أعجبني هذا المقال لجاد الكريم الجباعي وعلى ثلاثة أجزاء، الذي أضعه بين أيديكم عن الطائفية في زمن الطائفية


مجتمعات الثقوب السوداء - أطروحات في المسألة الطائفية ( 1 / 3 )
جاد الكريم الجباعي: القدس العربي 14/11/2006

1
الطائفية بالتعريف نسق أو نظام ثابت من الأفكار والتصورات والقيم والشعائر والممارسات وأنماط السلوك وأشكال التواصل، ومن الأعراف والعادات والتقاليد، كلها ذات طابع مقدس، على اختلاف درجات القداسة اختلافاً يسمح، في أوقات معينة وظروف معينة، بتراخ ما في المعايير، في كل ما لا يمس جوهر العقيدة مساً مباشراً. والقداسة هي عامل الثبات الذي يحول دون إدراج الأفكار والعقائد المذهبية والطائفية في تاريخ الفكر، ما يضعنا أمام تاريخ خاص بكل مذهب أو طائفة، هو تاريخ المقدس، وبطانته هي تاريخ التنافس على "ذروة المشروعية العليا"، بتعبير محمد أركون، لإضفاء طابع "الحق الإلهي" على مصالح الفئة الغالبة أو السائدة، أو "الملة الناجية"، ونزعه عن الآخرين المخالفين أو "الأغيار". وهذان الثبات والتنافس يتجليان في اللغة والتاريخ،
إذ الخلافات المذهبية والطائفية لا تعدو كونها قراءات مختلفة لنص مرجعي مقدس، وتأويلات مختلفة لتاريخ مرجعي مقدس. ومن ثم فإن أبرز مظاهر الشقاق والتحاجز بين المذاهب والطوائف والفرق وغيرها هو عدم وجود "لغة" مشتركة وتاريخ مشترك، أي عدم وجود توافق على علاقة منطقية وتاريخية بين الدال والمدلول في اللغة ذاتها، جرَّاء ثنائية المعنى وكثافة الرمز واختلاف القصد وتفارق الظاهر والباطن، في تجليات الروح الطائفي، في القول والسلوك، ما يطرح أسئلة جدية على الأخلاق الطائفية التي تبلغ درجة إلغاء الآخر وتسويغ "القتل على الهوية". وعدم التوافق على معنى التاريخ وغايته وكونيته ووحدة اتجاهه، وعلى وقائع التاريخ ورموزه وأبطاله و / أو شهدائه.
فإن عدم وجود لغة مشتركة وتاريخ مشترك بين المذاهب والملل والنحل والطوائف، ناهيكم عن الإثنيات، ألقى بظلاله على التجربة التاريخية الحديثة، ولا سيما تجربة الكفاح "الوطني" من أجل الاستقلال والسيادة، فجعل من معطيات هذه التجربة، التي كان يفترض أن تعيد تشكيل الوعي الاجتماعي على مبادئ الوطنية الحديثة، وتسهم في بناء رأي عام وإرادة عامة، رصيداً إيجابياً و / أو سلبياً للمذاهب والطوائف، تحوَّل إلى مادة للتفاخر والتنابز؛ فتماهت "الوطنية" والمذهبية أو الطائفية في هوية واحدة؛ ما يشير إلى أثر الوعي الأيديولوجي الشقي في تعثر عملية أو سيرورة الاندماج الوطني، وفي تعثر عملية بناء دولة وطنية.
والطائفية، لغةً، نسبة إلى الطائفة، أي إنها تحديد ذاتي لجماعة دينية معينة، إسلامية أو مسيحية أو يهودية أو غير ذلك، وتعبير عن انتماء أفراد هذه الجماعة إليها بالولادة، وهي من ثم عصبية، بالمعنى الخلدوني. فالطائفة والطائفية مقولتان واقعيتان، ومن التعسف إنكار حق أي جماعة في تحديد ذاتها وحق أي فرد في تحديد ذاته، ما دام الناس لا يتخلون عن شرطهم الديني. والطوائف والمذاهب والفرق متساوية في القيمة الروحية والوجدانية، وكذلك الإثنيات والقوميات والثقافات، بصرف النظر عن عدد أتباع كل منها؛ فلا مجال للمفاضلة فيما بينها. ولكن المسألة تتعدى هذا الواقع البسيط والمباشر حين تغدو الطائفية علاقة سياسية تصير معها المصلحة العامة، الوطنية، جمعاً حسابيا لمصالح المذاهب والطوائف، وتصير الطائفية، من ثم، "هوية" حصرية مغلقة وكتيمة تغذي عوامل التنابذ والشقاق في المجتمع المعني، وعقبة كأداء في طريق تشكُّل هوية وطنية أو حقل وطني أو قومي عام ومشترك بين جميع أفراد المجتمع وفئاته وطبقاته. ولا تصير الطائفية كذلك إلا حينما تنتقل العصبية الطائفية إلى الحقل السياسي. فالظاهرة الأبرز في المجتمعات الطائفية هي تشظي الحقل السياسي وصيرورته نسخة كربونية عن الحقل الاجتماعي، تحفل بجميع كسوره وانقساماته العمودية، أي نسخة كربونية عن الوجود الاجتماعي المباشر، وما يتوفر عليه من بنى وعلاقات طبيعية، ما قبل مدنية وما قبل وطنية. في هذه الحال فقط يتحول المجتمع إلى نوع من مجتمع الثقوب السوداء. المسألة إذاً هي مسألة عدم وجود فروق وحدود بين الوجود الاجتماعي المباشر وشكله السياسي والأخلاقي، وهذا شكل موَّسط أو غير مباشر، إي إنها مسألة العقل الذي يضع الحدود والفروق وينتقل من البسيط إلى المركب ومن المباشر إلى المجرد ومن الخاص إلى العام؛ ففي هذه الحيثية بالضبط تندرج مسألة الدين والسياسة بوجه عام والمسألة الطائفية بوجه خاص، ولا مجال هنا لأي حديث عن الإلحاد أو عن إهمال أثر الدين في الحياة الاجتماعية.
