الزميل المحترم / الكندي
أحببت أولا أن أزيل أي حساسية أو حرج من أي نقد موضوعي. و لا أعتقد أن أيا من المحاورين المحترمين بهذا الشريط (لسابق خبرتي بهم جميعا) يرنو للجدل لحد ذاته أو للمكسب و الخسارة. ففي النهاية و في ظل حوار يسعى أطرافه لإثبات الحقيقة (من وجهة نظرهم) - و حتى إن لم يستفيد أي من أطراف هذا الحوار - فيقينا سوف يستفيد طرف ما من خارجه. و لعلمي هكذا يكون التقدم.
(f)
اقتباس: الكندي كتب/كتبت
إن إعتراضي الأساسي هو على الفكرة المركزية للطرح والتي، أنا واثق، هي واضحة للجميع بدون أي التباس: القطيعة التامة مع الإسلام. هذه القطيعة التي تناولها طرح الموضوع الأصلي، والمداخلات التي تلته لا تتعلق فقط بالتطرّف لدى بعض الإسلاميين، بل بالإسلام ككل جملة وتفصيلا وهذا ما عبّر عنه الفاضل "وليد" في رفضه الفكر الديني ككل قائلا "إذا كان لابد من الصدام فليكن إذا مرة واحدة و للأبد".
وجب أولا و دفعا لأي لبس في الألفاظ أن نستوضح مصطلح (قطيعة).
المقود بهذا اللفظ هو نفس ما قصد به في شرح الخروج من شرنقة الدين المسيحي في عصر النهضة الغربي و هو (
القطيعة المعرفية) أي
الكف عن إتخاذ الدين و نصوصه خلفية معرفية لمجتمع و ما و إتخاذ العلوم و المعارف الحديثة خلفية معرفية عوضا عن ذلك.
و هذا العامل و إن لم يكن العامل الوحيد في دفع عملية التقدم - بالمعنى الذي أوردتموه سيادتكم (حسب التعريف الكلاسيكي للتقدم والتخلف) - إلا أنه عامل شرطي في تلك العملية.
فلن يستطيع أي منا أن يجادل في كون العلوم الحديثة - منهجا قبل النتائج - كانت و لا زالت جوهر ذلك التقدم بكافة أطيافة. بل إن مصطلح التقدم في ذاته و بكافة مظاهره - يحمل جوهر ذلك المنهج.
و المسألة لم تكن في الخروج من ظلم و فساد رجال الدين أو الإقطاع لتنطلق قاطرة التقدم - بل إطلاق مارد العلم بحرية من حدود النصوص و محاكم التفتيش.
و لن يمكننا بأي حال إفتراض التقدم بهذا المعنى المقصود - مع تحييد و تثبيت التقدم العلمي - و من ثم تلك القطيعة المعرفية - و إلا فنحن نقصد حينها أي معنى آخر للتقدم.
و حين تطالب سيادتكم و نطالب معك بالعلمانية - فنحن ضمنا نفترض ضرورة حدوث تلك القطيعة المعرفية - إذ كيف نتخيل مجتمع علماني - يتخذ نصوص الدين خلفية معرفية - و تباعا دستورا و قوانين؟
القطيعة المعرفية هي عامل شرطي إذا - و ليس من الضروري أن يكون وحيدا - لما نتمناه جميعا (مجتمع متقدم علماني ديموقراطي) - أما ما أختلف مع سيادتكم فيه وهو نفس الفرض المتفائل للتنويريين الأوائل و هو إمكانية وضع المتناقضات معا (مجتمع ما قبل القطيعة المعرفية / مجتمع ديني الخلفية + تقدم).
هذا عن مناداتنا بالقطيعة المعرفية - أما عن الصدام من عدمه فهو نتيجة و ليس هدف ننادي به. و هو يتوقف بالكامل على طبيعة الخلفية المعرفية المراد عمل قطيعة معها و ليس على من ينادي بتلك القطيعة. و لن يمكن وضع كافة الأديان سماوية أو أرضية على إختلافها في سلة واحدة - فمنها من سيمرر تلك القطيعة بسلام - و منها من سيقرر طبقا لطبيعة نصوصه مثلا أن من دون ذلك الدماء.
و المسألة ليست كراهية شخصية أو غيره - و إن كان ذلك لا يفترض أن يغير من واقع الأمر شيئا - فأن نطالب بقطيعة معرفية مع الدين الإسلامي يطابق تماما أن تطالب بإقامة مجتمع علماني و كلا المطلبين لا يعني نهائيا إقصاء الآخر أو العدوان المادي و المعنوي عليه - و هو حق يكفله لنا ما تنادون به أيضا من ديموقراطية - و لا يجب إتهام من ينادي بكلا المطلبين بالكراهية -فمن المؤكد أننا نحن و سيادتكم ضمنا في مطالبنا نضمن حق ذلك الآخر في إعتقاده - لكن و على أرض الواقع في نصف الملعب الآخر - هل يتقبل منك هذا الآخر ذلك؟ و هل سيأخذ القضية كما تأخذها قضية فكرية و سيترك لك و لي حقي في تلك المطالب - أم أن الدماء سترد على الكلمات؟ و هل يوجد للآن و لدى أي مذهب أو فريق إسلامي تلك الصيغة الفقهية التي تبيح لك و لي ذلك؟ لعلمي لا يوجد.
