جميل جداً ... الدنيا ما زالت بخير مادام خطباء المنابر المسجدية والتلفزيونية يحثون الناس على القراءة :D
هذا حوار مع الكاتبة حول هذه الرواية .. حوار ممتع وحدا
* أنا لا أحب الشعارات الصاخبة ولا أسوّق لها ، خصوصاً تلك التي تضع حداً فاصلا بين وظائف المرأة والرجل.
* الأناجيل تقرر بصراحة مساواة الرجل بالمرأة في الحقوق والواجبات.
* البطلة كانت تنتمي إلى البلد الذي وصل في عدائه حداً متطرفاً لم تصله دولة عربية وقتذاك.
بنغازي - (خاص) ليبيا اليوم: أثارت رواية"للجوع وجوه أخرى" للكاتبة وفاء البوعيسى ردود فعل واسعة أدت إلى نفاذ الرواية،لكن السؤال الذي يطرحه الكثيرين من هي وفاء،ولماذا كل هذا الجدل حول الرواية الأولى،في هذا الحوار تتحدث عن وفاء عن محطات في الرواية.
* لم نعرفك كاتبة من قبل , أطلت علينا روايتك "للجوع وجوه أخرى" لتبعث جوعاً اجتاح مجالس المثقفين لمعرفة هذا الاسم الذي لم نقرأ له وعنه , فكيف تشكلت العلاقة بينك وبين الكتابة ؟ ولم اتسمت كتابتك بعداء الرجل؟
* يهمني أن أوضح من البداية أنني لستُ كاتبة قضية ولا إيديولوجيا , وأن المرأة ليست قضيتي حتى لا يشاع أني انتصر لها , وإن حدث ذلك فهو من قبيل الصدفة لا غير , أنا لا أحب الشعارات الصاخبة ولا أسوّق لها ، خصوصاً تلك التي تضع حداً فاصلا بين وظائف المرأة والرجل , ولست ملامة إن فُهم نصي على أنه ثورة على الرجل حصراً ، لكني في الواقع أتحدى السلطة ، أو التسلّط عموما ، ليس تسلّط الرجل فحسب , تسلط النظام , تسلط العادات , تسلط الفكر , تسلط القيم الدينية .....الخ.
لقد ارتكبت هذه الرواية الصادمة لألتقي به , أتقاطع أو أتوازى معه سيان , المهم أن نلتقي.
الرجل الليبي ليس عدوي ، أنا أحبه وأحترمه , أجده غيوراً , كريماً , ولازال يتمتع بمقومات كثيرة رغم انغلاقه , لذا لا أخوض معه حرباً ، ولا أميل إلى اعتباره جلاداً وأنا ضحيته , هذا لا يغويني , ولا يشغلني بالوقت الحاضر.
لكن الرواية تنطلق من مفهوم تحرير الاثنين معاً , وربما كانت تهدف إلى تحرير الرجل أكثر من المرأة , من هنا ربما شكلت لدى البعض سبباً لوصفها بالعداء معه , فهو يكابر على نفسه وهذه إحدى عيوبه الممجوجة , إنه يرفض أن يعترف بعدم استقلاليته , واستكانته لنفس الظروف والمناخات التي تستكين لها المرأة.
أما عن علاقتي بالكتابة فأنا أبداً لم أكتب شيئاً من قبل , أنا دائماً مشغولة , فلم أتصور حقاً أني سأجلس يوماً لأكتب شيئاً بحجم رواية , وهذه الرواية بالتحديد "للجوع وجوه أخرى" , لكني تعثرت بها , بالكتابة أو بالرواية لست أدري.
الكتابة الأدبية لم تقع يوماً ضمن دائرة اهتمامي , لكنني اكتشفت أنه بالكتابة يمكنك الكلام رغم فمك الأدرد , المتعثر بوجهه على الأرصفة , فتكف حينها الحقائق عن أن تتوب أو تلوذ بذاكرتها , ستمطر في داخلك النوافذ وتنتهي أخيراً لثغتك في ارتفاع صوتك الأعزل.
بالكتابة بات بوسعه الحلم أن يفيق ناكئاً بعد محاولة النهار , ويحطُّ كحمامة أعياها فرط التحليق لكنها مترعة بالأناشيد.
الكتابة كما عشتها أنا , إحالة على لحظة واسعة لكنها محبوسة في شكل , في كلمات تشتعل في دمك , تدفع أخيراً ذلك الباب القاسي وتجعل القفل يُذعن.
* يتساءل الكثيرون عنكِ , عن حياتكِ , وكيف عشتِ , هل لنا أن نعرف شيئاً عنكِ وعن طفولتك؟
* رغم إني أجده سؤالاً شخصياً لكني سأجيبك كي لا أُتهم بالتهرب من الجواب.
لقد عشت طفولة طبيعية , ربما كنتُ صعبة المراس قليلاً , لكن ذلك يعود إلى كوني كنت طفلة مدللة ومحببة جداً إلى أبي , أنا أنتمي لأسرة متماسكة دافئة , أبي رجل متعلم وأمي نصف متعلمة , تربيت على قيم تربوية تفتقر إليها كثير من الأسر الليبية , قيم حرية التعبير وحق الاختيار , جميعنا في البيت نحمل شهادات جامعية وعُليا بين الهندسة والقانون وعلم الحاسوب , وأنا أشتغل من سنة 98 بالمحاماة وقد نلت مؤهل عالي بالقانون الجنائي , اضطرتني دراستي للماجستير للسفر وحيدة عدة مرات لمصر وغيرها من أجل مراجع تطلبتها رسالتي , كما سافرت وحدي مؤخراً لدولة الإمارات العربية المتحدة لدراسة مشروع خاص كنت أفكر فيه , ودول أخرى غيرها بهدف السياحة وحدي أو مع العائلة , وأتمتع بقدر كبير من المسؤولية أحسن أبي غرسها فيّ , هل أرضاك جوابي؟
* عندما بدأتُ رحلة البحث عنكِ كنت أود أن أعرف مدى علاقتك بالشخصية المركزية ــ بطلة الرواية ــ فهل كانت الرواية تعبر عن محطات معينة في حياتك ؟ هذا ما يود كثيرون أن يعرفوه بكل صراحة.
