نقلا عن شبكة الدروز الثقافية عن جريدة الديار الناطقة بإسم مشيخة عقل الطائفة الدرزية في لبنان
للدكتور فارس ابي صعب (دكتور في جامعتي اليسوعية واللبنانية وصاحب دراسات وابحاث استراتيجية)
تواجه فرقة الموحدين الدروز في لبنان تحدياً مصيرياً في هذه المرحلة التاريخية التي يشهدها الوطن العربي والعالم الإسلامي عموماً, فعلى الرغم من شراسة الهجمة الأميركية وهمجيتها على العالم العربي والإسلامي بهدف تصفية القضية الفلسطينية وتطويع شعوب المنطقة ونهب ثرواتها الطبيعية وتحويل بلادها إلى مجرد أسواق مفتوحة أمامها وأمام أسرائيل , والتهديد بالقضاء عسكرياً على من لايزال واقفاً في وجه مشروعها الأمبراطوري وعلى الرغم من تداعيات هذه الهجمة ووضوح أهدافها وأدواتها على الساحة اللبنانية ,
نجد القيادة الرئيسية لفرقة الموحدين الدروز في لبنان تتحول إلى أداة رئيسية في هذه الهجمة ناسفة بذلك أسس وثوابت الدور الذي قام الدروز به تاريخياً وهي باتت تهدد بذلك بزعزعة الأركان الأساسية الذي كرسها الدروز في تاريخهم السياسي في المشرق العربي على مدى ألف عام أو نحوه .
والمواقف والخيارات التي يتخذها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط في الآونة الأخيرة تدفعنا إلى التوقف عند تلك الشخصية الملتبسة لوليد جنبلاط وعند تأثير دور تلك الشخصية في واقع الدروز السياسي في لبنان , وهما مسألتان يبدو من الصعب معالجة إحداهما دون الأخرى . فالشخصية الملتبسة لوليد جنبلاط لا يمكن فهما بمعزل عن الإرث السياسي للدروز والزعامة الجنبلاطية تحديداً منذ بدايات القرن التاسع عشر على الأقل كما أن المكون السياسي للدروز وبخاصة الجنبلاطيين منهم لا يمكن فهمه بمعزل عن الأدوار المتعاقبة التي قامت الزعامة الجنبلاطية بها خلال المرحلة التاريخية نفسها .
هناك مجموعة محطات تاريخية تمثل محور الذاكرة الشعبية لدى الجنبلاطيين الدروز ومخيالهم السياسي, أو قل "كربلائياتهم" وهي المحاور نفسها التي تمثل مجموعة العقد التاريخية التي تكسو المواقف وردود الفعل السياسية لدى وليد جنبلاط في كثير من الأحيان وهي التي تفسر إلى حد بعيد التقلبات الجذرية التي يحدثها وليد حنبلاط في مواقفه وفي مواقعه وتحالفاته السياسية بين ليلة وضحاها إنها صراع البشيرين في النصف الأول من القرن التاسع عشر, وحرب 1860, وثورة 1958, وحرب 1975, وإغتيال كمال جنبلاط عام 1977, وحرب الجبل عام 1982, وقد إستعار جنبلاط مؤخراً إضافة إليها "كربلائية" إغتيال الرئيس الأسبق رفيق الحريري .
غير
أن هذه المحطات ليست المحور الوحيد للسلوك السياسي سواء لدى جنبلاط أم لدى جماعته بل كثيراً ما يسعى جنبلاط لإستحضار هذه الكربلائيات لتغطية مواقف سياسية تعبر عن مصالح شخصية راهنة لديه يحتاج تحقيقها إلى عملية تهييج جماهيري في وتيرة محددة وعلى إيقاع كربلائية محددة من تلك المحطات التاريخية . فالصراع مع الموارنة مثلاً, يستحضر كربلائية بشير جنبلاط وحرب 1860, والصراع مع السوريين يستحضر كربلائية كمال جنبلاط, والصراع مع القوى والأقطاب السياسية الأخرى داخل الساحة الدرزية يستحضر كربلائية ثورة 1958...