وهذا النسق عميق الغور في شخصية الفرد والجماعة، يُخضع لمنطقه الداخلي، غير المستوعى، لا العلاقات الاجتماعية والإنسانية فحسب، بل عملية اكتساب المعارف والعلوم والقيم والمناهج الجديدة والحديثة، ويعيد تنسيقها وفق قواعده ومبادئه المعرفية، أو الذهنية/النفسية. وإلى ذلك يتسم هذا النسق بقوة الجذب، جذب الأفراد إلى مركز المذهب أو الطائفة، وتشكيل وعيهم الذاتي، على نحو يصير معه أي مظهر من مظاهر الحرية الفردية، ولا سيما حرية الفكر والضمير، شذوذاً وخروجاً على المألوف، بل كفراً يستحق صاحبه شتى أنواع العقاب، وأشدها العزل الاجتماعي أو الحرم والنفي. فإن مؤسسة التكفير (والتخوين) القائمة بين ظهرانينا اليوم هي ذاتها مؤسسة المنفى التي شهدتها العهود الماضية والعصور الغابرة. ومن البديهي أن تشتد قوة الجذب هذه كلما تعرضت الطائفة إلى مخاطر حقيقية أو وهمية تهدد ما تعده هويتها وكيانها، حتى لتغدو كل طائفة أشبه بثقب أسود يبتلع كل ما يقع في مجال جاذبيته، ويغدو المجتمع المعني نوعاً من تراصف ثقوب سوداء. ويمكن القول إن هذا النسق المغلق حدد على نحو عميق عملية اندراج المجتمعات الطائفية في الأزمنة الحديثة، وفي سيرورة الحداثة، وحدد من ثم مصائر الحداثة في هذه المجتمعات.
المشكلة الأساسية في المجتمعات الطائفية هي مرة أخرى مشكلة عقل ووجدان وضمير، بالتلازم الضروري بين العقل والوجدان والضمير، مشكلة صورة المعقول في نفس العاقل، بتعبير أبي حيان التوحيدي، أي إننا، في هذه المجتمعات، إزاء عقول مكوَّنة يدعي كل منها أنه العقل المكوِّن، ما يحول دون تشكُّل فضاء ثقافي واجتماعي وسياسي وأخلاقي عام ومشترك بين جميع أفراد المجتمع المعني وفئاته و "طبقاته"؛ وإزاء مذاهب وطوائف يدعي كل منها أنه الدين القويم ومذهب الحق و"الملة الناجية"؛ مذاهب وطوائف ألغت معنى الكلية والكونية والتاريخية في الدين، أي إنها ألغت الروح الإنساني الكلي والكوني، الذي يسري في الدين، أيِّ دين على الإطلاق. إلغاء الروح الإنساني الذي يسري في الدين هو ما يفسر قابلية القتل على الهوية، لأن هذا الإلغاء هو قتل بالقوة للروح الإنساني الذي لا يتجلى إلا في الأفراد، يمكن أن يصير قتلاً بالفعل، بلا أي وازع أخلاقي، وهو ما يفسر أيضاً جفاف العاطفة الإنسانية الأرقى والأشمل، أعني عاطفة الحب، بما هي تعبير عن قوة الحياة وعن تفتح الروح الإنساني وتوهجه في الفرد والجماعة، وتوق إلى الحرية والمساواة والعدالة، وتعلق بقيم الخير والحق والجمال، بخلاف ما تدعو إليه "ثقافة الموت".

2
الأديان والمذاهب والفرق والطوائف والزوايا كلها من صنع التاريخ، وهي، كغيرها من الظاهرات التاريخية، لا يمكن فهمها وفض أسرارها وفك رموزها من خلال نصوصها المقدسة فقط، أو من خلال ما تقوله كل منها عن ذاتها أو عن غيرها، بألسنة تيولوجييها وأتباعها وأقلامهم فحسب، بل من خلال وضعها جميعاً تحت مقولة الشكل ومنطق التشكُّل، أي من خلال وضعها في سياق نشوئها ونموها في العالم وفي التاريخ وصيرورتها وعياً ذاتياً، أي شكلاً من أشكال الوجود الاجتماعي. فالبشر ينتجون ذواتهم في العالم وفي التاريخ، ويعيدون إنتاجها أشكالاً شتى، منها الأديان والمذاهب والفرق والطوائف والزوايا؛ و "الشكل في مغزاه الأكثر عينية هو العقل بوصفه معرفة نظرية، والمضمون في مغزاه الأكثر عينية هو العقل بوصفه الماهية الجوهرية للواقع، سواء كان واقعاً طبيعياً أو أخلاقياً"، بحسب الفيلسوف الألماني هيغل. ومن ثم فإن أشكال الوجود الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي والأخلاقي التي ينتجها مجتمع ما، والعلاقات والروابط التي تعيِّنها هذه الأشكال، تنم على مدى عقلانيته، أو على المستوى الذي بلغه نمو العقل ونمو الأخلاق في هذا المجتمع، وعلى مدى اتساق أو عدم اتساق الشكل والمضمون، وعلى آليات التشكل وعلى القواعد والمبادئ والأسس المادية والروحية التي يقوم عليها، وتنم، من ثم، على إيقاع سير المجتمع وعلى اتجاهات نموه وتطوره؛ فضلاً عن كونها تعبيراً واقعياً عن مفهوم الهوية.