* حسناً , ألم يحن الوقت بعد كي تُقرأ كتابات المرأة على أنها أدب وليس سيرة ذاتية؟
بربك , لقد حان الوقت كي يتم الكف عن لوم الروائيات لكتابتهن أعمالاً ذات منحى متحرر أو معالجتهن مواضيع غير مألوفة.
يجب قراءة الأعمال النسائية واكتشاف ما تقدمه بدلاً من صياغة نظريات عما كان يجب أن تقدمه تلك الأعمال.
على القارئ الليبي أن يتخلص من عقدته نحو كتابات المرأة وخطابها , يجب فك عقدة فهمه المأزومة ، المأزومة بالتشكيك في أن أية إسقاطات ما هي إلا حالة فردية تخص الحياة الشخصية للكاتبة ، أو كما قال لي بعض المستثقفين ممن يخوضون مشروع الكتابة صراحة , إنها كتابة غاضبة وتمثلني ، وهنا الأزمة ، أزمة الفجوة في الخطاب بين الكاتبة والقارئ وبالتالي المجتمع ، هنا ستقوم الجدران المقيدة للكتابة وإحباط الكاتبة وأزمة الثقافة والمثقف ، واستفحال فجوة فلسفة المسافة بين القارئ والكاتب.
* فكيف تردين على الذين رأوا في روايتك محض مغامرة أقدمتِ عليها عندما تناولتِ الكتابة في الجوانب الحسية ، هذا فضلاً عن اعتناق المسيحية بالطبع ؟ وما رأيكِ في القول أنها لم تأتِ بجديد سواء من ناحية البناء الفني أو التكنيك في الكتابة؟
* دعني أجيبك عن الشق الثاني من السؤال أولاً , لقد شيدتُ روايتي بقدر أقل من التجريبية والحداثة الروائية هذا صحيح , لكن غواية ضمير المتكلم وبالتالي طغيانه ، وإيثاري للسرد والمنولوج الداخلي حمّى روايتي فكانت تلك المواربة بين مكانين متشابهين مختلفين , ليبيا ومصر , بين ديانتين سماويتين متنازعتين المسيحية والإسلام , قيمتين متصارعتين الانفتاح والانغلاق.
روايتي لا تحتفي كثيرا بمتغيرات جمالية الشكل الأدبي , إنها تحتفي بالشخصية وتحفر باتجاه عوالمها , إنها تهجس بتفتقات عديدة للمعنى داخل غياب الأسئلة , الأسئلة حول إشكاليات قضايا المرأة عموماً.
والذين انتقدوا الرواية بحجة الاشتراطات الفنية أو غيرها , لا ينكرون حيازتها على شروط تعالي النص على إمكانيات إغواء القارئ ابتداء من الجملة الأولى إلى نهاية الجملة الأخيرة ، وعدم الاكتفاء بهذا الإغواء عن استكشاف غوامضه , إنهم يتكلمون بنوع من ردود أفعال يطبعها النقد اللا منهجي , فنقدهم لي لم يكن واضحاً , يكتفون بهذا الكلام العام فقط , طيب لا بأس , لم لا يكتبون هم شيئاً نستفيد به ؟ لم لا يكتبون عملاً يخضع لتلك الاشتراطات الأدبية التي لم يحددوها ؟ لم ـ رغم نقدهم الذي يصل حد الهجوم ـ ظل مستوى الرواية الليبية منحدراً , ولم ظل النقد الأدبي في ليبيا بهذا المستوى حتى الآن؟
عودة إلى سؤالك عن الجانب الحسي سأقول أنني لا أعتقد بصراحة أن الرواية تكتب في اتجاه الحس أو الجسد بمعنى المغامرة أو لفت الانتباه , غير أن الرؤية الذكورية السائدة لدى بعض مثقفينا هي التي تسلطت هنا حد اعتبارها مجرد محاولة للكتابة بنزق ولامبالاة.
إن أغلب أحداث الرواية تنهض على دلالات أخرى , إنها بمفهومي تنهض بحرية لا تنتهي بالبَوح في لغة الجسد وحده , إنما تتجاوزه إلى دلالات أخرى , إنها ببساطة لا تؤسس للصمت في لغة لا تعرف غير قول "نعم" , بل تنزاح إلى ضرورة تعلم قول لا , وفيم يتعلق بالجسد فهي لا لاعتباره ملكاً للرجل يفرض عليه ثقافته وقوانينه , وفي إطار تشكل الهوية عموماً فهي محاولة لإعادة تشكيل هوية الأنثى بتجليات أشد كثافة وأبعد عمقاً.
