واجهت نظرية التطور رفضا واسعا من المؤسسات الدينية المسيحية والاسلامية على مدى سنوات طويلة من عمر النظرية، وفي النهاية اضطرت الكنيسة للاعتراف بخسارتها الرهان وان النظرية صحيحة لتبقى المؤسسة الاسلامية وحدها على الساحة من يكابر ويعاند . بعض الجهلة يصرون على ان النظرية سقطت والبعض الاخر يتذاكى بالادعاء ان النظرية لازالت نظرية ولم تصبح حقيقة مطلقة، وكلا التصريحين ينجحان فقط في البرهنة على جهلهم المنهج العلمي والنظرية على السواء...
فالشيخ القرضاوي صرح في احدى المقابلات التلفزيونية قائلا:"
(حتى لو ثبتت قضية نظرية داروين، عندنا من الآيات ما يمكن أن يدخل فيها).
هذا التصريح اثار اهتمامي إذ ليس من الغريب ان يحتوي القرآن على الشئ ونقيضه، فهو امر اشار اليه علي بن ابي طالب في وقت مبكر عندما اشار :" القرآن حمال اوجه".
لهذا السبب بحثت في القرآن عن " الايات التي تدخل في نظرية التطور" كما قال القرضاوي قدس الله سرته .
وبالبحث وقراءة الايات المعنية يظهر ان القرآن فعلا يقول بالتطور وليس بالخلق حسب المعنى الكلاسيكي للكلمة، وهذا الامر سأشرحه الان.
القرآن لايذكر على الاطلاق عن مثال عن الخلق من اللاشئ، او بمجرد كلمة " كن فيكون" وانما على الدوام يكون الخلق على مراحل ومن شئ سابق له.
يبدأ الامر من اخبار الله للملائكة عن نياته فيقول لهم: (
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِين (29)
فنرى كيف يعلن الله ان عملية الخلق على مراحل، وليس مرحلة واحدة على مبدا " كن فيكون". وتعدد المراحل هو بالذات التي تقول به نظرية التطور. والاية تشير الى ان البشر من " صلصال" ولكن هل يوجد صلصال في عالم الله، ونحن نعلم ان عالم الله عالم قد يكون روحي في حين ان الصلصال مادة؟
ان القول بوجود مادة في عالم الله يعني ان عالم الله مكان، وبالتالي فالله في مكان وزمان، اي ان الله في مخلوقاته وليس خارجها، وهو امر يتعارض مع الالوهية على النمط الاسلامي ( يتطابق مع الالوهية على النمط الهندوسي الذي يقول بالفيض).
والاية تشير الى ان بشرية هذا المخلوق لاتتم الا بعد مرحلة " التسوية"، وبالتالي هناك مرحلة الصلصال ثم مرحلة التسوية وبعد ذلك تأتي مرحلة النفخ وعندها فقط تتم عملية الانسنة.
فالقول بالمراحل يعني القول ان لكل مرحلة زمنها الخاص، ونحن نعلم ان الزمن عند الله ليس كالزمن على الارض، وبالتالي المرحلة الصلصالية التي هي قبل المرحلة الانسانية بكثير، وعلى الاغلب يمكن فهمها انها تمتد الى بداية نشوء الخلية الاولى في الحساء الصلصالي المبكر، ولذلك من الطبيعي انها احتاجت الى ملايين الاعوام بالزمن الارضي وهي مرحلة التسوية التي ذكرها القرآن للوصول الى الشكل البشري النهائي المطلوب.. وهذه المراحل جرت مباشرة على الارض وليس في مملكة الله. وعندما اصبحت التسوية كاملة نفخ الله من روحه، تماما كما نفخ من روحه في فرج مريم، فنصل الى المرحلة الانسانية...
ولانستغرب ان يتكلم القرآن عن المنتوج النهائي وحده، على إعتبار انه وحده الهدف من العملية بأسرها وإنطلاقا من ان الزمن الطويل لعملية الاطوار ليست محسوسة في مملكة الله حيث (ان يوما عند ربك كالف سنة مما تعدون )، وحيث القرآن ليس كتاب تاريخي او علمي ولايهدف الى اعلامنا بالتفاصيل وانما مختصر الامر بما يكفي للاعلان عن الالوهية والمطالبة بدفع الثمن.
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ(12)ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13)ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِين )
ان الاية اعلاه تشير بوضوح الى ان عملية التحولات ضمن الرحم هي جزء لايتجزء من عملية الخلق، وبالتالي فالخلق المعني ليس " كن فيكون" كما يفهم الامر الشيوخ وانما مراحل تطور وتسوية للشكل الانساني بما فيه تشكل الجنين في الرحم.
