حرب تشرين أم نكسة حزيران
حل العقدة أم عقدة الحل
مقدمة :
من المفيد التنبيه إلى أنني بدأت الموضع بعرض عام توصيفي لمضمون الفكرة التي طرحتها في موضوعي الأول ، والذي من المفيد أن نؤكد أن هذه الاستنتاجات ليست وليدة صدفة أو قناعة تسببها أيديولوجيا أو مبدأ معين بقدر ما هي وليدة قراءات لتاريخ هذه المنطقة وتحليلات واستنتاجات متأنية ، والحقيقة كنت في حيرة من أمري هل أبدأ الشرح من العقدة التي تشكلت في وجه حل حقيقي للصراع العربي الإسرائيلي (1967) أم أنظر بالتاريخ بأثر رجعي ابتداءاً من محاولة حل عقدة هذا الصراع (1973)
(1) عودة بالتاريخ إلى عام 1967 وتبيان مكامن العقدة التي تشكلت فعلاً في عام 1967 .... أي بمعنى آخر هل أبدأ بالذهاب مباشرة إلى المشكلة ومن ثم محاولة تتبعها صعوداً على الخط العامودي للأحداث وقُدماً على الخط الأفقي للزمن ... أم بشكل معكوس نزولاً على خط الأحداث وعودة بالخط الزمني ..
وكلنا يعرف أن يوم 5 حزيران 1967 هو ذروة الفعل الإسرائيلي في الصراع العربي الإسرائيلي ويوم 6 تشرين أول 1973 هو ذروة رد الفعل العربي في هذا الصراع ... فمن أي ذروة ننطلق بالضبط ...؟
وكما أن المحلل النفسي يلاحق آثار المشكلة بملاحظة التصرفات المرضية الناتجة عن هذه المشكلة لدى الشخص ويقتفي آثار هذه التصرفات رجوعاً إلى المشكلة وإلى سببها الأساسي... فضلت أن أقتفي أثار 1967 بداية من عام 1973 وصولاً إلى العقدة وسببها الحقيقي ..
وقد يعتقد البعض أني أجري هنا محاكمة للتاريخ امتداداً من الــ 67 وصولاً إلى الـــ 73 .. وأقول لهذا البعض أنه مخطئ بالقطع ، فدراسة التاريخ والحديث عن الملابسات والظروف بأي حدث تحتاج إلى الكثير من التدقيق والكثير من الشرح والإسهاب وقد يستلزم شرح فترة معينة في التاريخ مثل الفترة الواقعة من 6 تشرين أول عام 1973 إلى 24 تشرين أول عام 1973
(2) إلى كتب ومجلدات ،وإن كل هدفي في هذا الموضوع التركيز على موضوع العقدة العربية المتشكلة نتيجة نكسة الــ 67 وأسبابها وتأثيراتها في الفكر العربي في حرب الــ 73 وما قبلها وما بعدها ...
حرب الـــ 73 :
سوف يرتكز شرحي لاحقاً في تبيان آثار نكسة الــ 67 في عقلية القيادة السياسية والعسكرية في الجانب المصري وطريقة التعامل مع الحدثين الأبرز على الجبهة المصرية للحرب مع إسرائيل وهما :
1- العبور وما اصطلح على تسميته الوقفة التعبوية للجيش المصري شرق القنال بعد إنجاز العبور .
2- ثغرة الدفرسوار وطريقة التعامل معها .
أما على الجانب السوري فسوف يكون الشرح استناداً إلى طريقة التعامل مع الحدثين الأبرز :
1- اختراق خط آلون في الجولان وصولاً إلى مشارف بحيرة طبريا .
2- جيب سعسع الذي أحدثته القوات الإسرائيلية في الهجوم المضاد باتجاه دمشق .
واسمحوا لي بداية أنا أبدأ من النهاية ... لحظة القرار بقبول وقف إطلاق النار على الجبهتين من قبل العرب ...!!
وقف إطلاق النار :
كان قد تم الخرق الإسرائيلي على الجبهة السورية
(جيب سعسع*) في بداية الحرب باتجاه دمشق لمحاولة وضع العاصمة في مرمى نيران المدفعية الإسرائيلية والضغط على القيادة السياسية والعسكرية السورية لخلق حالة انهيار حقيقي في الموقف السوري والقبول بوقف إطلاق النار .
وعلى الجبهة المصرية حصل خرق من منطقة الدفرسوار
(ثغرة الدفرسوار*) وتوسع باتجاه غرب القنال إلى درجة بات معها الجيش الثالث محاصر بين فكي كماشة ، ومحاولة الاسرائيليين الضغط باتجاه القاهرة لخلق حالة انهيار عند القيادة السياسية والعسكرية المصرية ....