أما عن المسيحية ـ وأنا أعرف أنك تتحرق شوقاً منذ التقيتني للمرة الأولى إلى معرفة سبب كتابتي عنها ـ فيمكنني أن أقول بشجاعة أنها تبدو منفتحة على قيم كثيرة متسامحة ومتقبلة , إن الأناجيل تقرر بصراحة مساواة الرجل بالمرأة في الحقوق والواجبات ما عدا في الكهنوت حيث يستأثر الرجل فيه بكثير من المزايا , وفي الإسلام يسعني أن أقول أنه فرق بين الرجل والمرأة في الكثير من الأحكام سواء ما تعلق منها بالعبادات أو المعاملات , كمنع إمامتها ورفع صوتها في المسجد بالسؤال أو القراءة ومنعها من الولاية على الأمة , وهو أيضاً حظر عليها الاختلاط ومنعها من السفر لوحدها ووصفها بالعورة في بعض الأحاديث , ورفض شهادتها في الحدود عند طائفة كبيرة من ثقاة الفقهاء , في حين اشترط التعدد في الاستشهاد بالنساء في الأمور المدنية بينما اكتفى بالواحد من الرجال , كما منعها من تزويج نفسها متى كانت بكراً بغير رضا وليها ..... الخ , وبالنظر إلى المسيحية فهي قد منعت المرأة من أن تحتل أي مرتبة دينية ما أو حتى أن تكون شماصة بعكس الولد الذي يستطيع أن يكون شماصاً , ومنعت عليها قراءة الإنجيل بالكنسية.
لكن بخلاف مسألة الكهنوت الذي لا يعرفه المسلم فإن المسيحية كما ظهر للبطلة ـ تحديداً ـ تبدو منفتحة نحو تقبلها كأنثى تؤدي واجبها الدنيوي وهي تتمتع بأقصى قدر من حرية الاختيار والمساواة مع الرجل , فضلاً عن عدم مغالاتها في الجنوح نحو تحريم كل شيء مهما كان , الاختلاط , الخروج , التنقل , حق العمل واستكمال الدراسة , والزواج ممن تريد , كما أنها ـ المسيحية ـ لا تحرم الفن , لا تحرم الموسيقى , بل إن بعض التراتيل تؤدى بالموسيقى في الكنائس.
ليس من الحكمة الآن تجاهل مثل هذه القضايا , وبالتحديد وضع المرأة في مجتمعاتنا الإسلامية , والاكتفاء بالقول أنه أفضل من المجتمعات الأخرى , صحيح أن الشريعة الإسلامية قد أعطت المرأة بالمقابل حقوقاً لم تتمتع بها نساء الغرب حتى الآن ، لكن الممارسات الفعلية في بعض المجتمعات الإسلامية قد حكمت على الكثير من هذه الحقوق بوقف النفاذ.
أنا لا أريد أن يفهم حديثي على أنه إشارة مبطنة إلى مغالاة الإسلام في ذلك , بل إلى مغالاة الفكر الإسلامي نفسه في التعاطي مع مسائل المرأة والفن وغيرها.
والرواية تشي بجمود هذا الفكر ورفضه إجراء إعادة قراءة للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية والمذاهب الأربع , وإجراء تحديث لفقه المرأة بما يستوعب المتغيرات التي تمر بها المجتمعات الإسلامية والعالم من حولنا.
* من هذا المنطلق بالتحديد دعيني أسألك عن هذا الضجيج حول الرواية ، هل لأنها انتهكت حرمة الجسد واستطاعت تعرية الواقع الاجتماعي والسياسي والديني الذي تدور فيه الأحداث؟
* الرواية في جانب ما ( محدد ) منها تطرح مفهوماً غير معتاد عليه في ثقافتنا , إنها تحيل إلى اعتبار الرجل إشكالية بدل التسليم بأن المرأة هي الإشكالية وحدها , وربما جاءت خلفيته الإشكالية من مفاهيم بتنا حراساً لها , مفاهيم دينية تعزز دور الرجل كسيد , ودور المجتمع والعرف في تعميق هذه الثقافة.
وربما أيضاً لأنها جاءت اختراقاً للمألوف ولو رمزياً ، فالنص هنا ليس صدى للخطابات الاجتماعية المتراكمة والمنضدة ، إنه شيء يفوق ذلك كله ، لأنه يقول ذاته من خلال الأدب ، الأدب وليس شيئاً آخر.
وعندما يستجيب الأدب لهذه النوعية من الكتابات سينسحب الحديث عن الجسد مفسحاً لتقاطعات يتماهى فيها السياسي بالاجتماعي بالديني ..... الخ
إن بروز صوت نسائي بهذه الكثافة خلال ما يمر به المجتمع الليبي من متغيرات على صعيد ما يروج له الآن بالتصحيح أو الإصلاح ، والخروج من عباءة الذكورة ، يشكّل مناخاً جيداً لتخرج المرأة من ذاتيتها المستهلكة , لتقول حقيقتها بدون مهادنة أو خوف ، وبعُري كبير يحرج في كثير من الأحيان المجتمع نفسه.
وعطفاً على سؤالك فإنني أستطيع أن أقول لك إن أغلب الكاتبات الليبيات ـ وأقول أغلبهن لا كلهن ـ اعتمدن اللغة المبنية على الحشمة والحياء وثقل الموروث ، حيث يبدو الجسد لديهن مساحة للعنف والجبر ، مساحة للذاكرة الملأ بالوشوم , لكن هذه الرواية تذهب إلى أبعد من ذلك , تذهب إلى حيث يصبح الجسد مُتَسعاً للحياة والحرية والاختيار ، والشهوة والمتعة ، أي العودة باتجاه امتلاكه ككيان تحمله المرأة بعد أن كان مهيأً للرجل.
إن امتلاك مثقلات الجسد يرادف المرأة ذاتها التي تسكنها الرغبة المحمومة للخروج من الدوائر الضيقة باتجاه المزيد من تحطيم المقدسات ومسح الأوشام ، لئلا يتحول الجسد إلى لعنة تحمله المرأة وتدفع به للرجل ، لئلا تتحطم علاقة المرأة بجسدها فتسقط تفاصيله.
