حنه البتول ...
حنه البتول ...
تجلس حنه في أقصى ركن من أركان المقعد, و تلصق نفسها بحافته الخارجية و كأنها تلوذ به ,تفرد ظهرها بالوضعية التي ينصح بها أطباء العظام , و تضم كفيها و تضعهما بين ركبتيها , تشد الركبتين على الكفين خوفا من فرارهما, و تثبت رأسها في إتجاه واحد , تتحدث طويلا و كثيرا , علاقتها بأحادثها لا تكاد تتجاوز الشفتين , لا تشترك يداها و لا رأسها و لا حتى عيناها بما تقول , تحتفظ حنه بجلستها الباردة كأنها لاعب شطرنج مسمر الى لوحته و يفكر بنقلته التالية.
تظهر على وجه حنه خطوط الزمن بوضوح , الجبهه و الخدين ,و هي تتعامل مع هذا الأمر مثل كل الإناث , زارت أطباء التجميل , و خضعت لحقن بمادة الكولاجين ,و لكن لا يمكن أن تحس أن هذه السيدة جادة فيما تفعل , و كأنها تذهب الى الأطباء لتذهب فقط ,و لتقنع نفسها بأنها سيدة , تفعل كل ما تفعله السيدات , تظهر حماسا لعروض الأزياء , و يمكن لأي كان أن يكتشف تصنعها الحماس ,رغم حديثها المنفعل عن جمال فستان . تبدو حنه و كأنها إمرأة تبحث عن أنوثته.
زارت حنه الكثير من بلدان العالم , لديها صورا كثيرة تثبت ما تقول , لا تبدو مهتمة كثيرا بعرض صورها أمام زوارها , تسلم ألبوماتها الكثيرة الى من يرغب بالمشاهدة و تتركة يقلب صفحاته الكثيرة دون أي تعليق ,و لكنها تجيب بطيب خاطر عن أي أسفسار أو تعليق ,لديها قصة تحت الطلب عن كل صورة ,قصص عن برج أيفل و قوس النصر فرنسا, قصص عن الأقصر ووداي الملوك في مصر , و قصص أخرى في ملاهي لاس فيغاس و مدينة ديزني لاند لألعاب ,تحكي حنة بدقة و إحكام دون تعلثم و تروي الكثير من التفاصيل و الحيثيات الصغيرة التي صادفتها , و كل ذلك دون أن يرف لها جفن أو تظهر إشتيقاقا أو حنينا لمكان بعينه , كانت رواياتها ببرود تقارير الطقس و نشرات البورصة.
لا تعرف أن كانت حنة شخصا تقليديا رغم اسمها "الأنتيكا",لأن زياراتها الى لاس فيغاس و صورها أمام ألات اللعب , تمحي مثل هذه التصور , و لا تلبث صورها بثيابها ذات الألوان القاتمة و الأشكال الموحدة و قسمات وجهها المتجلدة أن تحرف الصورة مرة أخرى ,بين هاتين الصورين تظهر صورة أخرى لحنة المؤمنه المتمسكة بالدين تمسك الرهبان و القساوسة ,صليبها لا يفارق صدرها, و تذهب بإنتظام الى الكنيسة تستمع الى عظات الأحد بخشوع , و تظهر إحتراما مخلوطا بالتقديس للرعاة ,و أنقطعت بنفسها في دير لأكثر من عام , خرجت بعده أكثر نحولا و ذاب البريق من عينيها , لكنها كانت أكثر أيمانا.
يخيل لمن يرى حنه أنها باب خشبي , جامد جاف , يتحرك بطريقة واحدة , يظن بعضهم أنها كذلك لأنها لم تتنزوج حتى الآن , رغم تجاوزها الخمسين , تقدم لخبطها بعض الرجال ,كانت ترفض , لم يكن رفضها شديدا و قاطعا, هو أقرب الى رفض الحياء, و يبدو أن كل من تقدم لخطبتها كان ينتظر منها أشارة تمنع ليهرب ,لم تظهر حسرة على عدم زواجها , ربما كانت تعتقد أن روح القدس ستزورها يوما ما, و تمنح تبتلها الإجباري لمسة قدسية ,لم يظهر عليها لهفة الإنتظار , و لم يبدر منها إلا ذلك التمسك المصر بزاوية المقعد و نظرة هشة كلحاء الشجر .
كانت حنه تتحدث عن أحدى رحلاتها , و تصف الطائرة , و المسافة , و شكل المضيفة , و المطار , و الجمارك , و رجال الأمن , و الجبال , و الخضرة , و الكنائس ,و صوت النواقيس ,توقفت حنه قليلا لتمنح محدثها فرصةى لكي يزدرد ما تلقيه عليه , سألها وحدك ؟ أجابته بصوت تتبعثر منه نشارة الخشب : نعم وحدي..ليس لدي أحد,سألها ثانية أنك محظوظة ياحنه شاهدت العالم كله ,أجابت حنه بذات الصوت الذي ينثر نشارة الخشب : محظوظة..ربما..و لكني مستعدة أن ابدل كل ما شاهدته , "بأصابع رجل تمر على شعري" , ثم عاد الصمت الخشبي من جديد.
|