ينشرونه بين الناس، واتفاقهم معهم عليه.
وكما اليهود فقد كان هناك مسلمة نصارى ومسيحيين، شأنهم شأنهم، ومنهم:
تميم الداري
الذي يقال أنه أول من تجرأ على القصص في الإسلام. وأحاديثه التي تعج بها كتب الأحاديث مسيحيتها ظاهرة، مثل الحديث الذي رواه البخاري في كتاب الخلق على لسان أبي هريرة، قال: قال رسول الله: كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب. ومما رسخ في تراث المسلمين قصصه عن الدجال والدابة.
ابن جريج الرومي
المولود سنة 80 والمتوفّى عام 150، والذي يصفه أحمد بن حنبل بأنه من أوعية العلم، لكثرة قصصه، ولأن ابن حنبل نقل عنه وتأثر به. ومما روج له ورسخه ابن جريج، زواج المتعة.
ونكتفي بما تقدم، فلا حاجة للتوسع أكثر، لنبين أن دولة الإسلام بعد الرسول استولى على حكمها سلاطين قريش الذين كانوا طوال زمن الرسول يقاتلون المسلمين للقضاء على الإسلام: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{217} البقرة.
ولما اندحروا وضاعت سلطتهم على مكة، وأجبروا على الدخول تحت حكم دولة الإسلام، زادت نقمتهم على الدين والمسلمين. وسنحت لهم الفرصة للثأر، باستيلائهم على الحكم. فسعوا لتقويض دين الله من الداخل بمعاونة رجال الدين اليهود والنصارى والمسيحيين المتأسلمين، وذلك بتأصيل تشريعات ومعتقدات غريبة كبديل لتشريعات القرآن. وتحتم على ذلك مسخ أحداث التاريخ واستبدالها بقصص وأحداث لم تقع، لتتوافق مع التشريعات المختلقة، ولأن إبقاء أحداث التاريخ سيفضح مفاسدهم التي أدخلوها على الدين، وطغيانهم في حكم المسلمين.
ولم يكن هناك أكثر غنى وتنوعاً، في الخرافات والمعتقدات الغريبة، من قصص بني إسرائيل والمسيحيين، الذين يسعون هم أيضاً – كما قريش - لهدم الإسلام من الداخل بعد أن عجزوا عن القضاء عليه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{109} البقرة.
وسرعان ما تقرب الحكام القرشيون لليهود والمسيحيين ومن بقي من النصارى ووالوهم وأكرموهم وأكثروا من التودد لهم. ولم يقتصر التكريم على من سبق ذكر أسمائهم من مسلمة اليهود، بل طال الجاليات اليهودية والمسيحية كافة.
فقد أقر دستور خاص لليهود في دولة بني أمية، ليس من قبيل "لكم دينكم ولي دين، كما أمر الله، ولكن من قبيل عدو عدوي صديقي". وكان رئيس الجالية اليهودية يسمى رأس الجالوت وعميد الهيئة الدينية يسمى الجاعون. وكان منصب رأس الجالوت، الذي يعني أمير اليهود في المنفى، منصباً سياسياً تحت سلطة الدولة القرشية[1].
ولم تتغير معاملة قريش الودودة لليهود حتى بعد أن ظهر عدد منهم يزعم كل واحد منهم أنه المسيح المنتظر الذي سيقيم دولة إسرائيلية في فلسطين تعيد مجد مملكة داوود، وهو ما يعني الثورة على الحكام. ومن هؤلاء سيرين "Serenus" الذي تنبأ بعودة فلسطين لليهود، وقد ذاعت شهرته لدرجة أنها وصلت للأندلس وقد تحمس كثير من يهود الأندلس له وتبرعوا له بأملاكهم وأعلنوا تبعيتهم له.
ثم ظهر يهودي آخر اسمه عوفيد في أصفهان وأعلن أن فلسطين يجب أن تكون ملكاً لليهود بالقوة. ودعا اليهود لتحقيق ذلك، فتجمع له ما يقارب العشرة آلاف، كانوا يهتفون له بالمسيح. وتحولت حركته لثورة على العباسيين الذين للتو استولوا على الحكم، فأرسل له المنصور جيشا هزمه وقتل عوفيد، الذي تنكر لفضل العباسيين عليه وعلى اليهود، وكان سيثور عليهم في سبيل إقامة دولة يهودية.
كما لقي المسيحيون كل التكريم تحت حكم قريش، فعندما أصبح معاوية ابن أبي سفيان القرشي حاكماً، جعل سرجون بن منصور الرومي المسيحي، كاتب القصر الملكي وصاحب أمر الحاكم. واستمر هذا المسيحي في منصبه بعد معاوية إلى أن توفي، في خلافة عبد الملك ابن مروان. ليرثه ابنه يحيا، الذي ترك العمل لسبب ما في قصور بني أمية في العام 112، قبيل انهيار دولتهم، والتحق بأحد الأديرة القريبة من القدس، حيث أصبح من أشهر رجال الدين المسيحيين. وخلد اسمه كأول مسيحي يهاجم الإسلام في كتاب سماه هرطقات محمد، اعتبر نبراساً للتهجم على الإسلام إلى اليوم في أيدي المبشرين.
وكان شاعر البلاط في الدولة الأموية مسيحي أيضاً، وهو الأخطل. كما كان ابن أثال الطبيب المسيحي طبيب معاوية الخاص، واستمر العديد من المسيحيين يتقلدون المناصب الهامة في كل أقاليم دولة بني أمية.