كان هذا المشهد العام للحرب عندما قرر السادات القبول بوقف إطلاق النار وهذا ما أخطر به للأسد في رسالة قال فيها :
"لقد قاتلنا الإسرائيليين لليوم الخامس عشر . وكانت إسرائيل وحدها في الأيام الأربعة الأولى ، فاستطعنا أن نعري موقفها في الجبهتين .
وباعتراف العدو نفسه ، فإنه فقد 800 دبابة و 200 طائرة .
ولكنني كنت في الجبهة المصرية خلال العشرة أيام الأخيرة ،
أقاتل الولايات المتحدة أيضاً عن طريق الأسلحة التي ترسلها لإسرائيل . وأقولها بصراحة : انني
لا أستطيع أن أقاتل الولايات المتحدة ، أو أن
أتحمل أمام التاريخ
المسؤولية عن تدمير قواتنا المسلحة مرة ثانية ، لذلك فإني أبلغت الاتحاد السوفييتي أني مستعد لقبول وقف إطلاق النار في المراكز الحالية وعلى أساس الشروط التالية :
1- أن يضمن الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة انسحاباً إسرائيلياً وفق ما أقترحه الاتحاد السوفييتي .
2- أن يعقد مؤتمر السلام تحت إشراف الأمم المتحدة لتحقيق تسوية شاملة وفق ما اقترحه الاتحاد السوفييتي .
إن قلبي
ليقطر دماً وأنا أقول لك هذا . لكني أشعر بأن واجبي يقتضي اتخاذ هذا القرار ، وأنا مستعد لأن أواجه شعبنا في اللحظة المناسبة ، وأقدم إليه حساباً كاملاً عن هذا القرار " .
وجاء رد الأسد في اليوم التالي وقال فيه :
"لقد تلقيت رسالتك أمس بأعمق المشاعر . أخي أرجوك أن تعيد النظر في الموقف العسكري على الجبهة الشمالية وعلى جانبي القناة .
إننا
لا نرى سبباً للتشاؤم . وفي استطاعتنا أن
نواصل الكفاح ضد قوات العدو ، أكانت قواته قد عبرت القناة أولا تزال تقاتل شرق القناة . وأنا
واثق من أننا يمكننا بمواصلة المعركة وتشديدها ، أن نضمن تدمير تلك الوحدات من قوات العدو التي عبرت القناة .
أخي الرئيس السادات . إن من الضروري بالنسبة إلى الروح المعنوية للقوات المقاتلة التأكيد على أنه رغم أن العدو تمكن نتيجة حادث ما من اختراق جبهتنا ، فإن هذا
لا يعني أنه سيكون قادراً على تحقيق النصر .
لقد نجح العدو في التغلغل في الجبهة الشمالية منذ أيام عدة مضت ،
لكن الوقفة التي وقفناها عندئذ وما أعقبها من قتال شديد ، قد
عززا آمالنا بالتفاؤل . فقد أغلقنا معظم النقط
وسيكون في إمكاننا أن نعالج أمر النقط الباقية في مدى الأيام القليلة المقبلة .
إني أعتبر احتفاظ جيوشنا بروح القتال أمراً لا بديل عته .
أخي العزيز الرئيس . إني
واثق من أنك تقدر أني وزنت كلماتي بأقصى العناية ،
وبإدراك كامل إلى أننا نواجه أصعب فترة في تاريخنا . وقد رأيت أن من الواجب على أن أكشف لك عن تفكيري ، ولا سيما فيما يتعلق بالموقف العسكري على الجبهة الشمالية . والله معك "
(3).
الاستنتاجات :
إن كلا الجبهتين السورية والمصرية قد تعرضتا إلى ضغوط عسكرية واختراقات إسرائيلية خطيرة وإن لم يكن في فترات متزامنة تماماً ، ولكن على جانبي الجبهة كان هناك عقلية مختلفة في مواجهة الأزمات وهذا يتضح من الآتي :
1- أول ملاحظة تشد انتباهنا عندما تكلم السادات أنه يواجه مشكلة ، رأينا أنه يتكلم بصيغة المفرد ولا أقصد مفرد سوريا ومصر بل مفرد على مستوى القيادة المصرية (إنه يقاتل الأمريكيين ) ... بينما تكلم الأسد بصيغة الجمع عندما تكلم عن الجبهة السورية ، وهذا يدل على شعور بالوحدة (واضح) يعانيه السادات عند الأزمات .
2- كلمة (لكن) عند السادات أتت لتوصيف حالة من أجل تبرير فعل تسليم بالأمر الواقع ... بينما كلمة (لكن) عند الأسد أتت لتوصيف حالة من أجل وضع نقطة ارتكاز لرؤية تنشد تغيير الأمر الواقع.