وإذا كانت هذه المحطات التاريخية تؤسس لمخيال سياسي للدروز الجنبلاطيين تحديداً فأن هناك محطات تاريخية أخرى كان لها دور أكبر في تأسيس أهم مرتكزات المخيال السياسي والثقافة السياسية للدروز جميعاً : قصدنا الحروب الصليبية ودور التنوخيين في صدها ومقاومتها الأمر الذي منح الدروز يومها شرف لقب سيف الإسلام وحماة الثغور في وجه الغزاة الفرنجة, ثم مواجهة المجاهدين الدروز لغزوة نابليون وحصاره عكا وعامية عبيه 1799 التي أعلنت رفض الدروز للغزو الفرنسي , ثم الثورة العربية الكبرى, والثورة السورية التي كان سلطان باشا الأطرش أحد أبرز قادتها, والمقاومة العربية للمشروع الصهيوني في فلسطين, التي كان عادل أرسلان أبرز قادتها أيضاً...
عبر هذه المحطات جميعاً تكرس عبر قرون أحد ركني هوية الدروز الثقافية-السياسية بوصفها فرقة عربية إسلامية إحتلت موقعاً طليعياً عبر التاريخ في الدفاع عن عروبة هذه الأرض وفي صد غزوات القوى الإستعمارية وحماية العمق العربي من تلك الغزوات.
اما الركن الاخر تقوم عليه الهوية الثقافية، - السياسية للدروز فهو الركن القيمي – الاخلاقي الذي اتسم الدروز به تاريخياً، والذي كثيراً ما تغنى به كبار الشعراء العرب والكتاب والمؤرخين وحتى المستشرقين منهم، وهو القائم على قيم الكرم والرجولة وصدق اللسان والكرامة وعزة النفس ونبذ الخيانة وعدم الطعن في الظهر ... وهي قيم تعود بجذورها إلى المنظومة العقائدية لفرقة الموحدين الدروز المستمدة بدورها من بواطن النص القرآني ومن روافد بعض روافد الفلسفة اليونانية والشرقية .
هكذا إذاً، استمدت الثقافة السياسية للدروز سماتها من هذين المصدرين المصدر الحدثي التاريخي الذي تأسس على مجموعة " الكربلائيات" والمحطات التاريخية التي نسجت للدروز صورة في مخايلهم السياسي كانت مصدر افتخار واعتزاز بأنفسهم بوصفهم يف العروبة والاسلام ورأس حربة في وجه قوى الاحتلال والاستعمار، والمصدر العقيدي – المسلكي الذي تأسس على مجموعة الروافد العقيدية والفكرية والصوفية التي قامت عليها فرقة التوحيد الدرزية والتي نسجت للدروز صورة عن انفسهم، لديهم ولدى الآخرين ، بوصفهم اصحاب الشرف والشهامة والكرم والكرامة والشجاعة والامانة ...
غير ان هذين الركنين أخذ حضورهما يشتد أو يضعف في الثقافة السياسية الدرزية وفق المواصفات السياسية والمسلكية للزعامة السياسية السائدة، وبخاصة وسط مجتمع ورائي يعتلي الشخص فيه عرش الزعامة ليس على أساس صفاته وقدراته الشخصية بل على أساس نسبة إلى عائلة الزعامة، الأمر الذي يقيه محاسبة الجماعة أو يجعله مصدر تماه لها فتجعله مؤثراً فيها ومقلداً من قبلها أكثر منه متأثراً بها معبراً عن واقعها وعاكساً صورتها أو مصالحها.
ماذا تبقى للدروز من هذين الركنين في ظل زعامة وليد جنبلاط؟
لم يكن ممكناً لوليد جنبلاط أن يتبنى كل هذه الخيارات التي يتبناها اليوم، سواء على المستوى السياسي أم على المستوى المسلكي، لو لم يعمل على مدى أكثر من ربع قرن من موقعه الزعامي، على تدمير هذين الركنين اللذين تقوم الهوية الثقافية – السياسية للدروز عليهما.