وهذا التبجيل تواصل في دولة بني العباس. فقد كان من أشهر أطباء بلاطهم جرجس ابن بختيشوع، الذي قربه المنصور، وكان واسع الحظوة عنده. كما كان طبيب البلاط في عصر المعتصم المسيحي سلمويه ابن بنان، وفي عصر المتوكل كان بختيشوع ابن جبرائيل.
وينقل مصطفى السباعي في كتابه "من روائع حضارتنا" أنه: " كانت للمأمون حلقة علمية يجتمع فيها علماء الديانات والمذاهب كلها، وكان يقول لهم: ابحثوا ما شئتم من العلم من غير أن يستدل كل واحد منكم بكتابه الديني، كيلا تثور بذلك مشاكل طائفية".
وصاحب هذا التكريم لليهود والمسيحيين، هَضَم حقوق المسلمين. وتكون قريش هي من رسخت تبجيل الخواجات، وإهانة المسلمين، وهو نفس الهوس الذي نرى عليه حكام المسلمين اليوم.
ولتأكيد أن التاريخ الذي وصلنا عبارة عن قصص مختلقة لم تحدث، ولكنها ترسخ ما يريد من اختلقها ترسيخه، نُذكّر القراء بقصة بني قريظة التي زعم من اختلقها أن الرسول - بناءً على اقتراح من سعد ابن معاذ - قد أمر أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء. وكان عدد الرجال ما بين 600 – 900 رجل، قتلوا ودفنوا في سوق المدينة.
ولن نعود للقصة فقد تناولناها بتفصيل في كتاب سنة الأولين، وذكرنا استحالة حدوثها، أو أن يدفن مثل هذا العدد الهائل في سوق المدينة، واستحالة أن يعص الرسول القرآن ويسبي النساء.
ومثل قصة بني قريظة، اختلاق حكاية تسري الرسول بصفية بنت حيي اليهودي، والتي تقول أنه قتل والدها أولاً، ثم قتل زوجها في نفس اليوم الذي تسرى بها. وهذه الصور لو كانت قد حدثت لكان محمد طاغية كأي حاكم قرشي، وتصديقنا عن رسول الله هذه التصرفات، موافقة لحكام قريش الذين اختلقوها، لترسيخ الصورة التي أرادوا أن ترسخ عنه عليه الصلاة والسلام. وقد بقي استيلاء الحكام على النساء كسبي إلى أوائل الستينات الميلادية من القرن العشرين، عندما خجل العالم من هذه الممارسات، وحرمتها هيئة الأمم المتحدة. ولا زال الكثير من أبناء ملوك العرب الأحياء ولدوا من أمهات سبي.
ومثلها قصة مختلقة عن البجليين[2] الذين قتلوا راعي الرسول وسرقوا إبله فقطع الرسول أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستغيثون ولا يغاثون حتى ماتوا. ومثلها توثيق رثاء قتلى بدر من مشركي قريش في كتب السير والتاريخ بقصائد محزنة.
كما أن هناك بعض القصائد والأشعار التي تسب صحابة رسول الله، كالتي تعج بها سيرة ابن هشام والتي يوردها على أنها رد من بعض رجال قريش ونسائهم على ما قاله شعراء مسلمون كحسان ابن ثابت، أو على شكل رثاء لقتلاهم في بدر أو أحد. وهي لا تختلف عن الأبيات المنسوبة ليزيد ابن معاوية، سواءً قالها أو لم يقلها، والتي تتشفى بقتل أحفاد المسلمين نكاية بما فعله أجداداهم بمشركي قريش في بدر، والتي منها:
ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
حين حكت بقباء بركها واستمر القتل في عبد الأشل
وإيراد مثل هذه القصص في كتب التاريخ يستحيل أن يقبل بها إلا من لا يؤمن بالإسلام، ويسعى لترسيخ الكراهية والحقد عليه وعلى رسوله، بغض النظر عن صدقها أو كذبها. لأنه لو افترضنا أنها قد حدثت بالفعل، فتوثيقها في كتب التاريخ يحتاج لمصداقية وحياد يستحيل وجوده في بني العباس، الذين تنتفي من أخلاقهم وسلوكياتهم أدنى درجات المصداقية. وهم الذين ابتدءوا حكمهم بسحق بني أعمامهم – بني أمية – وكل من يتعاطف معهم، أو يعارض الحكم الجديد، لدرجة سمي أول حاكم منهم بالسفاح لكثرة ما سفك من الدماء. وأعقبه المنصور الذي فاق سلفه في سفك الدماء، وفي خيانة العهود والمواثيق التي قطعها على أعدائه والمخلصين له على حد سواء. وهذه الأخلاق العباسية في سفك الدماء وخيانة العهود بعد توثيقها، تجعل من المستحيل عليهم أن يتمتعوا بأي مصداقية لكي ينقلوا لنا أحداث التاريخ بكل تجرد.
ونعود ونقول أن السياسي هو من كتب التاريخ الإسلامي، إلا أن السياسي لا يكتب بيده، ولكنه يكلف من يكتب ما يريد، أو يختار من الكتابات الموجودة، أو يتساهل مع بعض الكتابات المتداولة ويمنع البعض الآخر. ولأن سياسة بني العباس تخالف سياسة بني أمية، فقد أجاز الأمويون كتبا، لم تلق القبول عند من خلفهم من بني العباس. ومن ذلك كتاب سيرة ابن إسحاق الذي استبدله العباسيون بسيرة ابن هشام. وكل الكتب التي وصلتنا اجتازت امتحان القبول لدى سلاطين بني العباس، وطوى النسيان كل كتاب رسب في ذلك الامتحان، سواءً كتب بإرادة سياسية أو كان كاتبه يتوخى الصدق في رواية الأحداث قدر المستطاع.
