الجزء الأول : الرياضيات المشرقية

المصرية البابلية



تُعرف الرياضيات اليوم بأنها علم نظري محض ، يتأسس على المنهج الفرضي الاستنباطي . ولكن من المؤكد بأن الرياضيات كعلم ظهرت مع " طاليس " بشكل مباشر ، و في هذا الإطار كل واحد منا يتذكر " مبرهنة طاليس الهندسية " التي لُقِّنَت لنا في بداية المرحلة الإعدادية .



من المؤكد أن " طاليس " لم ينشئ مبرهنته هذه من فراغ ، فلولا التراكمات الهندسية والفلسفية – ربما سأتعسف قليل و اختزل الفلسفة من مضمونها اليوناني الصرف باعتباره فعل معرفي تجريدي بالدرجة الأولى ، و في هذا الإطار ساُعَرِّف الفلسفة بأنها مجموعة المعتقدات والقيم و الأنساق الفكرية التي تحكم نسق تفكير المشارقة ، أقصد هنا بآليات رؤيتهم الكوسمو ميتولوجية – لدى المشارقة ، لما أمكن لليونان أن يصل أصلاً إلى ما وصلوا إليه ، وما كان لتلك المُعجزة اليونانية أن توجد أصلاً .





فى مصر ..،



ارتبط ظهور الرياضيات عند المصريين بفعل إرهاصات اقتصادية و اجتماعية بالدرجة الأولى ؛ ففيضانات وادي النيل ، دفعت المصريين القدماء إلى إبتكار طُرُق و أساليب هندسية جديدة لتحديد مساحة الحقول و تنظيم الزراعة و الري ، كما أن اهتمامهم ببناء الأهرامات جعلهم يتقدمون أشواط كثيرة في نظرية الحساب .



لقد استطاع المصريين حل مشاكل معقدة جداً ، و بأدوات بسيطة جداً ، و لعل أهم مشكل كان يواجه المصريين هو : كيف يمكن استخراج مساحة متوازي الأضلاع ، و مساحة نصف الكرة - حَلُّ هذا المشكل حتى حدود " نيوتن " كان يتطلب حلاً بواسطة حساب التكامل intégral ، لكن بذكاء كبير أستطاع المصريين تحديد هذه المساحات بدقة معينة - . هذا هندسياً ، أما حسابياً ، فلقد استطاعوا رَدّ بعض العلميات المُرَكّبة من قبيل القِسمة و الضرب إلى العمليات الأولية مثل الجمع و الطرح ، هذا بالإضافة إلى قدرتهم الكبيرة على حل عدد كبير من مُعادلات من الدرجة الأولى .





و فيما بين النهرين ..،



في مقابل المصريين ، نجد البابليين قد استخدموا الرياضيات لأغراض أكثر أهمية من المصريين ؛ فلقد مكنتهم الرياضيات من دراسة حركات النجوم و الكواكب ، و قياس الزمن ، كما كانت لهم القدرة على حل معادلات من الدرجة الثانية باستخدام تقنية هندسية بسيطة تعرف في أدبيات الرياضيات باسم تقنيات المثلث ، " الدلتا " .



و لم يقفوا عند هذا الحد ، بل تمكنوا عبر نفس التقنيات مع إضافة بعض المتغيرات من حل بعض معادلات من الدرجة الثالثة .





ملخص ؛



مما سبق إتضح لنا أن الرياضيات المشرقية رياضيات متقدمة جداً . لكن السؤال الذي يَعرض ذاته علينا و بشدة : لماذا لم ينتج المشارقة الرياضيات كعلم صارم ؟ ( ! )



ربما الإجابة بسيطة جداً ، و لا تحتاج إلى الكثير من الشرح ؛ الإجابة ببساطة هو أن معظم الاستدلالات الرياضية كانت مرتبطة بأغراض حسية ، بالإضافة إلى إهمالهم لمجموعة عملية من قبيل " التجريد و التعميم و التحليل و التركيب " ، و هذا ما سينتبه له اليونان ، و لعل هذا ما جعل " ليون بيير بوترو " في كتابه (( l'Idéal scientifique des mathématiciens dans l'antiquité et dans les temps modernes )) يقول إن القطيعة الابستيمولوجية التي أحدثها اليونان في الرياضيات المشرقية تتجلى في استخدامهم مناهج مختلفة تماماً عن المناهج المشرقية ، مثل التحليل و التركيب و التجريد و التعميم .



سأقف مطولاً عند طبيعة هذه القطيعة التي تكلم عنها " بوترو " في الجزء الثاني من هذه السلسلة، التى تخص فلسفة الرياضيات .





----: الإحالة :-----



l'Idéal scientifique des mathématiciens dans l'antiquité et dans les temps modernes

..pierre léon Boutroux.

2 محمد عابد الجابري ،مدخل إلى فلسفة العلوم العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي،مركز دراسات الوحدة العربية تاريخ النشر: 01/07/2002

3 حرب الفكر الفسلفي و العلمي قبل أفلاطون،منشورات الأمة 1980 .

4 ميشل سير أصول الهندسة ، ترجمه بادو عبد الرحمان .منشورات بيروت ، بدون تاريخ

5 محاوراة مينون


انجاز الباحث مصطفى قشوح
فاس (المغرب ) في 14-11-2009