والتغيرات الجذرية التي شهدناها في مواقف جنبلاط في الفترة الأخيرة ليست جديدة، بل هو أخذ يهيئ لها الأرض منذ الغزو الاسرائيلي للبنان عام 1982 على الاقل. وبالفعل، اعتمد جنبلاط منذ ذلك الحين استراتيجية مد الخطوط في كل الاتجاهات (الاقليمية والدولية)، مقابل الحفاظ على خطاب علني "عروبي" يتناغم مع التحالفات المفروضة على الأرض، وخطاب استتاري يترك الابواب مفتوحة على كل الخيارات، منطلقاً في ذلك من ذرائع مصلحية ضيقة ترى أن الدروز اقلية لا سند لها، وبالتالي عليها أن تحافظ على نفسها كيفما مالت الكفة في موازين القوى الاقليمية والدولية.
سنحاول في هذا النص تحليل الواقع الدرزي في ظل زعامة جنبلاط على مستويين: مستوى المكون الشخصي لوليد جنبلاط وانعكاسه على الواقع السياسي الدرزي، ومستوى الثقافة السياسية في الوسط الدرزي الجنبلاطي وتأثيرها في واقع الدروز السياسي، وهو أمر مع الاسف قلما يجري القاء الضوء عليه حين تجري دراسة ظاهرة سياسية محددة، في الوقت الذي تركز كل التحليلات والادبيات السياسية عادة على الواقع السياسي كما يبدو من "وفق".
مثل المحك السياسي الاهم لوليد جنبلاط في ظل زعامته السياسية التي بدأت عام 1977 الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 وما تلاه من حروب داخلية اتخذت عدة اوجه وابعاد.
فالمرحلة التي امتدت من عام 1977، تاريخ الباس وليد جنبلاط عباءة الزعامة، إلى عام 1982 تاريخ الاجتياح، لم تحمل الكثير من الاحداث السيساية التي كانت تتطلب من جنبلاط اتخاذ قرارات كبرى أو أن يكون مشاركاً فاعلاً في اللعبة السياسية، على الرغم مما حملته تلك الفترة من بعض المؤشرات التفصيلية التي أخذت توضح بعض ملامح شخصيته السياسية والمسلكية، كتقليص هامش الديمقراطية داخل الحزب التقدمي الاشتراكي وتعزيز العلاقات الزبونية داخل الحزب، والتخلص رويداً رويداً من نهج كمال جنبلاط واخلاقياته السائدة فيه.
[size=5]
وجاء الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 وبدأت تتضح معه أكثر فأكثر المكونات الشخصية والخيارات السياسية لوليد جنبلاط. وهذا أمر يتطلب توضيحه الاستشهاد ببعض المحطات التاريخية:
منذ اليوم الأول لذلك الاجتياح عمت اجواء الاستنفارات العسكرية في اوساط شبان ومقاتلي الحزب التقدمي الاشتراكي والاحزاب الوطنية الاخرى في مناطق نفوذ وليد جنبلاط كما في معظم المناطق اللبنانية التي شملها الغزو الاسرائيلي. وحدث المنعطف الاول في الهوية السياسية للدروز الجنبلاطيين عقب تعميم قرار حزبي من رئيس الحزب على معظم القرى والمناطق التي يوجد فيها مقاتلون للحزب التقدمي الاشتراكي بعدم التصدي للاجتياح الاسرائيلي، على الرغم من استعداد وحماسة الكثيرين منهم يومها لمواجهة القوات الاسرائيلية، وهكذا انكفأ الجنبلاطيون عن مواجهة الاجتياح، في حين راح مقاتلون من الاحزاب الوطنية الاخرى ينظمون انفسهم بمجموعات ويواجهون جحافل الغزو إلى جانب بعض مقاتلي المقاومة الفلسطينية، ولو مواجهة رمزية في كثير من الاحيان.