------ الحاشية
[1] كما أورد بركات أحمد في مقدمة كتابه محمد واليهود – نظرة جديدة. ترجمة محمود علي أحمد، والذي نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب 1996
[2] نفر من قيس كبة من قبيلة بجيلة.
المنهجية المتبعة لكتابة تاريخ الإسلام
القرآن لا يشبه أي كتاب مقدس لأي ديانة أخرى، وإن احتوى بعض القصص التاريخي أو المواعظ، فهو يعرضها بطريقة مختلفة، وبطريقة فريدة لا يجاريه فيها كتاب آخر.
وعلى سبيل المثال، فالكتاب المقدس لليهود المعروف بكتب العهد القديم (وهو غير التوراة)، يتحدث بإسهاب عن الأشخاص وزوجاتهم وأولادهم وبناتهم، ويعطي لمواليدهم ووفياتهم تواريخ، كما يلي: "وعاش شيث مئة وخمس سنين وولد أنوش. وعاش شيث بعدما ولد أنوش ثماني مئة وسبع سنين وولد بنين وبنات. فكانت كل ايام شيث تسع مئة واثنتي عشرة سنة ومات. وعاش أنوش تسعين سنة وولد قينان. وعاش أنوش بعدما ولد قينان ثماني مئة وخمس عشرة سنة وولد بنين وبنات. فكانت كل ايام أنوش تسع مئة وخمس سنين ومات. (التكوين: 5: 6 – 11).
ومثله في الحديث عن موسى: "فمات هناك موسى عبد الرب في ارض موآب .... ودفن في الجواء في ارض موآب مقابل بيت فغور ولم يعرف انسان قبره الى هذا اليوم. وكان موسى ابن مئة وعشرين سنة حين مات ولم تكلّ عينه ولا ذهبت نضارته. فبكى بنو اسرائيل موسى في عربات موآب ثلاثين يوما.فكملت أيام بكاء مناحة موسى (التثنية: 34: 5 – 8).
أما القرآن فلا يعطي مثل هذه التواريخ، ولا هذه التفاصيل، ولا هذا السرد، فليس هناك أي إشارة لتاريخ ولادة محمد، وليس هناك معلومات واضحة عن نشأته ولا متى بدأ ينزل عليه الوحي، ولا كم سنة بقي في مكة وفي المدينة .... الخ.
في المقابل، فإن القرآن نزل مرتلاً على مدى سنوات يقول الإخباريون أنها بلغت 23 سنة، ولم ينزل كالتوراة مرة واحدة، لم تستغرق من موسى سوى 40 يوماً ليكمل نسخها على الألواح، ويأخذها لبني إسرائيل. وهذا الاختلاف بين الكتابين يعني أن التوراة تحوي الأمور الدينية فقط كالتشريعات والحدود والأوامر والنواهي، ولا شأن لها بما يجري في الحياة اليومية لبني إسرائيل أثناء حياة موسى. أما القرآن فيتعامل مع كل دقائق وتفاصيل ما يجري في حياة المسلمين ومن يتعامل معهم زمن رسول الله. وكل سورة من القرآن - إضافة للتشريعات - تنزل لتتحدث عن وقائع حدثت أو على وشك الوقوع، ولتعطي إرشادات لما يجب فعله تجاه ما يحدث، وهذا ما نبحث عنه لكتابة تاريخ الإسلام.
مع ملاحظة أن استقراء الأحداث من السور يختلف بين السور المكية عموماً والسور المدنية. حيث تبدوا السور المدنية حبلى بالأحداث ومن السهولة رصدها وكتابتها، بينما نجد أن الكثير من السور المكية في المرحلة الواحدة، تبدوا، للعين العادية، وكأنها سورة واحدة تتكرر بعبارات مختلفة، مع بعض الإضافات، دون ذكر صريح لواقعة واحدة يمكن أخذها كحادثة تاريخية. وفي فصل تقسيم السور المكية حسب مراحل الدعوة، أوردنا 17 سورة نزلت بالتتابع، كلها تخلوا من ذكر حادثة واحدة. وهو ما ينطبق على كثير من السور المكية الأخرى. فقريش كفرت ولن تغير موقفها، والدعوة استمرت، دون أن يكون هناك مواجهات بين قريش والرسول ومن آمن معه، خاصة في المراحل الأربع الأولى من الدعوة، عندما كان المعني بالخطاب قريش وحدها، مما جعل الأيام تسير على وتيرة تبدوا وكأنها واحدة لا تتغير طوال تلك المراحل التي استغرقت أكثر من نصف وقت الدعوة في مكة.
ومع ذلك، فهذه السور هي مصدرنا في كتابة تاريخ الفترة التي نزلت فيها، وعلينا أن نروض أنفسنا على التركيز وملاحظة الإشارات والتلميحات التي تحويها الآيات لكي نكون قادرين على استنباط الأحداث، وهو ما يمكن القيام به بعد أن نكتسب القدرة على ذلك بالتجربة. وكمثال نقول: أن سورة الانشقاق التي نزلت في المرحلة الرابعة تقول: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ{20} وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ{21} بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ{22} وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ{23} فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ{24}.
فالحدث إذاً هو: أن قريش ليس فقط كفرت، ولكنها مصرة على الكفر بحيث لم تعد تعير اهتماماً للقرآن، عندما يتلوه عليهم محمد.