الجسد هنا كاللغة ، تُحدث التكسرات في عمق الأشياء , تتعثر ؟ أستطيع أن أتصور ذلك , لكنها تتشكل في نزيف المرأة وفي مشروعها ، وهي ليست لغة سهلة كما قد يبدو لك , إنها تستعص بعنف شديد ، تجاهد في الوشوم , في الموروث , في المقدسات , في الثوابت العتيقة المتخلفة ، من هنا أستطيع أن أفهم سؤالك حول الضجيج الذي أحدثته الرواية على حد تعبيرك.
أما عن سؤالك فيم يتعلق بتعرية الجانب السياسي بليبيا فأنا أفضل أن أكون صريحة على أن أكون متملقة , نعم نحن بليبيا لم نعتد النقد السياسي , ونمارسه الآن على استحياء وحذر , وأكثر من ذلك قلق.
ربما كانت الرواية على نحو أو آخر ـ كما ذهب إلى ذلك أحد النقاد المغاربة بمقالته النقدية عن الرواية بجريدة العرب ـ تحاكم بشكل غير معلن الخلافات العربية العربية , ولعلها أيضاً تسجل إدانة لفترة السياسات الليبية المترنحة بالسبعينات حتى منتصف التسعينات حين بدأت ليبيا أخيراً تعي أهمية وضرورة اعتماد المرونة والحوار بدل التشنج والرفض والقطيعة الذي لم يوصلها لأي مكاسب.
* إن الرواية تمور بالعديد من الأسئلة , إنها أسئلة متعددة وحافلة لكن السؤال الرئيسي فيها كان سؤال الحرية , هل توافقينني؟
* أظن الرواية تحفر في اتجاه سؤال الهوية , الهوية الفردية والجماعية وعلاقتهما بما هو سلطوي وتسلّطي , إنها تحفر في سؤال الكينونة والمصير.
وإجابةً لسؤالك تحديداً نعم , لقد أردت التأكيد على قيم معينة كالحرية والعدالة والتحرر، إضافة إلى احتدام الأسئلة.
أسئلة حول تغييب المرأة , هذا التغييب الذي بأي نسبة كان يجعل المجتمع في حالة مرتبكة وغير فاعلة.
نحن لم ننظر حتى الآن وبعمق في قضية المرأة كجنس وفكر وعمل برؤية شفافة وموضوعية.
وهو ليس موضوعا جديداً , هو ثمرة تراكمات طبيعية تتعلق بالتطور الاجتماعي ومستوى الوعي السائد والمرحلة التاريخية التي مر بها مجتمعنا.
ثمة عوامل أثرت سلبا على الرجل الليبي فأوقفت نضجه , أوقفت تطوره النفسي والأخلاقي في إدراكه للمفاصل الحساسة للمجتمع , وأثرت بشكل مضاعف على علاقته بالمرأة , لهذا فالمرأة الليبية لن تتقدم ولن تستقل مهما كانت صيغ الإصلاح والترميم التي ترافق مسيرتها الذاتية والفكرية إلا إذا تقدم الرجل واستقل من قيوده , سواء كانت هذه القيود سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو دينية فكرية أو ثقافية لأن تحرير المرأة مرتبط عضوياً بتحرير الرجل.
لكن بانتظار نضجه وتفهمه لم لا تقوم هي بمبادرة ما مثلاً , وما أظنه شخصياً هو أنه عوضاً عن أن تطرق الكلمات بابها وهي منتصبة هناك بقلق ووجوم وراء أسوار العادات والتقاليد , لم لا تقوم هي بإرسال كلماتها لطرق أبواب الآخر , الآخر الرجل , فتحاول بكلماتها أن تُلامس حصار الماضي لها في فوضى الدلالات , لم لا تجرب في اتجاه إعادة ترتيب أبجدية الفحولة من جديد بحرف نسغي فاعل ، فتكتب بما يحقق للهامش قوة ملامسة المتن؟
* وهل وقعت روايتك ضمن هذا الإطار "الحرف النسغي" ؟ أعني هل شكّلت مبادرة ما على نحو ما طرحته الآن؟
* في روايتي حاولت أن استدعي المكبوت , المكبوت المتراكم عبر الزمن لأعلنه أو ألعنه , ولا شك فإن استدعاء المكبوت يفضي إلى استدعاء البُنى التي تؤكد استقلالية المرأة , فتصير تسأل معه ـ الرجل ـ وتحفر معه , في الأسئلة , في القيم , في الحرية , في قد الهوية.
* في إطار آخر دعيني أسألك لم كان هذا التعمد من قبلكِ في تشويه بعض الشخصيات بالرواية كشخصية نجلاء ، وشقيق نجلاء الشاذ؟
* دعني أقول لك شيئاً , إن شخوصاً كنجلاء وأخيها الشاذ لا تحمل دلالة التشويه المتعمد على الإطلاق , إنها تحمل دلالةً أشد عمقاً وأذهب غوراً مما تظن , إنها تحمل دلالة الرفض والازدراء , والحصانة الذاتية التي يحمي بها الوطني نفسه في وجه كل دخيل أو غير منسجم مع مكوناته البيئية , وهي هنا البطلة , إذ شكلت البطلة مفهوم الدخيل في المجتمع المصري الذي عاش القطيعة السياسية العربية له بسبب اتفاقية كامب ديفيد.