3
في التشكيلات أو البنى الدينية والمذهبية والطائفية، توتر دائم بين الشكل والمضمون، إذ الشكل ثابت باطراد، والمضمون متغير باطراد. والشكل هنا هو معرفة دينية نظرية توجه العمل وتحدد أنماط السلوك ومنظومة القيم وأشكال التواصل، وتحدد من ثم رؤية حاملها للعالم وللإنسان؛ هذه "المعرفة النظرية" تتحول إلى أيديولوجية مغلقة تنتج التطرف والعنف، كلما ضمر فيها الروح الإنساني وجف نسغها العقلاني واختفى أساسها الواقعي تحت ركام الأوهام. والمضمون هو الواقع العياني، المادي والأخلاقي. هذا التناقض يجعل الوعي الاجتماعي، في هذه التشكيلات، يتجه دوماً إلى الماضي، ويقرأ الحاضر بدلالته، أو يلجأ إلى الماضي خوفاً من مخاطر وهمية تهدد الهوية والكيان؛ فتجتهد كل فرقة دينية وكل مذهب وكل طائفة في تحيين لحظة التدشين الأولى التي انبثق فيها المذهب، حتى ليبدو المذهب كأنه وليد يومنا وساعتنا، وتعمل في كل حين على تغذية تمايزها واختلافها عن غير (ها) وتعزيزهما، وتأويل أقوال الآخرين وأفعالهم على أنها أقوال وأفعال تهدف إلى الكيد لها أو النيل منها، أي إنها تعيش حالة من التوجس الدائم وعدم الثقة بالآخرين، يقتضيان استنفار جميع قواها ومؤسساتها وأفرادها، للدفاع عن ذاتها، واستخلاص ما تعتقد أنها حقوقها؛ فمفهوم الحق عندها يقوم على الاقتناع الذاتي، لا على فكرة التعاقد والتواثق والاعتماد المتبادل. وتعمل كذلك على تأويل الوقائع والأفكار والقيم الجديدة والكشوف العلمية والظاهرات الطبيعية، فإما أن تقبلها على أنها أفكار الطائفة ذاتها وقيمها، وتجليات للقدرة الإلهية تؤكد معتقداتها، وتفتح مغاليق نصوصها المقدسة، وتفصح عن مكنوناتها، وإما أن ترفضها على أنها كفر وضلال، فتخال أنها برفضها تلك الوقائع وتأثيمها وتكفيرها قد ألغت وجودها الواقعي، وسيطرت على جميع تأثيراتها بسحر البيان، فهي من هذه الزاوية نسق قائم على الوهم والتوهم. وكلما أمعنت في أوهامها تبالغ في إظهار رموزها وشعاراتها وشعائرها لتوكيد هويتها. فلم يستقر في وعي هذه المجتمعات الطائفية بعد أن الهوية الفعلية الحية القابلة للنمو والمتجهة نحو المستقبل هي ما ينتجه المجتمع المعني على الصعيدين المادي والروحي. وبقدر ما يتجه الوعي الاجتماعي إلى الماضي مبتعداً عن الواقع ومنقطعاً عنه يسير المجتمع، في واقعه الفعلي، خبط عشواء، وتنقطع علاقات التسبب والتفاعل والتجادل بين الفكر والواقع وبين الوعي والوجود، ويشتد التفارق بين الماهية والوجود، كلما ابتعد النسق المذهبي أو الطائفي عن إطاره المرجعي الأصلي، فيصير الله، الذي تركت له الماهية في المرجع الأصلي، إلهاً مذهبياً أو طائفياً خالصاً، كإله إسرائيل، ويصير الوجود (الاجتماعي) سائباً منفلتاً من أي حد أخلاقي أو قيد عقلي أو رابطة كلية، سوى حدود المذهب والطائفة وقيودهما، وسوى رابطة إله المذهب والطائفة المتناهي والمحدود بحدود المذهب أو الطائفة، والذي أزاح الله، المطلق، اللامتناهي، عن عرشه، وقلص فضاءه اللامتناهي إلى فضاء متناه ومحدود، ونصير إزاء تنويعات شتى على "حجة الله" و "روح الله" و "حزب الله"، وإزاء تنويعات شتى على "شعب الله المختار"؛ ذلكم مؤدى قول أحد أبطال ديستويفسكي: "إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح". المجتمعات الطائفية بلا مطلق وبلا عام وبلا كلي، فالله غير موجود في هذه المجتمعات. إن تقليص الله إلى إله مذهبي أو طائفي هو، على الصعيدين: المعرفي والروحي، إلغاء المطلق، الذي هو مبدأ وحدة الكون، وحد يحد كل نسبي، ويحد من شططه وغلوه، وهو إلغاء مبدأ الكلية والعمومية، الذي لا تقوم المجتمعات والدول، ولا تقوم وحدة الجماعة الإنسانية، إلا به. هنا، على وجه الضبط، تتجلى مصاعب الانتقال من الملة إلى الأمة، ومن الأمة إلى الجماعة المؤنسنة.