وعلى الرغم من تدفق التبريرات حينها القائلة أن وليد جنبلاط يريد تجنيب القرى الدرزية عمليات تدمير واسعة يمكن أن تقوم اسرائيل بها، فإن الايام والشهور التي تلت الاجتياح أظهرت أن السياسة التي ينتهجها الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط هي، على الاقل، سياسة غير معادية لاسرائيل، وقد جرت ترجمتها، في أثناء حرب الجبل – التي بادر اليها واتخذ قرارها بعض الرموز التقدمية الاشتراكية والوطنية الميدانية وليس وليد جنبلاط نفسه – بعمليات تنسيق أمني بين بعض مسؤولي الحزب التقدمي الاشتراكي وجيش "الدفاع" الاسرائيلي إلى حد أن عددا من المسؤولين الحزبيين باتوا يعرفون عن انفسهم على الحواجز الاسرائيلية بواسطة بطاقات تعريف اسرائيلية كانوا يحملونها، اضافة إلى بعض المجموعات التي نظمت برعاية الحزب التقدمي الاشتراكي وكان هدفها ملاحقة "المخربين" (أي المقاومون) وتسليمهم للاسرائيليين. حتى إن حالة "اللاعداء" هذه كان يجري التعبير عنها بمظاهر اوضح، كتنقل بعض مقاتلي الحزب التقدمي الاشتراكي بين جبهات القتال في منطقة عاليه وبين قراهم وبلداتهم في منطقة حاصبيا عبر حواجز جيش لبنان الجنوبي وهم يرتدون بزاتهم العسكرية التابعة للحزب التقدمي الاشتراكي، دع عنك الزيارات التي كان يقوم بها بعض مسؤولي الحزب التقدمي الاشتراكي أو بعض الشخصيات الدرزية لاسرائيل بتكليف من وليد جنبلاط أحيانا. مع العلم أن هذه الزيارات عادت لتتجدد على ما يبدو منذ عام 2005 من قبل بعض الرموز الجنبلاطية الأخرى.
كل هذه الممارسات ساهمت في خلق جو في وسط الجنبلاطيين الدروز غير معاد لاسرائيل وغير معني بالاحتلال الاسرائيل بل متكيف معه، الامر الذي اسقط رويدا رويدا مقولة اسرائيل العدو من مكونات الثقافة السياسية لدى هذه الجماعة.
وفي هذا السياق توج هذه التوجه غير المعادي لاسرائيل في صفوف بعض المسؤولين الجنبلاطيين بالعمل على ملاحقة التيار المعادي لاسرائيل في صفوف بعض المسؤولين الجنبلاطيين بالعمل على ملاحقة التيار المعادي لاسرائيل داخل الحزب التقدمي الاشتراكي أو خارجه، حتى أن بعض رموز هذا التيار جرت تصفيته جسديا.
على صعيد آخر، ساهم وليد جنبلاط على مدى أكثر من ربع قرن في وجوده على عرش الزعامة، في اضعاف أو تهميش نظام القيم الاخلاقية وسط الدروز الجنبلاطيين. وقد كانت سنوات الحرب لها وسائلها في ذلك وسنوات ما بعد الحرب وسائلها الأخرى.
ففي سنوات الحرب نشأت في اوساط الحزبيين، وتحديداً وسط القيادات الوسطى، طبقة من اغنياء الحرب الذين اباحوا لانفسهم شتى ضروب النهب والفساد والتعدي على املاك الغير.
ولم تكن عملية تعميم ثقافة الفساد أقل وضوحا في سياسة جنبلاط في مرحلة ما بعد الحرب. فجنبلاط كان واحدا من رموز الحرب الذين عادوا إلى السلطة بعد اتفاق الطائف،
فتسلم في تلك الفترة عدة وزارات شهدت جميعها في عهده عمليات فساد وهدر وتلاعب بالمال العام، ولاسباب سياسية تتعلق بـ "المصالحة الوطنية"، كما قيل، تسنى لجنبلاط أن يتسلم وزارة شؤون المهجرين أو أن يشرف عليها. فكانت تجربته في تلك الوزارة نموذجاً "مثاليا" لعمليات التزوير المنظم ونهب المال العام وتعميم ثقافة الفساد في اوساط الكثير من الفئات الشعبية، وبخاصة وسط الدروز الجنبلاطيين. كما استخدمت اموال وزارة المهجرين منذ منتصف التسعينات رشى لشراء اصوات الناخبين في الانتخابات النيابية والبلدية. وعمليا مثل المسؤولون الحزبيون الجنبلاطيون في القرى والمناطق دور الوسطاء بين المواطنين ووزارة شؤون المهجرين. وعبرهم جرى تعميم كل وسائل التزوير والعمولة وسرقة المال العام، بل جرى تعميم استخدام هذه الوسائل لشراء الضمائر ولتدمير نظم القيم لدى المواطنين، فغابت معايير الحلال والحرام لديهم على الرغم من قوة حضورها في نظام القيم وفي الثقافة الشعبية لدى المواطنين الدروز تاريخيا.