وبهذه الطريقة سنستنبط الأحداث من السور المكية، والتي ستبدو وكأنها ذكر للمواضيع التي تتناولها السور أقرب منها لسرد وقائع تاريخية. وهذا لا يعني أن كل سنوات الدعوة في مكة كانت بدون أحداث، ولكنه يعني أن الأحداث المصاحبة للدعوة في مكة لا تتغير إلا بتغير الأوضاع. والأوضاع لا تتغير إلا بتغير المخاطب ونوع الخطاب في السور. لأن تغير الخطاب في السور المكية يولد تغير الأوضاع، وتغير الأوضاع يولد الأحداث.
ولو لم يتغير خطاب القرآن، ويتوجه بالدعوة للناس كافة، بدءً من المرحلة الخامسة، فلن يزيد عدد المسلمين كثيراً، مهما بقي الرسول يدعوا قريشاً. ولو مات الرسول والخطاب موجه لقريش فقط، كما في المراحل الأربع الأولى، فلن يكون هناك إسلام، ولكن إيمان بوجود الله والبعث، دون وجود تشريعات وأحكام وأوامر ونواهي، فيما عدا الصلاة بلا أوقات محددة، والإنفاق. وقد تتمكن قريش من إجبار من بقي في مكة من المسلمين على الردة أو قتلهم. كما ستنقطع صلة المسلمين المهاجرين "للحبشة" بمكة إلى الأبد، وسينتهي بهم المطاف للاضمحلال.
لكن الخطاب والمخاطب تغير بعد المرحلة الرابعة، كما رأينا في القسم الأول من الكتاب، عند الحديث عن مراحل الدعوة في مكة. حيث اتجه الخطاب لكل الناس بجانب قريش، مما أدى إلى إسلام عدد من المستضعفين في مكة، وعدد من بني إسرائيل من يثرب، وأناس آخرين من مناطق أخرى. وهذا ولّد ردة فعل لدى كبراء قريش، فضيقوا على مسلمي مكة الجدد الخناق وعذبوهم، وحاولوا صد الآخرين من خارج مكة عن الإسلام، ومنعهم من لقاء محمد. وتطورت الأوضاع في مكة ويثرب، وكان من نتائجها الهجرة.
وبالتالي، يمكن القول أن النصف الأول من فترة الدعوة في مكة كان شحيح الأحداث، بينما انقلبت الأحوال في النصف الثاني وتتالت الوقائع.
فيما نجد أن السور المدنية غنية بالأحداث، بغض النظر عن طول أو قصر السورة. فسورة النصر، مثلاً، والتي لا تزيد عن ثلاث آيات، تُصور تتابع قبائل جزيرة العرب الدخول تحت حكم دولة الإسلام، وهو موضوع يمكن تأليف كتاب كامل عنه.
وحتى تلك السور المدنية التي نزلت لتفرض تشريعات محددة، مثل النور، فهي أيضاً تتناول مواضيع يمكن أن يصاغ منها أحداث تاريخية. فكل سورة من السور المدنية تبدوا كأنها سجل وثائقي تفصيلي لعدد كبير من الأحداث والقضايا، يسهل تتبعها والتعرف عليها، كما سنرى.
ما قبل كتابة تاريخ الإسلام
قبل أن نبدأ استنباط الأحداث من السور لكتابة تاريخ الإسلام، يتوجب علينا أن نتعرف على الإسلام، كما يصفه القرآن. ثم نقدم تعريفاً مختصراً عن كتاب الله، وعن محمد، الرسول الذي نطق بالقرآن، مصدر معلوماتنا عن التاريخ. يليه تقديم نبذة مختصرة عن إبراهيم وذريته. كونه الأب الأول للإسلام، وذريته هم قريش وبنو إسرائيل، الذين خاطبهم القرآن مباشرة، والذين كان لهم التأثير المباشر على تاريخ الإسلام. وسيسبق كل ذلك إلقاء الضوء على صفة من صفات الله، خالقنا، ومن أنزل علينا، القرآن، مصدرنا.
(هذا الفصل قد يهم غير المسلم أكثر)
الله
لو قلنا أنه: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ{22} هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ{23} هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{24} الحشر.
فهو سبحانه كذلك.
{وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ{70} القصص.
{وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ{3} الأنعام.
وهو ملك يوم الدين: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ{1} الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{2} الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ{3} مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ{4} الفاتحة.
يوم لا ملك إلا ملكه: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ{56} الحج.
وليس معه آلهة من مثله سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ{65} ص.
وليس له شريك من خلقه، سواءً كان صنماً لا يشعر: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ{195} الأعراف.
أو رجال دين: {190} أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ{191} وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ{192} الأعراف.
فهو المعبود وحده: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ{65}غافر.
وهو: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ{62} الزمر.
وهو: {.......عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ{3} سبأ.
وهو صمد لا بداية له ولا نهاية، ولم يلد ولم يولد: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ{1} اللَّهُ الصَّمَدُ{2} لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ{3} وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ{4} الصمد.
وكل ما نعرفه أو يمكننا تخيله فليس لله منه شيء، ولو بصورة مختلفة: {.......... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ{11} الشورى.
فليس له جسد محسوس أو أطراف، وليس من طاقة كالملائكة والجن، وليس له شكل ولا حيز، ولا يمكن تخيل ما يكون. وأي وصف حسي لله فهو منه براء: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ{180} الصافات.
وهو سبحانه كل ذلك وأكثر، ولن نتمكن من تتبع كل ما وصف الله جل وعلى به نفسه، لكننا سنكتفي بتناول بعض جوانب صفة واحدة من صفاته تبارك وتعالى، لأن خلق الكون وما فيه، وخلق كون القيامة وما فيه، قام عليها. ولأن لها صلة مباشرة بالدعوة والدين – موضوع بحثنا. والصفة هي:
العدل المطلق
فكل ما خلقه الله قام على العدل المطلق "القسط": {شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{18} آل عمران.