مجتمعات الثقوب السوداء - أطروحات في المسألة الطائفية ( 2 / 3 )

4
عملية إنتاج المجتمع لذاته، التي تجري بلا انقطاع، (وتجري معها عملية إعادة إنتاج العقد الاجتماعي، ونمو الهوية الوطنية نظرياً وعملياً)، كانت ولا تزال تجري وفق واحد من مبدأين: إما مبدأ الغلبة والقهر، وإما مبدأ الحرية، أو الإرادة العامة، المعادل الذاتي للمصلحة العامة. في الحالة الأولى يكون التعايش، أي "العقد الاجتماعي"، عقداً بين جماعات مغلقة، (عشائر وأديان ومذاهب وطوائف وأعراق ينتمي إليها أفرادها روحياً وثقافياً وأخلاقياً)، لا بين أفراد أحرار، فيكون من ثم عقد غلبة وإذعان، يفرض بموجبه جزء من المجتمع قانونه الذاتي ومصلحته الخاصة على بقية الأجزاء بالقوة العارية، فيظل العقد هشاً قابلاً للنقض والنكول عنه، حيناً بعد حين. وفي الحالة الثانية يكون العقد الاجتماعي عقد حرية واختيار، لأنه عقد بين أفراد أحرار ينتمون إلى طبقات اجتماعية ومؤسسات مدنية (جمعيات ونواد ونقابات وأحزاب سياسية)، لا تنتفي معه التعارضات والصراعات الاجتماعية، بل تتغير أساليب حلها ووسائله بتغير مضمون القوة، فتتجه نحو نوع من النقاش والتفاوض أو المساومة، وتعبر عن نفسها بالتداول السلمي للسلطة؛ ومن ثم فإن العقد يظل قائماً ومقبولاً من الجميع، وقابلاً للنمو والتطور، وفق النتائج التي تتمخض عنها التعارضات الاجتماعية، في كل جولة من جولات الصراع الاجتماعي (الطبقي)، الذي لا يمكن أن يحسم بضربة واحدة وإلى الأبد، كما توهمت ماركسية فلاحية لم تخلص من آثار القنانة وروح الإقطاع. الفاعلون الاجتماعيون والسياسيون، والفاعلون ثقافياً وأخلاقياً، في الحالة الأولى، هم جماعات دينية ومذهبية وطوائف وإثنيات وعشائر وطغم رعاعية مغلقة ومتحاجزة، وهم في الحالة الثانية فئات أو طبقات اجتماعية ومؤسسات وتنظيمات مدنية ونقابات وأحزاب سياسية. الغلبة والقهر ينتجان سلطة مستبدة ونظام حكم لا يرقى إلى مستوى الدولة السياسية؛ والإرادة العامة تنتج دولة سياسية، وطنية، هي المقدمة الضرورية منطقياً وتاريخياً للدولة الديمقراطية، التي هي "وحدة الشكل والمضمون"، بتعبير كارل ماركس. الوطنية أو القومية، في الحالة الأولى، منظومة أيديولوجية ذاتية خالصة، تقوم على النظام المعرفي ذاته الذي تقوم علية الأيديولوجيات الدينية والمذهبية والطائفية والعرقية؛ وهي، في الحالة الثانية، انتماء فعلي خالص إلى الدولة السياسية، ليس فيه تفاوت وتفاضل، تصير معه المواطنة فضيلة سياسية يرتقي بها المواطن، بصفته شخصاً قانونياً وكائناً سياسياً، إلى كائن أخلاقي هو من ماهية الدولة السياسية ذاتها، بصفتها كائناً سياسياً وحقوقياً وأخلاقياً. ولذلك يقال إن الدولة السياسية تجريد المجتمع المدني، والمواطن تجريد الفرد الطبيعي، بل إن المجتمع المدني والدولة السياسية كليهما هما "الإنسان مموضعاً"، تحت مقولة القابلية للتحسن والتقدم.

5
مفهوم "التعايش" الذي يمتدحه منظرو الطوائف وسدنة هياكلها، لا يختلف واقعياً عن مبدأ الغلبة والقهر، الذي تعيِّنه نسبة القوى بين المذاهب والطوائف والعشائر والعرقيات. ونسبة القوى حصيلة مركَّبة من عناصر محلية وأخرى إقليمية ودولية، ينجم عنها عقد غلبة وإذعان هش، و"استقرار سياسي" مؤقت وملغَّم، تنفجر ألغامه عند أول سانحة، كما برهنت على ذلك ولا تزال تبرهن، "الصيغة اللبنانية" التي قامت على ميثاق 1943 المابين طوائفي، ثم على اتفاق الطائف الذي لا يزال حبراً على ورق؛ و"الصيغة العراقية" التي تتشكَّل اليوم في لهيب الحرب الطائفية؛ و"الصيغة السورية" أيضاً، التي يعبر عنها دستور 1973 الدائم دوام النظام الشمولي، ودوام حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، يحتكر جميع مصادر السلطة والثروة والقوة، "ويقود جبهة وطنية تقدمية" لا حول لها ولا طول. الصيغة الطائفية، ومثلها الصيغة الشمولية، بما هي حكم طغمة من الرعاع، تنفي عن البلد المعني صفة الوطن، وتنفي عن سكانه صفة الشعب أو الأمة؛ فسكان لبنان أو العراق أو سورية ليسوا لبنانيين أو عراقيين أو سوريين بعد، إنهم بالأحرى لبنانيون بالقوة وعراقيون بالقوة وسوريون بالقوة، يحتاجون إلى رافعة سياسية ليصيروا لبنانيين بالفعل وعراقيين بالفعل وسوريين بالفعل، وهذه الرافعة السياسية هي الدولة الوطنية. الوطنية، هنا، هي فضيلة هذه الدولة وماهيتها، وفضيلة مواطنيها وحقيقتهم السياسية والأخلاقية، وضمانة تحولها التدريجي إلى دولة ديمقراطية. وهي، أي الوطنية، كالإنسانية، صفة غير قابلة للتفاوت والتفاضل، ولا تطلق على الأفراد إلا من زاوية انتمائهم إلى الدولة الوطنية وعضويتهم فيها، بصفتهم مواطنين فحسب.