الصدام الثقافي و الحضاري - لم و لن ينبع من العلمانية أبدا - بل سيكون نتيجة حتمية عن تيبس الخلفيات الدينية لمجتمعات ما و عدم قبولها لمرونة التغيير ذلك الجوهر اللازم لعملية التقدم.
اقتباس:في مداخلتي السابقة ضحدت، برأيي، محاولة المقال الرئيسي السخيفة نفي مآثر الحضارة الإسلامية في محاولته لنفي أي علاقة بين الإسلام والتقدم. فلو ثبت مثلا أن الحضارة الإسلامية كانت متقدمة -حسب التعريف الكلاسيكي للتقدم والتخلف- على ما جاورها من حضارات لسقطت بذلك نظرية الطرح. مداخلتي السابقة لم تكن عودة الى الأصولية كما استنتج الفاضل "بهجت" بل هي مجرد مداولة لخيط مطروح في أصل الموضوع عقبه مداخلة للزميل "العلماني" (على الهامش). ومن الواضح والبديهي، برأيي، أن من يحاول نفي صفة التقدم عن تلك الحضارة إنما هو يحاول أن يحجب الشمس بإصبع يده .. ولا أفترض مداخلة الزميل العلماني تدخل في هذا الإطار.
إذا، فإن النظرية التي يفترضها الطرح هي خاطئة بكل تأكيد .. والحضارة الإسلامية الغابرة تثبت خطأ هذه النظرية بمنهاج رياضي-منطقي.
سيدي الفاضل - لا يمكن تطبيق معايير التقدم ذلك الحين من سالف الزمن - للتدليل على تقدم نفس المنهج أو الخلفية أو حتى إمكانية ذلك الآن.
و بغض النظر عن إثبات أو نفي (كامل أو بدرجات) صفة التقدم عن المجتمع الإسلامي نسبيا عبر التاريخ - و بغض النظر عن كم مساهمات ذلك المجتمع في التقدم الإنساني - فلو فرضنا و سلمنا بتقدم هذا المجتمع لحين من الزمن بخلفياته المعرفية و الأخلاقية - فهذا لا يصح تسليما بأن هذه الخلفيات أو البنيات صالحة لقيادة التقدم في عصرنا هذا.
و هذا الحال مطابق لتسليمنا بالخطوات الهائلة التي خطتها الفلسفات اليونانية في التقدم البشري - لكن لو إفترضنا ثبات تلك الفلسفات و المعايير و فرضنا عدم الإنقلاب عليها في عصر التنوير و النهضة من جاليليو و غيره - لما وصلنا لما نحن فيه الآن.
و كمثال أكثر قربا - فنحن لا نبخس نيوتن حقه فيما أحدثه من ثورة علمية و تقنية هائلة بقوانين الحركة - لا نبخسه حقه حين نتخطى تلك القوانين بالنسبية.
إن جوهر التقدم هو قبول التطور و الديناميكية الدائمة - و لن يستقيم ذلك بفرض أن النص (المقدس أصلا و الثابت أبدا) يصلح للآن كخلفية لذلك التقدم.
اقتباس:1. ضرورة إعتماد العلمانية لا تعني ضرورة معاداة الأديان أو التدين. معاداة الأديان هو توجه فردي يعكس ميول صاحبه الشخصية. عندما يكون معاداة التدين موجها الى دين بعينه دون غيره، فهذا لا يمكن فهمه وتبريره، برايي سوى من باب التحامل الناتج عن التجربة الشخصية والتشكيل الثقافي الفردي.
2. القيم والقوانين العالمية للحريات وحقوق الإنسان تكفل لكل شخص حرية الإعتقاد والممارسة بما في ذلك حرية الإعتقاد والممارسة الدينية. فرض مقاطعة الممارسة الدينية، مهما كانت، بالقوة يتعارض مع روح الإعلان العالمي للحريات وحقوق الإنسان.
3. الخلق الديمقراطي، تعريفا، هو خلق تعدّدي يتقبل الآخر، آراءه، وحقوقه. والديمقراطية في روحها، ولو تعددت أشكالها، تعني في النهاية حكم الشعب. لا يمكن تعريفا إذا إقصاء شرائح إجتماعية عن الممارسة السياسية دون الإخلال بالنظام الديمقراطي، خصوصا عندما يكون هذه التوجه المراد إقصاءه متفشيا لدى الشعب.
..
..
إذا، من جديد، لا نريد قطيعة بين العلمانية وتياراتها النهضوية وعقائد الناس وتاريخهم وتراثهم والغابر من حضارتهم. نحن لا نعادي أديان الناس، ولا نحتقرها، ولا نريد القضاء عليها. نحن نريد فقط إيجاد القواسم المشتركة لتعايش يحترم حقوق الجميع، وحريات الجميع، ومعتقدات الجميع. هكذا بكل بساطة. وبرأيي، من جديد، اي صيغة أو صيغ لا تحترم هذا الإطار هي صيغ فاشلة بدلالة التجارب المتعددة لهذه الأنماط كما أسلفنا في هذا الشريط.