لقد أثار وجودها حالة الاعتزاز بالذات والنبذ تجاهها لأنها مختلفة , فالبطلة كانت تنتمي إلى البلد الذي وصل في عدائه حداً متطرفاً لم تصله دولة عربية وقتذاك , وهو تبادل القتال والحرب الكلامية والسجال بين النظامين لسنوات.
وربما كان ذاك الـ ( تشويه ) كما عبَّرتَ عنه يمثل من ناحية البطلة الوجه الآخر للاغتراب.
والاغتراب ليس جديداً ولا طارئاً في الأدب العربي , لقد جرى تناوله كثيراً على المستوى الروائي منذ عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم وموسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح والحي اللاتيني لسهيل إدريس .....الخ.
والاغتراب من جانب البطلة حمل مفاهيمه المعروفة : العجز ، فقدان المعايير ، غياب المعاني ، اللا انتماء , فهو لم يكن يحمل فقط معنى البعد عن الأهل والأصحاب وذكريات فيها رائحة الوطن , بل معنى التمييز والاضطهاد , وقسرية حبس الأحلام لأن التصريح بها يغضب الآخرين.
* بصراحة رغم أنها الرواية الأولى لكِ لكنكِ لم تكوني موفقة في اختيار التوقيت والشخصيات ، الشخصيات في العمل تعبر عن حالات نفسية متأزمة تعيش بعيداً عن الواقع , أما أكبر شخصية متناقضة بنظري فكانت الزروق.
* لم أفهم ما عنيته بعدم توفقي في اختيار التوقيت , أتعني ما عناه البعض بأن الرواية جاءت مبكرة جداً وسابقة لأوانها وكان يجب أن تنتظر لعشر سنوات حتى ينضج المجتمع الليبي ويتقبلها بانفتاح وتسامح كما قال لي عدد من المثقفين ؟ أم تراك عنيت أنني لم أحسن اختيار الزمن الذي دارت فيه أحداثها وهو فترة السبعينات حتى التسعينات حين كان المجتمع الليبي بالغ التعقيد والانطباق ؟ طيب في الفرضين أظن السؤال غير عادل تماماً , لكني سأجيبك عن الشخوص.
شخصياً أجدني معجبة بهم وأحبهم جميعاً ، أو بالأحرى أعشقهم , أنا مأخوذة ومفتونة بهم ولو كانوا مرضى نفسانيين تجتاحهم أصلف المشاعر وأكثرها بدائية.
ثمة شخصيتين أو ثلاث قد ينسحب عليها هذا الوصف , لكنك لسبب ما تتجاهل شخوصاً رائعين كأندريه الصديق اللبناني المسيحي بمصر , ومنير الصديق الليبي بليبيا , والزروق الحبيب التونسي , وماما اعتماد , وطارق شقيق البطلة , أرأيت ؟ أملك شخوصاً طيبين أيضاً أليس كذلك؟
إن الروائي حين يخلق شخوصاً ما لا ينقل الواقع بالضرورة بل يتخيله ، لكن المخيلة ـ مهما كانت قدرتها الإبداعية ـ هي جزء من الواقع أيضاً , ولن تنكر أن بعضاً من هؤلاء الشخوص إن لم يكن جلهم يعيشون بيننا , فهل تجدهم شخصيات مريخية تختلف عن شخوص العالم الأرضي إلى هذا الحد؟!
أما "الزروق" يا عزيزي فقد كان النافذة الوحيدة على الجدار المغلق لبطلة الرواية , إنه صوتها المتوسل يتلعثم , يلثغ بفوضى اللا المكان الذي إليه تنتمي.
هكذا كان "الزروق" بالنسبة إليها , فهي تحمل ملامح المرأة العربية في المجتمعات الشرقية , الانهزامية وفقدان الثقة بالنفس والاعتماد على حل سيأتي به مخلصها , ولن يكون إلا رجل , رجل يتمتع بصفات استثنائية , رجل بصفات كالزروق , مثقفاً , منفتحاً , متقبلاً ومتسامحاً , ولست أدري أين وقع التناقض فيه بالضبط , لا أظن قراءتك له كانت نافذة.
* هل أفهم أنه كان أقرب الشخصيات إليكِ في العمل كونه يتمتع بهذه الصفات الاستثنائية؟
* لتعلم أنه لا تتوافر لكل الشخوص عموماً قدرة الفعل , بل إنه ليس كل الناس يستطيعون النفاذ إلى أبعد من الكلام , ومهمة شخوص العمل الأدبي توجيه الاهتمام إلى شخوص المسرح الواقعي , الحياة.
ورغم ذلك لا أستطيع أن أخبرك بأيها كان قريباً لنفسي , فكل الشخوص تُنشئ نوعاً من علاقة بينك وبينهما على طول العمل , رغماً عنك سيتسرب حبها إليك , ستتفهمها , ستستشيط غيظاً منها , ستتمنى أن تتصرف على نحو آخر غير ما أتى في الرواية , ستُفاجأ أنك بجرة حبر على ورق خلقت كائنات تناصبك الفعل , تتمرد عليك , تقرر ما تريد أو ما لا تريد , وأنت , بالكاد ستكون واقفاً كمتأمل ثم تتحسر وتتمنى لو أنها كانت غير ما كتبت.
لكن أظنني أخبرك بأيها أبعد , حسناً ربما لن تصدق لكنها الحقيقة تماماً , إنها بطلة الرواية نفسها , تلك التي لم أعرف لها اسم , تلك التي في تنكيرها تعريف لحكاية كل بنت تعيش معاناتها.
هذه الشخصية هي أكثر الشخصيات بعداً عني وإزعاجاً لي على الإطلاق.