6
المجتمعات المتأخرة تعيد إنتاج وجودها وتنظيم حياتها، على نحو ما فعل أسلافها، منذ زمن بعيد، مللاً ونحلاً وطوائف وجماعات مغلقة ومتحاجزة، لأنها كانت ولا تزال بنى مغلقة تقوم على مبدأ التمامية والكمال، الذي يحكم كل جزء من أجزائها وكل كسرة من كسورها، في حين تقوم المجتمعات الحديثة المفتوحة على مبدأ النقص والاحتياج، فكل جزء من أجزاء المجتمع الحديث (كل فئة أو طبقة اجتماعية) هو نسق مفتوح، يعي أنه لا يقوم بنفسه، بل بغيره، ويشعر بأنه ناقص ومحتاج، ليس بوسعه أن يعيش منعزلاً أو يسير منفرداً، ويسعى إلى الاكتمال بالآخر، ويبادله سائر منتجاته، المادية والروحية، بدافع الحاجة الضرورية، أعني الحاجة إلى الاجتماع المدني. ومن ثم فإن المجتمع كله يشعر بالحاجة إلى الاكتمال بالمجتمعات الأخرى ويبادلها سائر منتجاته المادية والروحية. في حين يظل التبادل بين الطوائف، في المجتمع الواحد، تبادلاً مبتوراً يقتصر على الماديات، أي إن العلاقات الاجتماعية هي مجرد علاقات بين أشياء تعكس اغتراب الإنسان عمن يفترض أنه مواطنه وتجلي ماهيته الإنسانية. (اشتريت هذا الشيء من (واحد) نصراني، أو بعت ذلك الشيء (لواحد) مسلم. أو درزي .. أو متوالي؛ فصفة النصرانية، مثلاً، ومعها سائر الصفات الأخرى تنتقل من الشخص إلى الشيء) ففي مجتمعات الطوائف اليوم، المجتمعات التي تعاني من نقص في التطور الرأسمالي، ينجدل الاستلاب الديني والاستلاب السلعي، ويغذي كل منهما الآخر، ويتغذى منه، فتنتج، لا صنمية السلعة فقط بل صنمية المذهب أو الطائفة، أي ضرب من الانغماد والانثناء على الذات تعيش معه كل طائفة روحياً وثقافياً في عالمها الخاص، في سجن الطائفية، فتغترب عن المجتمع، روحياً وثقافياً، وتندمج فيه مادياً، بل شيئياً، ويغترب من ثم كل فرد من أفرادها عن بقية مواطنيه وعن غير(هـ) من بني الإنسان.

7
الطائفية تعيد إنتاج ذاتها باطراد وتعيد إنتاج طائفية مضادة باطراد، أي إنها تعيد إنتاج ذاتها، في جميع الأوقات، على كل صعيد. وما ذلك إلا لكون الطائفة بنية سوسيولوجية وثقافية نقية ومغلقة، كاملة، ومكتفية بذاتها، لا تدور إلا حول شمسها الخاصة، ولا تتوفر، بل لم تعد تتوفر، على أي تناقض داخلي يجعلها تنمو وتتطور؛ الواقع المادي، الذي ينمو ويتطور ويتغير لا قيمة له إزاء الأيديولوجية، التي تمتص حركته، وتدمجها في مساراتها الدائرية، وتعيد تأويل وقائعه وظاهراته وتصبغها بألوانها الخاصة، وتضيف جميع أسمائها إلى معجم مفرداتها الميتة. إنها بالأحرى بنية ميتة، أو وجود جوهري أو ماهوي خالص هو عدم خالص؛ والفاعلية التي تبديها في المجالات الاجتماعية والثقافية والسياسية هي فاعلية العدم: عدم الحرية وعدم المساواة وعدم تكافؤ الفرص وعدم الاعتراف بحقوق الآخر وحريته وعدم اعتراف بحقائق العالم وبحقوق العقل ... إنها فاعلية الموت لا فاعلية الحياة. الموت لا ينتج حياة، بل ينتج ذاته في الحياة.

مجتمعات الثقوب السوداء - أطروحات في المسألة الطائفية ( 3 / 3 )


8
بإعادة إنتاج ذاتها في جميع مجالات الحياة الاجتماعية، تعيد الطائفية إنتاج الأسس والمبادئ المعرفية الطائفية، التي تحكم عملية اكتساب المعارف والعلوم والقيم والمناهج الحديثة؛ فتقوم بعملية "إعادة تقلدة" هذه المعارف والعلوم والقيم والمناهج، أو إعادة تنسيقها وفق المبادئ والقواعد والأسس المعرفية الشغالة في منظومتها؛ فيبدو حاملها علمانياً وعصرياً في المظهر وطائفياً في الجوهر، وتقدمياً بالجملة ورجعياً بالمفرد، وثورياً في "السياسة" ومحافظاً في الأيديولوجية، من دون أن يعي ذلك، وفق آلية "الخوف من الحرية". أما القلة التي تعي ذلك فتمارس نوعاً من ازدواجية باتت السمة الأبرز للنخبة "العلمانية" العربية. وتتجلى ازدواجية هذه النخبة فكرياً وسياسياً وأخلاقياً في التلفيق، ولا سيما في لعبة قومنة الإسلام وأسلمة القومية، أو تعريب الإسلام وأسلمة العروبة، على نحو أدخل القومية أو العروبة في دائرة المقدس، الذي يتجلى، كما أشرنا، في "اللغة" و "التاريخ"؛ فليس للقومية أو للعروبة من تحقق أو تعين، حتى اليوم، سوى في مجال التأويل: تأويل اللغة وتأويل التاريخ، من دون أن نغفل تعثر الجامعة العربية وعجزها حتى عن إدارة الخلافات بين "الدول" العربية.