ومسألة الخلق المرحلي يصر عليه الله في ايات اخرى مثل:
{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ }
فهنا نرى مرحلة جديدة بعد مرحلة التسوية وهي مرحلة التعديل. وهذه المرحلة تتطابق تماما مع مرحلة ماقبل الانسان حيث ظهر نسخة ايركتوس ثم نسخة النيندرتال والانسان القزم والانسان اكس ولربما اخرين، حتى تمت مرحلة التعديل فظهر الانسان البشر في احسن تصوير. وحالة التعديل لازالت مستمرة حتى اليوم.
يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسْجُدُواْ لآدَمَ ...). لاحظوا معي ان الطلب من الملائكة بالسجود لهذا البشر ليس مباشرة عند الخلق " اي عند ظهور الارادة والتقدير، حسب المعنى اللغوي للكلمة" وانما عند انتهاء التشكيل والتصوير اي في المرحلة الاخيرة تماما.
ماذا تعني كلمة " خلق" في اللغة العربية؟
في لسان العرب : أصل الخلق التقدير ، ومعنى خلق الموت والحياة اي قدر الموت والحياة ،ويقع الخلق أو التقدير على الصفات والأحوال، نقول : خلق الله الخير والشر ، خلق الغنى والفقر، (انتهى الاقتباس من لسان العرب ) وبالتالي فالخلق يمكن ان يعني المادي والروحي على السواء، مع بعض او كل منهم على حدى.
وانطلاقا من ذلك يمكن رؤية جزئيي الصورة الروحية والمادية لعملية خلق واحدة، حسب مايعرضها القرآن ، يكون اساسها " التقدير" لما اراد وليس اخراج الارنب من قبعة الساحر كما في السيرك. على ذلك يكون من الخطأ الاعتقاد ان خلق الانسان هو بالمعنى الكلاسيكي الدارج وانما بالمعنى الذي تقول به نظرية التطور..
يحتار البعض في كيفية فهم بعض الايات التي تعطي انطباعا بتناقضها مع الايات السابقة التي تتكلم عن المراحل. مثلا الاية التي تقول:
{قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى }
والاية التي تقول: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }
بل ان البعض يحرص على الممانعة بالاية التالية ايضا: : {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ }
ومايثير استغرابي عدم الانتباه الى انه لايجري معارضة الايات اعلاه بما سبقها وانما يجري تبرير الاخذ بالمعنى الكلاسيكي من بعض الايات وتناسي انها تتعارض مع معنى اغلب الاية السابقة لها. لماذا يجري قبول معنى وتناسي معنى اخر بدون معارضتهم ببعضهم؟
ومع ذلك لاارى اي تعارض بينهم اذا قمنا بفهم الامور انطلاقا من التطور.
ان قوله " اهبطا منها" هو تعامل الله مع ارواحهم وليس اجسادهم، إذ لايمكن ولايجوز ان تكون الاجساد في عالم الله من حيث سيعني ذلك ان عالم الله مادي وله مكان، وان الله في ماخلقه، كما اشرت سابقا. في حين من الاكثر منطقية ان يكون المقصود هو روحهم فقط، والتي نزلتا الى الارض لتلاقي الجسد الذي انتهى من عملية النشوء والتسوية والتشكيل واصبح جاهزا لاستقبال الروح المنفوخة من السماء.. وهو امر يتطابق مع القوانين الكونية وإلا هل من المعقول ان نرى ادم وحواء يسبحان عاريان في الفضاء الكوني في رحلتهم الى الارض؟
والاية الثانية تقول ان المثال بالنسبة لمعناه " عند الله" وليس بالنسبة لنا. اي بالنسبة لله الامر كذلك. وهذا لايمكن ان يعني انه هو كذلك بالتفصيل الحرفي حسب مافهمناه نحن، عندها لن يكون بحاجة للقول " عند الله" إذا كان المقصود ان يكون كذلك " عندنا".
وتعليم ادم للاسماء كلها، لاشك انه تعليم الروح، اذ ان الاسماء كلها لم تكن قد خلقت ماديا اساسا وبالتالي لايمكن تعليمها ماديا وانما مجازيا. ذلك يترتب عليه بالضرورة ان ادم ايضا مجازي
امل ان يساعد ذلك في مخاض الفكر الاسلامي الحديث
وان يسجلها الله في ميزان حسناتي
والله اعلم