3- بينما كان السادات قلبه يقطر دماً في رسالته (وضع التشاؤم) ، كان رد الأسد تتكرر فيه كلمة واثق (وضع التفاؤل) رغم أن وضع الجبهتين على أرض الواقع سيء بشكل عام
(4) .
4- إن عقدة النكسة حضرت بشكل جلي وواضح لا يحتاج إلى التدليل في عقل السادات عندما قال أنه لا يستطيع أن يتحمل مسؤولية تدمير القوات المسلحة مرة ثانية .. ولعل من الواضح أنه لو قال جملته الأخير بدون كلمة (مرة ثانية) كانت لتبدو عادية في غمرة البحث عن حلول لمشكلة قائمة ... لكن كلمة (مرة ثانية) أوضحت أنه ذهب للحرب وهاجس كبير وربما أوحد في ذهنه وهو هاجس الــ 1967 ...
5- من المؤكد أن الرجلين (السادات والأسد) كانا في السلطة أثناء نكسة الــ 1967 ، ولكن من المؤكد أن كل من الرجلين كان لديه موقعه وظروفه وطريقته الخاصة في استيعاب الدروس والعبر ولديه صلابة مختلفة في مواجهة الأزمات والفترات الحرجة وهذا ما سيتم شرحه لاحقاً عند استعراض أزمات الحرب .
----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------
الهوامش :
1- قد يعتقد البعض أني أغفل نكبة 1948 وما تلاها وانها غير مهمة .. والحقيقة أني أنظر لنكبة عام 1948 كبداية ظهور حقيقي لحجم المشروع الصهيوني في المنطقة وكما نعرف جميعاً أن العقدة لا تتولد أثناء تشكل المشكلة وبداية ظهورها وإنما تتشكل فيما بعد أثناء محاولات حلها والفشل الذي يترافق مع محاولات الحل .
2- صدر قرار وقف إطلاق النار الأول يوم 22 تشرين أول 1973 ولم تلتزم إسرائيل بوقف إطلاق النار إلا في يوم 24 تشرين أول 1973 .
3- هذا نص الأحاديث المتبادلة بين السادات والأسد مقتبس بالكامل من كتاب الطريق إلى رمضان للكاتب محمد حسنين هيكل ، وقد تعمدت اقتباس هذا النص من كاتب مصري لاعتبارين أساسيين :
أولاً – تميز هذا الكاتب بحِرَفيّة عالية في التوثيق .
ثانياً – كثيراً ما واجهنا الآخرين بوثائق نشرها السوريين وهم يكذبونها لمجرد أن السوريين نشروها دون التدقيق فيها ، فاقتبسنا من غير السوريين (المصريين تحديداً) كونهم أيضاً خاضوا الحرب ، وبذلك لا يعود لدى البعض حجة في التشكيك في مصادرنا وينصتون لصوت العقل مرغمين ..
وعلى كل حال اعتمدت في هذه الدراسة وفي الدراسات التي ستليها على المصادر غير السورية وقاطعتها مع مصادري الخاصة لننتج أفضل حقيقة ممكنة للقراء .
4- قد يعتقد البعض أن رسالة الأسد كانت للمزايدة ... ولكن من يعرف واقع الجبهتين المصرية والسورية وأن الجبهة السورية لم تكن أفضل بكثير وأنها عانت ضغط شديد في بداية الحرب . وأن سوريا عادت لتخوض حرب استنزاف لأكثر من ثمانين يوماً فيما بعد لوحدها يعرف أن الأسد كان يعني ما يقول .
*- عندما أشرنا إلى موقعي الجبهة اللذين حدث فيهما الخرق (جيب سعسع – ثغرة الدفرسوار) وضعنا روابط لصور الجبهتين منشورة على الويكبيديا الانكليزية ... وهي خرائط مقبولة في الشكل العام لوضع تصور عام للقارئ ليعرف عن ماذا نتحدث ، رغم أننا لا نعتمد الانترنت مصدر مرجعي لكن نحن لا نناقش تفاصيل عسكرية دقيقة حتى يتتطلب الأمر خرائط أدق ، وهي في النهاية مقبولة لغير العسكريين .
المصورات :
جبهة سيناء مصور رقم 1 :
http://upload.wikimedia.org/wikipedia/co...r_maps.jpg
جبهة سيناء مصور رقم 2 :
http://upload.wikimedia.org/wikipedia/co..._maps2.jpg
جبهة الجولان :
http://upload.wikimedia.org/wikipedia/co...heater.jpg
نشر في 29-5-2009