ولما كان الإسلام إسلامات، منذ الانشقاق الإسلامي الأول، فإن أسلمة العروبة صارت تعني مذهبتها أو تطييفها، وصار تعريب الإسلام يعني تعريب المذهب أو الطائفة؛ فتحول المذهب القومي لدى القوميين والمذهب الاشتراكي لدى الاشتراكيين إلى نوع من دين جديد هو الخمرة المذهبية أو الطائفية القديمة ذاتها في أوان جديدة، حتى بتنا إزاء عروبة سنية وأخرى شيعية، بعد إخراج المسيحيين العرب، فضلاً عن اليهود العرب، من حظيرة العروبة، وإزاء بقايا "اشتراكية قومية" وفق رؤية كل من هاتين العروبتين. فليس من عجب، وهذه الحال، أن تدافع جماعات و"أحزاب" مذهبية وطائفية متطرفة وظلامية عن عروبة لبنان والعراق وفلسطين والسودان وغيرها، أي أن يدافع غلاة الإسلامويين عن مبدأ علماني أو يفترض أنه كذلك. وليس من عجب أيضاً أن يلتحق القومويون بغلاة الإسلامويين فكرياً وسياسياً وأخلاقياً. فإن عملية أسلمة العروبة وتعريب الإسلام أخضعت العروبة لمبادئ المعرفة الدينية، المذهبية والطائفية، على الصعيد النظري، وللاستراتيجيات الاجتماعية والثقافية والأيديولوجية و"السياسية" للمذاهب والطوائف الإسلامية، على الصعيد العملي، وجعلت من الإسلام موضوعاً للتلاعب. وإن سديمية فكرة العروبة وافتقارها إلى أي تعين مادي لدى القوميين، ومذهبيتها لدى المسلمين والإسلاميين معاً، جعلتا مثل ذلك الإخضاع وهذا التلاعب ممكنين وسهلين، بحكم نزعة شعبوية تلبست النخبة "العربية الإسلامية" ولا تزال.
المذهبية أو الطائفية، من هذه الزاوية، ليست ظاهرة مقصورة على البلدان التي تتوفر على تعدد ديني ومذهبي وطائفي وعرقي، بل هي ظاهرة عامة في المجتمعات التي لا تزال تقوم على إلغاء الحدود بين الوجود الاجتماعي المباشر وشكله السياسي، أي بين المجتمع المدني والدولة السياسية، ويتحول فيها التنافس على ذروة المشروعية الدينية أو غيرها تنافساً على السلطة. يفترض الباحث أن النزعة القومية الناصرية، بما هي نزعة شعبوية ذات مضمون ديني (إسلامي سني) لا لبس فيه هي التي أيقظت الطائفية النائمة في مصر، وأيقظتها في لبنان والعراق، فضلاً عن العرقية النائمة، غداة الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية عام 1958، والنزعة القومية المشرقية، كما تجلت في سورية والعراق خاصة، في حزب البعث العربي الاشتراكي، هي التي عززت الطائفية وزادت من توترها حتى غدت طائفية مقاتلة. كما عززت النزعات الإثنية، وولدت لدى بعضها ميولاً انفصالية. هذا الافتراض يستفز المشاعر بالطبع، ولكنه لا يرمي إلى مجرد الاستفزاز، بل هو دعوة إلى إعادة التفكير في المسألة القومية، بجميع منطوياتها، وإلى التفكير في مضمون العروبة الماضوي والمذهبي والعرقي، ونقده بلا هوادة. فلا يحق لأحد أن يدعي أن تصوره للعروبة هو العروبة، فينصب نفسه قيماً عليها، ولا يستقيم أن يكون هنالك بين العرب من هو عربي أكثر من الآخر، اللهم سوى السيد محمود أحمدي نجاد، رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
جميع الذين يتحدثون عن الأمة العربية اليوم إنما يتحدثون عن فكرة مجردة، ليس لها أي تعين مادي، فباستثناء قلة من المفكرين لا يبلغ عددهم عدد أصابع اليد، لم يؤثر عن أحد من القومويين العرب أنه ربط مفهوم الأمة بمفهوم المجتمع المدني، منظومة الحاجات الواقعية، ومسرح التاريخ الواقعي، وبمفهوم الدولة الوطنية/القومية، بما هي تجريد المجتمع المدني وتحديد ذاتي للشعب، أي بما هي الدولة القائمة بالفعل التي ينتمي إليها هؤلاء "العرب" انتماء خالصاً، ويجدون فيها تجسيداً فعلياً لهويتهم القومية ولماهيتهم الإنسانية. الأمر الذي يفسر ضعف الروابط الوطنية/القومية في جميع البلدان العربية، والمذهبية والطائفية من أهم أسباب هذا الضعف ومن أبرز مظاهره؛ فانتماء العربي روحياً إلى فكرة مجردة هي الأمة العربية أو الأمة الإسلامية، ولا فرق، وإلى دولة منشودة هي "الدولة القومية" أو الدولة الإسلامية إنما يضعف انتماءه إلى الدولة الواقعية، السورية أو العراقية أو اللبنانية أو المصرية ..، التي لا تعدو كونها دولة عابرة، في نظره، فضلاً عما ترسب في الوعي من ظروف نشأتها. هنا يتجلى على نحو لا لبس فيه أثر الأيديولوجيات الدينية والمذهبية والطائفية في الوعي الاجتماعي بوجه عام، وفي الوعي السياسي بوجه خاص، فالمضمون الديني: المذهبي والطائفي، للعروبة، ناهيكم عن مضمونها العرقي، يسهل عملية إنتاج المذهبية والطائفية وإعادة إنتاجها في الحقل السياسي، فيكف هذا الأخير عن كونه حقلاً عاماً، وتكف السياسة عن كونها علم إدارة الشؤون العامة، أو "علم الدولة"، وتتحول إلى أداة حادة في يد هذه الطائفة أو تلك أو في يد هذا المذهب أو ذاك، وتتحول الوطنية أو القومية إلى إرث حصري وملكية حصرية لهذا المذهب أو ذاك أو لهذه الطائفة أو تلك؛ لذلك يسهل عندنا تخوين الآخر، المختلف أو المعارض، كما يسهل تكفيره.