وفيما يلي بعضاً من جوانب هذه الصفة:
§ أنه سبحانه لم يخلق الكون إلا لحكمة: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ{3} الأحقاف
ولم يخلق المخلوقات للهو واللعب والتسلية: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ{16} لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ{17} الأنبياء
§ أنه سبحانه لم يقدر أرزاق الناس في الدنيا مسبقاً، بل ترك معاش الدنيا مشاع بينهم، تحكمه الظروف والحظ وأسباب أخرى:{مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ{20} الشورى
ولم يقدر على الناس أجالهم، بل جعل المرض والهرم والحوادث سبباً للموت: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ{5} الحج.
ولم يقدر على أحد الشقاء أو السعادة، بل ترك للناس تقرير مصيرهم بأنفسهم بين الإيمان والكفر: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً{3} الإنسان
§ أودع في النفس البشرية عقلاً قادراً على تمييز الحق: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ{53} فصلت
وكل ما على الإنسان هو السماح لعقله بالتفكير وسيهتدي: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{33} الأحقاف
§ وسيحاسب الناس يوم القيامة بعدل مطلق: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }يونس54
والحساب سيكون كامل الدقة، وبناءً على ما سجل في صحيفة الأعمال منذ خلق الإنسان وحتى وفاته، دون تدخلات: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}الأنبياء47
ووجود سجل للأعمال داخل النفس شهادة للمرء على نفسه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ{172} الأعراف
§ ولن يسامح الكافر ويغفر له أو يعامل معاملة المؤمن: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ{35} مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ{36} القلم
لأن مسامحة الكافر فيه جور وظلم للمؤمن مخالف لعدل الله المطلق: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ{21} وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ{22} الجاثية
§ كل الناس أرسلت لهم رسل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ{36} النحل
ولم يهلك الكافر لكفره، ولكن لمحاربته للدين:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ{59} القصص
وكل الأمم التي أهلكت، أنذرت قبل هلاكها: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ{208} ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ{209} الشعراء
§ ومن لم يبعث لهم رسول فلن يعذبوا يوم القيامة على كفرهم: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} بني إسرائيل15
§ الدين واحد لكل الناس في كل العصور: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبراهيم وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ{13} الشورى
§ والدين يقوم على كلام الله وحده: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}ق45
ولا يستطيع الرسول، أي رسول، أن يدعوا لدين الله بغير كلام الله، ولو فعل لعاقبه سبحانه: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ{44} لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ{45} ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ{46} فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ{47} وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ{48} وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ{49} وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ{50} وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ{51} فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ{52} الحاقة.
§ كلام الله يجب أن يكون مفهوما من كل أحد دون معاونة من خلقه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }القمر22
§ خلق الناس سواسية لا طبقية ولا تمايز: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}الحجرات13
§ خلق الرجل والمرأة متساويان في الواجبات والحقوق: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ{97} النحل
{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} آل عمران18
وقد سبق وتحدثنا بشيء من التفصيل عن الوحي وكيف يتلقاه الرسول، في كتب سابقة، لذا لن نكرر حديثنا عنه هنا. ولكن فقط نشير إلى أن الوحي ينسخ في ذاكرة الرسول، وبطريقة غير قابلة للنسيان، دون أن يكون بمقدور الرسول رده أو قبوله.
الإسلام
الإسلام يعني عقد اتفاق بين الله والعبد، يحصل العبد بموجبه على سعادة الدنيا ونعيم الآخرة مقابل تعهده بإتباع أوامر الله كلها وامتناعه عن نواهي الله كلها مدى الحياة. وأي مخالفة متعمدة مختارة لأمر أو نهي إلهي، معلوم لدى المخالف حكمه، فهو نقض لعهد الدخول في الإسلام الذي سبق توقيعه مع الله، شبيه بمن تنقض غزلها بعد أن نسجته وأصبح متماسا قويا: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ{91} وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ{92} وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ{93} النحل.
فالدين إيمان وعمل صالح: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً{11} الطلاق.
وهذا الكل لا يتجزأ، فلا يكفي الإيمان وحده أو العمل الصالح وحده. ولا يكفي الإيمان والامتثال لبعض الأوامر والنواهي وترك البعض: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ{177} البقرة.
وترك بعض أوامر الدين كالكفر به كله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ{85} البقرة.
كما أن عقد الإيمان ملزم مدى الحياة، وإلا أصبح مثل إيمان بعض اليهود بمحمد: {وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{72} آل عمران.
وهذا ليس من الهدى، الموجب لرضا الله، في شيء: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى{82} طه.
ومن أصر على ترك العمل بأمر أو نهي إلهي، أو اعتقد أن الإيمان مع إتباع بعض الأوامر والنواهي كاف للبقاء على الإسلام فهو يخدع نفسه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ{8} يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ{9} البقرة.
لأنه قد نقض العهد الموقع مع الله، وأفسد في الأرض: {الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ{27} البقرة.
والإفساد في الأرض يتمثل في أن المنافق إن كذب أو سرق أو زنى أو تصرف بأي تصرف لا أخلاقي فتصرفاته تلك سيعتبرها، من يراه من غير المسلمين، مما يجيزه الإسلام. وفي هذا إعطاء صورة كاذبة وضارة بدين الله، وتنفير للناس منه، وليس هناك إفساد في الأرض أكثر من صرف الناس عن الدخول في دين الله:{وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ{25} الرعد.