تنفتح النوافذ أمامها عدة مرات لكنها تتنهد في الزوايا , تتثاءب على عتبات بيتها ثملة بالرماد محجمة عن المحاولة , عبثاً راحت تبتاع أحلامها من متجرِ الأسمال , فقد كتفها الخوف كالأشجار وكتب عليها العودة إليه.
لطالما انتظرت الرجل ليُحييّ المشط في شعرها, ليتجاوز بها الأسلاك الشائكة حيث الغبار ليس بوسعه المرور , سماؤها تشرق علي قرع أجراسه , وعند بعض مفترقات الطرق كانت تتوقف , تتسلق الغياب , ترسم أشجاراً يابسة وتنتظر , تنتظر جود عيناه بالمطر.
أنا لا تغويني المرأة التي تنفق حياتها تنتظر شيئاً , تغويني تلك التي تصنع خلاصها وتحفر , تحفر فوق الضجيج , تصنع السؤال والدهشة , هذا النموذج من النساء أمقته , وأجده بعيداً عن شخصيتي , إنها هشة , انهزامية , قزمة الإرادة , من هنا كان انزعاجي منها.
* جاءت الرواية معبقة بالشاعرية في مواضع كثيرة , فضلاً عن الاهتمام بالخطاب وإجادة الوصف في مواضع أخرى كوصفك للعلاقة الحميمية للبطلة مع الزروق ولقاءها به للمرة الأولى , ووصف ألم الموت ولقاء الأهل وغيرها , فمن أين جاء كل هذا الزخم ؟ هل تأثرت بأحد من الكتاب المعروفين؟
* ربما ستُفاجأ إذا ما قلت إن مطالعتي دائماً كانت في الأديان والسياسة والقانون , علم النفس والفلسفة والاجتماع , الأدب آخر ما كنت أتابع لقلة شغفي به باستثناء الشعر.
ورغم ندرة قراءتي للأدب كان الكاتب حنا مينا الوحيد الذي أفلح في شدي إلى عالمه الساحر والمختلف , وفي روايتي لن تلمس مهما حاولت تأثري بأحد باستثناء هذا الكاتب , لقد استعنت بمقطع من إحدى رواياته بالرواية في المشهد المتعلق بنزهة البطلة مع الزورق في النهر , لكن للأسف حُذفت الإشارة إليه عند الطباعة , كما وقع خطأ كبير في تدوين أرقام الإصحاحات المتعلقة بالأناجيل , ولا ننسى الخطأ الأكبر الذي أوقعتني فيه مجلة المؤتمر , تدوين كلمة قصص على الغلاف بدل رواية , وهو تحديد أجناسي يختلف تماماً كما تعلم , وربما كانت مقابلتك فرصة لقول ذلك علناً.
* كيف تصفين علاقتك بالدين؟ ولماذا كل هذا التشبث بالكتاب المقدس؟
* الدين كما أراه مكون أساسي لسلوكيات الأفراد وترشيد ثقافتهم , والأديان جميعها تتفق في قيم مشتركة منها إقامة العدل وعمارة الأرض.
شخصياً أحترم جميع الأديان حتى الوضعية منها , إنها محاولات موغلة لتلمس الطريق نحو الله , نحو الحقيقة والجوهر , وأرى أن من حق أي شخص أن يدين بالدين الذي يريد , ويتحمل مسؤولية اختياره , سواء كانت هذه المسؤولية جزائية أو أخلاقية أو أُخروية.
أنا أعترف بحق الآخر في عبادته أياً كانت دون عدوانية مني عليه , ودون تدخل طالما أن عبادته لا تؤدي إلي عدوانية ضدي.
وكمسلمة ليس مطلوباً مني قبول تعاليم الآخر كما يؤمن بها هو أو يمارسها , بل مطالبة باحترام حقه في التعبد , وهو أيضاً ـ الآخر ـ مطالب نحوي بنفس القدر.
أما في الرواية فيسعني القول أنني أردت نبذ التطرف والتأكيد على قيم الاختلاف , وقبول هذا الاختلاف بتسامح , واخترت أن يكون الاختلاف في أهم وأخطر ما يمس الإنسان , ديانته.
فإن قبلنا الاختلاف معنا في الدين فيسعنا قبوله في باقي المفاهيم الأخرى , ونحن الآن ـ عالمياً ـ مطالبون بقبول معتقدات الآخر وعدم فرض معتقدنا عليه بالقوة , وأذكر أنني كنت أتابع بشغف ملتقى حوار الأديان بدولة قطر في منتصف عام 2004 , وما ذهب إليه بعض الفقهاء المسلمين من ضرورة الحصول على اعتراف من المسيحيين واليهود بالإسلام كما يعترف المسلمين بهؤلاء , وأن الحوار انفض بلا نتائج مرضية.
أنت في قبول اختلافك عن الآخر أو اختلافه عنك ـ وأقول عنه لا معه ـ ستعترف بقيمه دون ازدراء أو عدوانية , دونما شعور بالتفوق أو ألأفضلية وكل هذه الاصطلاحات الشيزوفريبنة , نحن المسلمون عقدتنا في عنجهيتنا , في اعتبارنا الأخيار الوحيدين على الأرض , المتفوقين بامتياز , نحن نقول أن ديننا آخر الأديان وناسخها , ورسالتنا خاتمة الرسائل السماوية وأسماها , ونحن العرب أفضل أمة أخرجت للناس , حلو , لكننا لم لا نتعامل مع هذا المورث بحس المسؤولية , بأن نكون متقبلين متفهمين ومتسامحين؟
ورغم شعورنا بتفوقنا لم نتقدم على أي صعيد منذ عهد النبي الكريم , نحن مقصرين في الاستجابة لأي نوع من المبادرات بهذا الاتجاه , كما أننا عاجزون عن تطوير مبادرات ذاتية أيضاً , والنتيجة ؟ الآخر الذي نرفضه ونحس بالتفوق عليه ينمو ونحن نكبو ونكبو.