ومن ثم فإن مشكلة مجتمعاتنا لا تكمن في عدم فصل الدين عن السياسة أو عن الدولة فحسب، بل تكمن، قبل ذلك وبعده، في عدم تمييز مجال المجتمع المدني من مجال المجتمع السياسي مفهومياً وواقعياً. إنها في الحالين مشكلة عدم. فمن جراء عدم التفريق بين مجال المجتمع المدني، مجال التعدد والتنوع والاختلاف والتعارض، وبين مجال المجتمع السياسي، مجال الوحدة، وحدة الاختلاف والتعدد والتنوع والتعارض، انزلق معظم الذين اقترحوا العلمانية حلاً للمسألة الطائفية إلى عدم تقدير الدين حق قدره وعدم تقدير أثره في تشكيل الوعي الاجتماعي وفي التربية الأخلاقية خاصة، وعدم الاعتراف بحقوق الدين وأهمية نموه بحرية، وفق قوانينه الخاصة، في رحاب المجتمع المدني، وعدم اكتشاف فكرة أن سمو الله تضع فكرة سمو القانون، وأن القانون العام (الدستور) الذي يضعه المجتمع لنفسه هو ضمانة الوحدة وماهية الدولة الوطنية، فبدت العلمانية دعوة إلى الإلحاد، أو إلى تهميش الدين وعدم الاكتراث به في أحسن الفروض. فإن عدم تمييز مجال المجتمع المدني من مجال الدولة السياسية أو المجتمع السياسي العمومي كان ولا يزال علامة على وعي سديمي مرتبك وملتبس، وإن تمييز كل من هذين المجالين من الأخر مفهومياً وواقعياً يحفظ جميع حقوق الدين وجميع حقوق المذاهب والطوائف والفرق، في رحاب المجتمع المدني، ويحفظ حقوق العقل والأخلاق وحقوق جميع المواطنين في رحاب الدولة السياسية. فحياد الدولة حياداً إيجابياً عن جميع محمولات مواطنيها وتحديداتهم الذاتية لا يعني بأي حال من الأحوال تخلي مواطنيها عن شروطهم الدينية أو المذهبية أو الطائفية. فالدولة الوطنية الحديثة، بوصفها كائناً أخلاقياً على صورة الإنسان ومثاله لا تتعارض مع أيٍ من انتماءات مواطنيها الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو غيرها، ما داموا جميعاً ينتمون إليها، أي إلى الدولة، بالتساوي؛ فتجرد الدولة الوطنية من أي شرط ديني أو مذهبي أو طائفي هو أساس عدم التعارض. يجب الاعتراف من المبدأ والمنطلق أن جميع المؤسسات الدينية والمذهبية والطائفية هي من مؤسسات المجتمع المدني، يجب أن يحميها القانون، ويكفلها، أسوة بالجمعيات والنوادي والنقابات والأحزاب السياسية وغيرها، وأن لجميع الأديان والمذاهب والطوائف حقوقاً متساوية في نطاق المجتمع المدني، لا في نطاق الدولة السياسية.
ولما كانت الدولة كائناً أخلاقياً على صورة الإنسان ومثاله فإنها تجلي الحرية الموضوعية، التي يجسدها القانون، وتجسيد للعقل، والحرية هي جوهر الإنسان وماهيته، والعقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس، فمن البديهي أن مواطنيها أحرار في ما يعتقدون من عقائد وفي ما يدينون به من ديانات ومذاهب وفي ما يمارسون من طقوس وشعائر؛ فالدولة لا تفرض على مواطنيها شيئاً لا يفرضونه على أنفسهم، ولا تلزمهم بشيء لا يلزمون أنفسهم به، بوساطة ممثليهم المنتخبين انتخاباً حراً ومباشراً وسرياً ونزيهاً، ومن يلزم نفسه يظل حراً. وكل ما يفرضه المواطنون على أنفسهم بوساطة ممثليهم يدخل في باب الواجب، لا في باب الإكراه. ومن ثم فإن جميع أنظمة الحكم التي كانت تفرض على رعاياها عبادة ما أو شعائر معينة، أو لا تزال تفرض عليهم عقيدة سياسية أو مذهباً فكرياً أو أيديولوجية قومية أو دينية أو اشتراكية لا تدخل في مفهوم الدولة الوطنية، إنها أي شيء سوى الدولة الوطنية الحديثة. جميع أنظمة الاستبداد تنتمي إلى عصور ما قبل الدولة الوطنية الحديثة، وجميع الأنظمة الشمولية وأنظمة الاستبداد المحدث، كالفاشية والنازية والستالينية والبعثية وأضرابها هي حالات نكوص أو تنكس إلى ما قبل الدولة الوطنية.
لعله من الصعب، إن لم نقل من المستحيل، حتى يومنا، أن يتخلى المجتمع، أي مجتمع، عن شرطه الديني، ولعله من باب العسف والإكراه أن يفرض عليه ذلك فرضاً، باسم مبدأ سامٍ أو حكمة أعلى؛ لذلك بات لزاماً على الدولة أن تتخلى عن هذا الشرط، ولا سيما في البلدان التي تتوفر على تنوع ديني ومذهبي وطائفي، وبات لزاماً علينا أن نفرق مفهومياً وواقعياً بين المجتمع المدني بوصفه فضاء الحرية وميدان الاختلاف، ومنظومة الحاجات ومسرح التاريخ، وبين الدولة، بوصفها فضاء القانون وهوية الاختلاف أو وحدة الاختلاف، أي بوصفها فضاء الحرية التي صارت قانوناً، وأن نعترف اعترافاً مبدئياً ونهائياً بحقوق الدين في مجال المجتمع المدني، وبحقوق العقل وبمطالب الروح الإنساني، في مجال المجتمع السياسي. فبانتمائه إلى الدولة الوطنية يربح الفرد الذي يتبع هذا المذهب أو ذاك، هذه الطائفة أو تلك، أكثر مما يخسر، فهو إذ يحتفظ لنفسه بجميع محمولاته وتحديداته الذاتية، يربح الحرية، حرية الفكر والضمير وحرية الرأي والتعبير وسائر الحريات الأساسية الأخرى، ويربح المساواة مع سائر مواطنيه، ويربح حماية الدولة له، حتى من جور الطائفة الذي لا يخلو أن يتعرض له الأفراد.