والإسلام دين يقوم على علاقة مستمرة بين الله والعبد تمثلها العبادات. وعلاقة مستمرة فيما بين العباد، وتتم عبر المعاملات. والصلاة عبادة تبقي الصلة بالله قائمة يومياً وبلا انقطاع، كما أن الإنفاق من القادر لتغطية احتياجات المحتاج علاقة يومية مستمرة بلا انقطاع. ولا يمكن أن يقوم الإسلام ولا دولته بدون الصلاة والإنفاق، مثلما أنه لا يمكن أن يكون المسلم مسلماً ما لم يؤمن ويعمل صالحاً.
الدخول في الإسلام
لقد خلق الله الإنسان قادراً على اختيار أفعاله ومعتقده بكل حرية: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً{2} إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً{3} الإنسان.
ودور الرسول هو التبليغ بقراءة القرآن على الناس: {إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ{41} الزمر.
وبعد موت الرسول بقي القرآن، متاحاً لكل الناس ليقرؤوه، وبعد ذلك فلكل شخص خياره: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ{92} النمل.
وليس هنا إكراه في الدين على الإطلاق: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ{256} البقرة.
والأصل في الإسلام هو التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم، بل إن التعامل بالعدل المطلق مع غير المسلمين واجب ديني: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ{8} الممتحنة.
والجهاد يكون فقط موجهاً لمن يبدأ حرب المسلمين ودولتهم للقضاء على دين الله وفتنة المسلمين في دينهم: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ{193} البقرة.
أما من تعايش مع المسلمين سلمياً فيجب التعامل معه بالعدل: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً{85} النساء.
وفي حال تعرض المسلم لظلم أو عدوان من غير المسلم فيجوز معاقبة المعتدي بمقدار تعديه دون تجاوز: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ{40} الشورى.
لأن دفع الظلم حق للمظلوم: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ{41} الشورى.
ويحرم قطعياً أن يظلم أحد من الناس ولو كان غير مسلم، أو يبغي في الأرض أي يبدأ المسلم بظلم غيره: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ{42} الشورى.
ولو صبر المسلم على تعدي وظلم الكافر فهو خير له من معاقبته: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ{43} الشورى
ويبقى التعامل بمنتهى العدل (القسط) مع الناس هو الأصل في الإسلام، بغض النظر عن المعتقد ما داموا مسالمين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ{8} المائدة.
فالمسلمون يجب أن يكونوا: {......أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ{181} الأعراف.
لأن المسلم هو من يعبد الله ويتحلى بالأخلاق الفاضلة التي توجب عليه التعامل بالإحسان مع كل المسالمين بغض النظر عن المعتقد، والبعد عن الكبر والخيلاء: {وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً{36} النساء.
العقل يهدي للإسلام
السماح للعقل بالتفكير يهدي لوجود الخالق: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{1} الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ{2} الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ{3} ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِأً وَهُوَ حَسِيرٌ{4} الملك.
والآخرة، وإن لم نتمكن من التأكد منها بدليل محسوس، إلا أن العقل يؤكدها. لأن من خلق هذا الكون ومن فيه، قادر على بعث الإنسان بعد الموت. والموت ما هو إلا عبارة عن تخلٍ عن الجسد – الوعاء – ولا يعني فناء الروح، والبعث حلول الروح في وعاء آخر: {قلْ أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُم بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ{52} سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ{53} أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ{54} فصلت.
والتفكير بآيات القرآن يهدي إلى أنه من عند الله، وهذا يتم بطرق مختلفة منها:
§ كتب اليهود المقدسة وإن كانت تاريخية إلا أنها تحوي بعض ما كان في التوراة، ليس كما نزلت من الله، ولكن كما تناقلتها ألسن الرواة، وهذه النصوص موجودة في القرآن بصيغة مماثلة للنص الذي نزل على موسى، مما يعني أن مصدر القرآن والتوراة واحد، هو الله: {أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ{17} هود.
§ تحدي الناس جميعاً أن يأتوا بمثل القرآن الذي جاء به نبي يجهل القراءة والكتابة والعلوم الإنسانية: {87} قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً{88} بنو إسرائيل.
§ التفكير بما يدعوا له القرآن وما يحويه من تشريعات، كاف لإثبات أنه من عند الله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً{82} النساء.
إلا أن إثبات مصدر القرآن الإلهي لا يعني أن الناس ستؤمن: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً{89} بنو إسرائيل.
لأن الإيمان خيار شخصي لا يقتنع به من له مصالح دنيوية في الغالب: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً{29} الكهف.
الخروج من الإسلام
وكما أن الدخول في الإسلام خيار شخصي فالخروج منه كذلك، ويكون بأحد أمرين:
النفاق
وهو التقيد ببعض أوامر الدين ونواهيه وترك البعض الآخر: {..... أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ{85} البقرة.
الردة
وهو اعتقاد الكفر بالله أو الرسول أو اليوم الآخر، بعد أن كان مسلماً: {..... وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{217} البقرة.
والمرتد والمنافق يعامل كما الكافر لأنه كفر بالفعل. فإن تعايشوا مع المسلمين بسلام فيعاملون بالعدل ولا يؤذون: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً{48} الأحزاب.
وإن حاربوا الإسلام والمسلمين فعلياً أو بالمكائد، فحكمهم حكم الكافر المحارب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ{73} براءة.
وهذا مصير المنافق والمرتد للكفر، يوم القيامة: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ{68} براءة.