أظنني بالنهاية في إطار الدين أردت أن أقول أنه يتعين أن نبتعد عن صميم العقائد لأن كل واحد منا غيور علي دينه وان نتجه للحوار والتعاون في القيم المشتركة الأخرى.
إن القول بغير ذلك كفيل بإسقاطنا في مستنقع الاستعلاء والتباهي والإقصاء, وهذا بحد ذاته تطرف يقع فيه كل أصولي سواء كان يهودياً أو مسيحياً أو مسلماً.
أما عن الكتاب المقدس فكل الآيات الواردة بالرواية هي من العهد الجديد أي الأناجيل الأربع , وهي إحدى أجزاء الكتاب المقدس عموماً الذي يشمل العهد القديم والمزامير وأعمال الرسل ( التلاميذ ) , والواقع إنه كتاب رائع , إنه يشتمل على كل ما يمكن أن تبحث عنه في عقيدة المسيحي : الأخلاق والعادات والوصايا التي ترسمها الأناجيل للعمل , وشخصياً أجده ينادي بكثير من القيم التي نادى بها الإسلام , إنه بالكاد يفترق عنه , إنه كتاب أخلاق , كتاب تعليم وأكثر من ذلك لغته ذات سطوة بلاغية أخاذة , إنه يعجبني , وأذكر هنا قولاً للسيد المسيح عليه السلام بمرقس:17/2 : "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب ، بل المرضى ، لم آت لأدعو أبراراً ، بل خطاة إلى التوبة".
وربما كانت المحبة إحدى أهم الوصايا العشر المعروفة , والمحبة كما جاءت بها التعاليم الإنجيلية هي عطاء الذات ذاتها ، وانبجاسٌ من الأعمال ، وشمّالةٌ للعدو والخاطئ والشرير بمقدار ما هي تقصد أيضاً الله والقريب , كما أنها تعتبر أكبر وصية ، وشريعة الملكوت السماوي الأولى ، والمحقّقة له في هذا العالم , وبدونها يكون المسيحي مُدانا ً, بل هي تُحقِّق في الإنسان مملكة السماوات ، وهي نواةٌ في الأناجيل ، ومحور أخلاقي والمحرك الأكبر للعلائق وتاج الوجود والمآل.
* هل دار بخلدكِ يوماً كل هذا الجدل الذي أُثير حول الرواية ؟ هل توقعته؟
* كانت ردود الفعل على الرواية أكثر صرامة مما تصورت , وهي ردود فعل تقليدية من خلفيات محافظة في مجتمعنا , وقد فاجأتني قليلاً , وللأسف المجتمع الليبي في حقل المعرفة والإبداع الثقافي تخلف ويتخلف باستمرار , ودائماً تتدخل سلطات بالغة الانغلاق على فكر المثقف , سلطة المجتمع المتسلحة بالعادات والتقاليد حول رفض الكتابة عن الأنثى بل وعلى كتابات المرأة أصلاُ , سلطة المفاهيم الدينية التقليدية التي تمج التطرق إلى أحكام العلاقة بين الرجل والمرأة , وترفض مناقشة مفهوم العورة والحجاب مثلاً , وهذا شيء لا يصب في خانة تنمية المجتمع والنهوض بالمرأة طالما كان يُرفض مجرد السماح بإبداء رأي ما حول أمور تتعلق بحقوق المرأة في الاختيار , في الدراسة , في العمل , في الخروج.
والرواية بالمناسبة تتعرض لمفاهيم غاية في البساطة , إنها لا تتعرض لأمور حساسة كالقوامة أو الولاية وإلا لكانت الدنيا انقلبت على رأسي , إنها تتطرق لمفاهيم وحقوق أساسية جداً للمرأة , لكن المجتمع الليبي كما يبدو لي كان أشد إطباقاً مم اعتقدت , وبرغم الثورة الحقيقة على مستوى التشريع في إعطاء المرأة حقوقاً كثيرة لكنك حتماً ستلمس الفارق بين هذه التشريعات وبين نظرة المجتمع , إنه يكاد يستكثر عليها هذه الحقوق ويراها غير جديرة بها وغير أهل , الموضوع شديد التعقيد والتشابك ولا أظن الحديث يتسع هنا لرصد كل ذلك.
* في هذا الإطار بالذات تعرضت الرواية إلى هجوم من التيارات الأصولية ، في تقديرك هل الهجوم مبرر ؟ ومن هي الأطراف التي جاهرت بعدائها الرافض للعمل؟
* أي هجوم على حق الآخر في التعبير هو تصرف غير مبرر , والفكر الأصولي لدى بعض متشدديه ذو حساسية مفرطة لأية محاولة للنقد والتجديد ، فهو ينظر إليها بتشكك وريبة ، فضلاً عن سوء الظن الذي يصبغ نظرته لدوافع هذا الكاتب أو ذاك في أي نقد أو رأي يبديه.
هو فكر لا يكاد يؤمن بالحوار بل بالمصادرة , لا يؤمن بالتفكير وإعمال العقل , إنه لا يبحث ولا يجهد نفسه بالبحث مثلاً في علة تحريم الأشياء أو حتى إباحتها , لا يساير التقدم ويحترس من الجديد ويصفه بالمُحدث.