9
الطائفية التي نحاول مقاربتها في هذه الأطروحات عَلَم على تاريخ سياسي متخثر، تحكمه نزاعات دون سياسية، تنبعث من قيعان المجتمعات الراكدة، تنفجر تارة، وتخبو تارة أخرى، لتنفجر من جديد حاملة معها مخزوناً هائلاً من الكراهية والحقد والنزعات الثأرية، فتخضها خضاً تبدو معه هذه المجتمعات كأنها على مشارف تحولات نوعية، يصفها بعضنا بالثورية، جراء التباس السياسي والطائفي، وتتحول معها كل طائفة إلى نوع من ثقب أسود يبتلع كل ما يقع في مجال جاذبيته، بما في ذلك منتجات العمل الاجتماعي، ثم يلفظه شظايا. وهي، أي الطائفية، علم على عملية إنتاج التحاجز والتنافر الطائفيين في المجال السياسي، أي إنها علم على تشظي هذا المجال، وعلى واقع السديمية والاختلاط وامِّحاء الحدود، لدى كل طائفة، بين مجالات الحياة الاجتماعية: لا بين مجال الدين ومجال السياسة، كما سبقت الإشارة فحسب، بل بين مجال المجتمع المدني ومجال الدولة السياسية، وبين مجال الدولة ومجال سلطتها العامة، وبين مجالات السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وبين العرف والقانون، وبين العام والخاص، وبين الفكر والأيديولوجية وبين الثقافة والإعلام .. سديمية واختلاط يتجليان في تشظي الحقل السياسي الذي يفترض أنه حقل وطني عام ومشترك بين جميع المواطنين وجميع الفئات الاجتماعية، وفي تقاسم السلطة أو احتكارها، وتقاسم السيادة التي يفترض أنها سيادة الشعب، لا تنقسم ولا تتجزأ ولا تتغير ولا تفوَّض، أو احتكارها، وفي تناهش الحقل العام على كل صعيد، وفي مبدأ الغلبة والقهر واحتكار جميع مصادر السلطة ومصادر الثروة ومصادر القوة، كما هي الحال في سورية اليوم، أو محاولة احتكارها، كما هي في لبنان والعراق اليوم، على سبيل المثال. والأدهى من ذلك احتكار الوطنية واحتكار العروبة، واحتكار تعريف المصلحة الوطنية، واحتكار الدفاع عن الوطن، والاحتكار أصل الاستبداد. الطائفية والاستبداد صنوان، جذرهما المشترك هو الاحتكار ودمج جميع مجالات الحياة الاجتماعية في مجال واحد هو مجال السلطة أو الحكم.
من البديهي، نظرياً، أن الطوائف تنتمي إلى مجال العقائد الدينية، والأحزاب السياسية تنتمي إلى مجال "النظريات" الوضعية، ومن البديهي أن العصبية الطائفية، بالمعنى الخلدوني، نقيض العصبية الحزبية، وأن ثمة تناسباً عكسياً بين الأحزاب والطوائف، فكلما اتسع نفوذ الطوائف في الحقل السياسي خاصة تراجع نفوذ الأحزاب السياسية وتقلص. بيد أن الواقع العياني، في مجتمعاتنا، يبدي نوعاً من تداخل لافت للنظر بين الطوائف الدينية والأحزاب السياسية، بين ما هو تيولوجي وما يفترض أنه علماني. أحد أهم أسباب هذا التداخل، في رأي الكاتب، هو البنية الأيديولوجية لجميع الأحزاب التي ملأت الحقل السياسي منذ أكثر من نصف قرن حتى يومنا، هذه البنية جعلت من الأحزاب السياسية بنى موازية للبنى ما قبل الوطنية، ولا سيما البنى الطائفية، فغذت كل منهما الأخرى وتغذت منها. ولا يتضح أثر الطائفية في شيء أكثر مما يتضح في الأحزاب الأيديولوجية: لا في القاع المذهبي أو الطائفي القابع تحت الأيديولوجيات الثورية فحسب، بل في البنية الإبيستيمولوجية لهذه الأيديولوجيات ذاتها. ولعل دراسة موضوعية لأي من هذه الأيديولوجيات تبين أثر النظام المعرفي المذهبي أو الطائفي في تشكيلها وتحوير مقولاتها ومفاهيمها وقيمها. فكيف السبيل إلى الخروج من الثقوب السوداء؟
انقسام المجتمع عمودياً عشائر ومذاهب وطوائف وإثنيات حال، في الماضي، ولا يزال يحول، دون انقسامه أفقياً طبقات وفئات وجماعات مصالح أو جماعات ضغط، على الرغم من التقدم الحاصل والحداثة المحققة، في عدة ميادين، فلجم عملية تحديث المجتمع وتجديد بنيان الأمة. وحال، في الوقت ذاته، دون نشوء أحزاب وطنية تعبر عن طبقات أو فئات اجتماعية أو جماعات مهنية؛ فكانت البيئة المذهبية والطائفية والإثنية بيئة مناسبة لنشوء الأحزاب الأيديولوجية أو العقائدية، ذات الطابع الشمولي، ولا سيما تلك التي أنتجت ضرباً من تماهٍ بين العرق والمذهب، وأنجزت عملية تقلدة المفاهيم والأفكار والمبادئ والقيم الحديثة، كحزب البعث والحركة الناصرية؛ وحال، في النتيجة، دون نشوء رابطة وطنية جامعة، إذ لا وحدة بلا انقسام واختلاف وتعارض. وذلكم مظهر آخر من مظاهر إنتاج الطائفية في المجال السياسي الذي يفترض أنه مجال وطني عام.