لم تنتهي المسيحية من العالم بعد عصور النهضة و ما تكلمنا عليه من قطيعة معرفية معها - بل إنتهت أن تمثل الخلفية المعرفية و الأخلاقية لتلك المجتمعات. سواء حدث ذلك بسلام أو عدمه هو نتيجة ذلك التطور و ليس هدف المطالب به.
و كونك تطالب بالعلمانية فكما أسلفنا - تطالب ضمنا بحق الإعتقاد - و بكل ما أسلفت سيادتكم من مطالب لا أعتقد أنها موجهة للعلمانيين بأي حال.
و دعنا نقترب أكثر من الواقع - فإذا كنت تطالب أنت بالديموقراطية و العلمانية و حرية الإعتقاد لغيرك من الدينيين - فهل سيترك لك غيرك نفس الحقوق - أم سيطبق عليك حدوده هو؟
و هل يستقيم المطلب (أعطني حريتك لكي أقتلك أو أقطع أوصالك)؟
إن هذا التناقض المنطقي الذي وصلنا إليه - نتيجة لتناقض شديد العمق على المستوى المعرفي - فيما لا يصح فيه أبدا تطبيق نفس المعايير الأخلاقية. و هو ما نقصده بتناقض الخلفيات المعرفية و بضرورة القطيعة.
ألا ترون معي سيادكم أن تلك المطالب التي أوردتموها هي مطالنا نحن و سيادتكم - و أنها يجب أن يعاد توجيهها للمجتمع الديني و ليس العلماني.
اقتباس:**2** في الحين الذي استند فيه الأفغاني ومجمد عبده والكواكبي الى التطورات السائدة في الفكر الغربي في فكرهم النهضوي، غير أنهم أستطاعوا التوفيق بين ذلك وبين إسلامهم. وهذه هي النقطة التي إردت إظهارها وذلك أن الفكر – بما في ذلك الدين - يأخذ شكل وعائه. فإذا كان الوعاء نهضويا، أخذ الفكر طابعا نهضويا، وإذا كان رجعيا أخذ الفكر طابعا رجعيا، وإذا كان متطرفا أخذ الفكر طابعا متطرفا. هذا الإطار التفكيري ينطبق على كل النظم الفكرية وليس فقط الدين. بإمكاننا، مثلا، معاينة وتقييم العلمانية في الإطار ذاته واستنتاج النتيجة ذاتها. ستالين، مثلا، كان علمانيا. ومجتمعاتنا مليئة بنماذج علمانية متخلفة ومتطرفة أيضا.
***3*** إن تراجع النهضة العربية، برأيي، لم يكن بسبب عدم مقاطعة مفكريها لتراثهم الإسلامي (ولم يكن كل مفكري النهضة مسلمين). العوامل التي تسببت في تراجع النهضة هي أكثر تعقيدا من أن تسمح بمثل هذا التسطيح والتبسيط. هناك تراكم لعوامل خارجية كالمشروع الصهيوني (استنزاف القدرات وتبرير غياب المسائلة) والحرب الباردة (عودة الإستبدادالديكتاتورية) واكتشاف النفط (فائض البترودولار لدى الوهابية). وهناك ايضا تراكم لعوامل داخلية متعددة وسعتها سابقا في سلسلة مقالات عن الديمقراطية وعوائقها في العالم العربي.
كما قد أسلفنا - فيجب ألا ننخدع بمسألة الوعاء - فالدين ثابت نصا و أحكاما - و ما قد تراه سيادتكم من وعاء مرن للدين - يراه أهل الدين خروجا عن صحيح الدين أو على الأقل النموذج المثالي للدين. و هذا الوعاء المرن لا يعدو أن يكون إبتعاد عن تمثل كامل النموذج المثالي أو عدم تطبيق كامل شرع الدين.
و تباعا فهذا الوعاء المرن هو وضع إجتماعي غير مستقر و غير سليم - يعتمد و يعترف نموذجا مثاليا ثم لا يطبقه - و هو إما في طريقه لتغيير أو ترك كامل النموذج أو العكس - النكوص لكامل النموذج.
و الأصل أن تعتمد نموذجا مثاليا - ثم تسعى قدر جهدك لتطبيقه - و ليس أن تعتمده لكي تسعى جهدك لتحاشيه.
و لمزيد من تفاصيل قد لا تهم القارئ:
قضية التطرف و الإعتدال
كما قد أسلفنا فإنه و إن كانت القطيعة المعرفية (و ليس مقاطعة التراث) ليست العامل الوحيد للتقد - فإنها عامل شرطي.
أما عن العوامل التي أسلفتموها سيادتكم (المشروع الصهيوني و الحرب الباردة و عودة الديكتاتورية و إكتشاف النفط .. إلخ) فلي عودة للتعليق عليها في مداخلة منفصلة نظرا للإطالة الزائدة.
و لك مني كل إحترام و تقدير ,,,