والمرأة دائماً كانت هدفاً للخطاب الأصولي , ينادي بنقصان عقليها ودينها , بتدني مرتبتها عن الرجل , بإلزامها البيت والاختصار في تعليمها , بتحريم كل ما يصدر عنها بما في ذلك رفع صوتها بالحديث أو السؤال فما بالك بإبداء رأيها في مسألة ما كالسؤال عن علة تحريم سماع الأغاني واقتناء التماثيل والتصوير , أو علة منعها من الاختلاط والخروج وحق اختيار الزوج كما جاء في الرواية مثلاً , بل وربما كتابة رواية أصلاً.
أما سؤالك عن الأشخاص الذين جاهروا بعداء العمل فيمكنني القول إنهم بعض المتشددين من هنا وهناك , بعض الغُلاة من المنتسبين للأوقاف أو المستثقفين ـ كما أحب أن أسميهم ـ الذين يشتغلون بتدريس مواد الشريعة , وبعضهم كما وصلني سجناء إسلاميين سابقين.
* إن معظم أحداث الرواية تدور في بيئة غير البيئة الليبية ، والقضية الأساسية قصة اعتناق المسيحية التي يمكن أن تثير جدلاً واسعاً في المجتمع المصري ، لكن في تقديري أن ما أثارته الرواية هنا في ليبيا مفتعل لأسباب غير واضحة ، وهو ما يرجح أن هناك خلفيات للموضوع ، كيف تردين على ذلك؟
* أتفق معك تماماً أن الرواية يمكن أن تثير حفيظة بعض الأخوة بمصر وهذا فعلاً ما حدث , لقد قوبلت بردات فعل متباينة من بعض القراء والمهتمين هناك , وقد جاءتني العديد من الرسائل والملاحظات حول الموضوع , لكن المجتمع المصري بالنهاية منفتح على قضية المسيحية كونه متعدد الطوائف , أما في ليبيا فقد جاءت ردة الفعل بسبب عدم انفتاحه بالمرة على مثل هذه القضايا , قضية تعدد الأديان وحرية المعتقد.
المجتمع الليبي مسلم مائة بالمائة , لم يعرف المسيحية إلا عند دخول أعداد كبيرة من الأفارقة للبلاد بسبب توجهها نحو الانفتاح على أفريقيا التي تضم غالبية مسيحية , هذه الغالبية التي تمارس شعائرها في بعض الكنائس بالبلاد بمنتهى التسامح , لكن قضية اعتناق المسيحية وإن كانت في دول أخرى تشكل نقطة اهتمام كبيرة كما حدث بدخول قرى كاملة للمسيحية بالجزائر , وبعض الأفراد بمصر , وموقف الحكومة الرسمي حيال ذلك في كلا البلدين , إلا أن جانباً من المجتمع الليبي تعامل مع روايتي بمنتهى الحدة والرفض.
لقد بدأ اعتناق الشخصية المركزية للمسيحية بالرواية كتوجه انفعالي خالي من التأييد أو الرفض , لقد جاء كتقليد , كبحث عن حماية وإشباع لحاجات مادية محضة , لكنه لاحقاً تحول إلى مبدأ , مبدأ تمسكت به حد تحسرها أن تدفن في مقابر المسلمين.
أما عن قولك بأن الجدل حولها من قبيل المفتعل فهذا بعيد عن الواقع.
فإن كنت تعلم بأمر المقالة التي كتبها أحد المتشددين التي تضمنت كثيراً من السباب الشخصي والرمي بالكفر لأنها نُشرت بإحدى الجرائد المحلية , فلعلك لم تعلم بالفتوى التي أصدرها أحد المشايخ بتحريم ثمن الرواية وتحريم قراءتها وتداولها , ولعلك أيضاً لا تعلم بأمر الشاب الذي جاء لمكتبي ناصحاً إياي بالاعتذار للمسلمين عن ما ورد فيها ومناقشتي حول موقفي من المسيحية ودعوتي للتوبة وسحب الرواية والرجوع عما أنا فيه من غي.
قد أتفق مع أن الجدل مضخماً ومبالغاً فيه لكنه حتماً ليس مفتعلاً.
* علمت أن الرقابة تدخلت بالحذف والتعديل في بعض أجزاء الرواية فهل هذا صحيح؟
* أعترف أن الرقابة تدخلت في نص الرواية , لكني لن أذكر أين وقع التدخل وكيف حتى لا يفقد القرّاء شعورهم بالتشويق في طبعتها الثانية.
* ما الذي لم تأتِ على ذكره فيها؟
* أن أحدد أين يقع خلاص الإنسان بالضبط , أهو في الدين في الانتماء أم في الإنسان نفسه؟
لكن دعنا ندخر معاً هذه الأمنية للجزء الثاني.
* هل ثمة أعمال روائية أخرى لكِ ؟ وماذا نتوقع فيها بعد ما أثرتِه في نص "للجوع وجوه أخرى"؟
* ثمة رواية أخرى تختلف عما كتب في الأدب الليبي النسائي كله , وهي لا تقل مشاكسة وإثارة للجدل من الأولى , فأنا مهتمة بالكتابة في مناخات غير مألوفة وأجهد نفسي كثيرا للوصول إلى هذه الأجواء , هل يكفيك هذا الجواب في الوقت الحاضر؟
* شكراً لكِ.
* أشكرك أيضاً , لقد خصصتُك بهذه المقابلة رغم عزوفي عن إجراء أي مقابلات لتقديري الخاص لنشاطك كصحفي , وأشكرك تحديداً فقد كنت صبوراً معي وأتمنى لك التوفيق دائماً.
الـــمصــــــدر