القرآن
عبارة عن مضمون ما جاء في الرسائل الإلهية التي يبلغ عددها 114 رسالة، مختلفة الطول. كل رسالة تعالج موقفاً أو حدثاً أو مجموعة من المواقف والأحداث التي وقعت بالفعل في الفترة التي سبقت نزول السورة مباشرة. ولا يتحدث القرآن عن مواقف افتراضية لم تحدث، أو يتنبأ بأحداث قبل وقوعها[1]. وهو كتاب مليء بقصص أمم سابقة، لكنه لا يوردها لمجرد السرد القصصي، وإنما لتوصيل رسالة لمن تخاطبه الآيات. فإن كان المخاطب قريش، سواءً كانت السورة مكية أو مدنية، فالحديث يكون عن الأمم السابقة ومواقفهم الرافضة لدعوة رسلهم، وكيف انتهى بهم الأمر إلى الهلاك بسبب إصرارهم على الكفر ومحاربة دين الله. في رسالة واضحة لقريش بأن تأخذ العبرة مما حدث، حتى لا يكون مصيرها مشابه لمصير تلك الأمم. وإن كان المخاطب أهل الكتاب، فإن القرآن يتحدث عن قصص من تاريخهم البعيد بدقة متناهية تمتاز عما بين أيديهم من أنباء عن ذلك التاريخ، مما يؤكد صحة رسالة محمد. وكل الرسل والأمم السابقة المذكورين في القرآن عاشوا في جزيرة العرب وفي مناطق قريبة من مكة، ولا وجود لرسول ذكر في القرآن خارج الجزيرة العربية.
والقرآن كتاب يهدي للتي هي أقوم، ويخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويحقق سعادة الدنيا والآخرة، لكنه ليس كتابا علميا ولا طبيا ولا هندسياً ولا علاقة له بأي نوع من أنواع العلوم الإنسانية. لكن قد يتعرض لحقيقة علمية ضمن الإخبار عن حادث معين، ومن ذلك قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ{18} النمل.
فالنمل يستخدم لغة صوتية للاتصال فيما بين أفراده، وقد توصل العلماء البريطانيين لتسجيل تلك الأصوات وملاحظة أن الملكة عندما تتحدث تنصت النمل بكل انتباه[2]. ولم يأت الحديث عن النمل وكونه يملك لغة تواصل من باب أن القرآن يهتم بالحديث عن العلم.
وكتاب الله له أسلوب متميز في بناء العبارات وفي عرض المواضيع، مع استخدام واسع للاستعارة والمجاز.
------ الحاشية
[1] فقط السور التي نزلت في بداية الوحي التي لا تعالج مواضيع موجودة ولا تتحدث عن أحداث وقعت. وهذا يمكن تفهمه لأنها سور تعريفية، تعرف محمد وقريش بالله والوحي.
[2] أعلنت ذلك الوكالة الدولية للأنباء (United Press International) في السادس من فبراير
المرحلة الرابعة / استمرار الدعوة وإصرار قريش على الكفر
السور: القارعة، الزلزلة، الانفطار، الانشقاق، التكوير، الشمس، الليل، الطارق، الفجر، البلد، القيامة، النبأ، ق، الواقعة، الغاشية، الحاقة، المطففين، عبس، المرسلات، الجن، الفلق، الناس، الإنسان، الملك، يس، الرحمن، النجم، ن والقلم، الطور، نوح، القمر. إضافة للضحى والشرح، الهمزة، القدر، بمجموع 35 سورة.
المخاطب: كبراء قريش[1]، كما كان الحال في المراحل السابقة.
نوع الخطاب: دعوي تحذيري، والجو العام في مكة خلال هذه المرحلة كان يسير على وتيرة واحدة لا تتغير، تتمثل بإعراض قريش عن الاستماع لمحمد، برغم استمراره بالدعوة، ولا وجود للعنف ضد المسلمين.
ولو أضفنا سور هذه المرحلة وأحداثها لسور المراحل الثلاث السابقة، فسيكون قد نزل 46 سورة من أصل 89 نزلت في مكة، أي أكثر من 51% من إجمالي السور المكية. ولو اعتبرنا هذه النسبة دلالة على الزمن، فإن أكثر من 51% من وقت الدعوة في مكة يكون قد انقضى بنهاية هذه المرحلة. وهو ما يزيد على ست سنوات ونصف، من أصل 13 سنة قضاها محمد في الدعوة في مكة، إن صدق المؤرخون.
وبرغم أن هذه المرحلة تعتبر أطول مراحل الدعوة في مكة، وأكثرها سورا، إلا أن الأحداث التي وقعت فيها قليلة جدا، بالنسبة لطول فترتها. وذلك عائد إلى أن السور استمرت منذ بداية الدعوة تخاطب كبراء قريش، وإن اختلف الأسلوب. فسارت الأوضاع على وتيرة واحدة، تمثلت باستمرار الرسول بالدعوة وتلاوة القرآن، مع إعراض قريش عن الاستماع أو القبول. دون أن يؤذوا الرسول ومن معه جسدياً، وإن آذوه بالسخرية واتهامه بالكذب والسحر وغيرها، لتبرير عدم تصديقهم. ولو استمر أسلوب الدعوة كما كان عليه في هذه المرحلة فلن تؤمن قريش، ولن يزيد عدد المسلمين القلة، ولو بقي محمداً بينهم بقاء نوح في قومه. ذلك أن السُّنة التي سارت عليها الأمم تفرض أن من لم يؤمن بالدعوة حال سماعها فلن يؤمن بها ولو ترددت على مسامعه طوال حياته.
وفيما يلي أهم ما وقع من أحداث:
إعلان قريش موقفها النهائي من الدعوة
بضعة أشهر فقط مرت على إعلان القرآن أن محمداً رسول الله إلى قريش: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً{15} فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً{16} فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً{17} المزمل.
وكانت هذه المدة القصيرة كافية لتتأكد قريش من أن محمداً جاد في دعوته، فسارعت بإعلان كفرها بما يدعوا له، وهو ما تشير له السور الأولى لهذه المرحلة، مثل الانشقاق: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ{20} وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ{21} بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ{22} وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ{23} فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ{24}.
وهذا الوضع سيستمر ولن تتراجع عنه قريش أبداً: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَّرِيجٍ{5} ق.
متبعة سنة سارت عليها كل الأمم. فمن لا يؤمن منذ سماعه للدعوة لن يؤمن بعد ذلك أبداً، مهما دعي: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ{12} وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ{13} وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ{14} أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ{15} ق.
وموقف قريش نهائي، ولن يتغير: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ{7} إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ{8} وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ{9} وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ{10} يس.
فجاء الهجوم عليهم شديداً، ومن ذلك تكرار عبارة "وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ" لتأكيد الوعيد الشديد لهم. والعبارة لم ترد في كل القرآن سوى اثنتي عشر مرة، عشر منها في المرسلات، ومرة واحدة في المطففين، ومرة في سورة الطور، وكلها من سور هذه المرحلة.
وكردة فعل، بدأت قريش باتهام محمد بشتى أنواع التهم:
فهو يكذب على الله، أو أن ما يتلوا عليهم إما شعر بطريقة جديدة مختلفة عن الشعر الذي يعرفون، أو تمتمات كهان، أو كلام يسحر من يستمع له: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ{38} وَمَا لَا تُبْصِرُونَ{39} إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ{40} وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ{41} وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ{42} تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ{43}. فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ{38} وَمَا لَا تُبْصِرُونَ{39} إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ{40} وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ{41} وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ{42} تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ{43} وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ{44} لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ{45} ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ{46} فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ{47} الحاقة.
أو أن القرآن مجرد قصص خرافية قديمة استطاع محمد تجميعها: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ{10} الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ{11} وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ{12} إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ{13} كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ{14} المطففين.
وقريش هاجمت شخص محمد لكي تبرر لنفسها كفرها بالدعوة. فمن غير المعقول أن تعترف أنه رسول لله وأن ما يقوله منزل عليه من الله ولا تؤمن به. فكانت السور تنزل لدحض اتهاماتهم.
فقد أكدت سورة "ن والقلم" أن محمداً ليس كما تتمنى قريش أن يكون: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ{1} مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ{2} وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ{3} وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ{4}.
وهو ما تؤكده سورة التكوير: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ{15} الْجَوَارِ الْكُنَّسِ{16} وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ{17} وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ{18} إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ{19} ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ{20} مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ{21} وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ{22} وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ{23} وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ{24} وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ{25} فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ{26} إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ{27} لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ{28}.
والتكوير تقول أن ما يتلوا محمداً عليهم ليس كما يزعمون، لكنه تنزيل من رب العالمين، نزل به أحد الملائكة، الذي رآه محمداً رؤيا العين يقيناً. وهو ذكر لمن رغب في إنقاذ نفسه من عذاب الله.
وتأتي سورة الحاقة لتكرر تأكيد ما ذكرته التكوير، وتقول أن القرآن حق، وأن الرسول لا يستطيع أن يدعوا الناس بكلام من عنده أو بغير القرآن الموحى إليه، ولو فعل فسيعاقب: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ{38} وَمَا لَا تُبْصِرُونَ{39} إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ{40} وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ{41} وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ{42} تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ{43} وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ{44} لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ{45} ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ{46} فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ{47} وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ{48} وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ{49} وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ{50} وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ{51} فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ{52} الحاقة.
كما أكدت القيامة أن الإيمان خيار شخصي، ولم يُقدَّر الإيمان والكفر سلفاً على الناس: {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ{14} وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ{15} القيامة.
وتكذيب قريش واتهاماتها المختلفة لمحمد كان له وقع سيء في نفسه، تأذى منه كثيراً. وفي كل مرة ينال منه الأذى النفسي تنزل الآيات لتشد من عضده وتشحذ همته على التسلح بالصبر، وعدم الاهتمام بما يقولون: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ{39} وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ{40} وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ{41} ق.
مع المداومة على تسبيح الله ليتقوى نفسياً ويشعر بقرب الله منه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً{23} فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً{24} وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً{25} الجن.
ولكن عبء الدعوة ثقيل جداً، ومحمد يواجه مصاعب لا حصر لها. فقريش تسخر، وتؤذي وتلاحق ولا تستمع، وعندما يمر بجمعهم يسلقونه بنظرات حداد: {وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ{51}ن والقلم.
ملاحقة محمد بالأسئلة الساخرة
(لن ننشر التفاصيل هنا)
دخول بعض أهل مكة في الإسلام
(لن ننشر التفاصيل هنا)
الرغبة في المداهنة
تشير سورة "ن والقلم" أن قريشاً لما رأت أن الرسول استمر في دعوته لسنوات برغم عدم تجاوبهم معه، حاولوا أن يجدوا وسيلة تقنعهً بالتوقف عن الدعوة: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ{8} وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ{9} ن والقلم.
أو على أقل تقدير يوافق على ألا يتطرق في دعوته لمواضيع معينة تزعجهم. وهذه الأمنية تظهر أن قريش بالفعل يعتقدون أن محمداً ليس مرسلاً من الله، ويظنون أنه يسعى لتحقيق هدف دنيوي، لو عرفوه وحققوه له فسيتوقف عن الدعوة. والسورة لا تذكر أن قريشاً قد تقدمت بالفعل بعرضها على محمد، لكنها تحذر الرسول من أن يقبل أي عرض منهم " فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ"، فيما لو أقدموا على ذلك.
[1] الخطاب موجه لقريش، ولكن المقصود بالفعل هم الكبراء، لأنهم هم من يقود بقية الناس في المجتمع للإيمان أو الكفر.