هذا التحول على المستويين السياسي والمسلكي داخل الحزب التقدمي الاشتراكي منذ بدايات الثمانينات أسس لنزعة يمينية وإفسادية في الثقافة السياسية الجنبلاطية، بدءا من المستوى الجماهيري وصولا إلى رأس القمة، مع العلم أن جنبلاط نفسه هو الذي كان يدفع في هذا الاتجاه.
ولم تكن مصادفة أن تلك الطبقة من "أغنياء الحرب" والشبيحة التي نشأت داخل الحزب هي نفسها الفئة غير المعادية لاسرائيل، وهي نفسها الفئة التي كان وليد جنبلاط يرعاها ويقف في صفها كلما حدث خلاف داخل الحزب بينها وبين الفئات المعترضة على نهجها السياسي والمسلكي. إلى أن امسكت هذه الطبقة عملياً، وبإدارة جنبلاط، بكل مفاصل العمل الحزبي والعسكري والجماهيري، بدءا من مسؤولي القرى وصولا إلى مجلس قيادة الحزب.
وقد اخذ المنهج اليميني والفاسد يظهر واضحا منذ منتصف الثمانينات، حين راح الموقع الطبقي للحزب التقدمي الاشتراكي يتبدل، وأخذ مسؤولوه يتدخلون لقمع التحركات العمالية المطلبيية في العديد من المصانع والمؤسسات القائمة في مناطق سيطرتهم، مقابل حفنة من الاموال كانوا يرتشون بها من قبل ارباب العمل. وخلال حكومات الرئيس الحريري المتعاقبة، كثيرا ما دفع الحزب التقدمي الاشتراكي الجنبلاطيين الدروز إلى اتخاذ مناهضة للحركة النقابية والمطلبية، حتى أن مسؤولي الحزب في مناطق الشوف وعاليه وبعبدا على الاقل، كانوا حين تكون هناك دعوة إلى الاضراب العام من قبل الاتحاد العمالي، يجولون على اصحاب المحال التجارية والمؤسسات في تلك المناطق طالبين منهم عدم التقيد بالاضراب. فما بالك بالمواقف التي كان وليد جنبلاط وكتلته النيابية يتخذونها حيال السياسة الاقتصادية والمالية خلال تلك الفترة، على الرغم، وهنا تكمن المفارقة الكبرى، من أن تلك السياسات اليمينية التي ينتهجها وليد جنبلاط وحزبه، متسلحين بالقواعد "الشعبية" للدروز الجنبلاطيين، هي سياسات مناقضة تماما للمصالح الفعلية لتلك القواعد الشعبية البائسة، التي تأسس الحزب التقدمي الاشتراكي من اجلها اصلا، فضلا عن أنها ساهمت في افقار وتجويع هذه القواعد.
كيف يمكن تفسير هذه الدوافع لدى وليد جنبلاط؟
أن وليد جنبلاط لم ينشأ يسارية اساساً، وهو لم يكن على علاقة منسجة سياسيا بكمال جنبلاط، على الرغم من كل الادعاءات التحريضية المضللة التي يمارسها اليوم عبر اثارة موضوع قتل هذا القائد العربي، لأن وليد جنبلاط في الواقع ليس حريصا على مبادئ واخلاقيات كمال جنبلاط ولا على ثوابته السياسية والطبقية، فوليد جنبلاط هو من حيث مكوناته الشخصية امتداد لبشير جنبلاط، الاقطاعي، المستبد، البراغماتي، غير المتمسك بالثوابت، محب المال والسلطة، الذي لا يجيد احترام جماعته، الطامح إلى الاستفراد بالزعامة حتى ولو عبر القضاء على كل منافسيه، اضف إلى ذلك دفاع وليد جنبلاط عن مصالح الطبقة الرأسمالية الاحتكارية الذي هو احد رموزها، مقابل كمال جنبلاط عن مصالح الطبقة الرأسمالية الاحتكارية الذي هو أحد رموزها، مقابل كمال جنبلاط، المبدئي، الاخلاقي، الاشتراكي، المتواضع، الذي يجيد احترام الاخرين، الزاهد، المتعالي على المال والثروة، المدافع عن مصالح العمال والفلاحين والفقراء، الذي إذا رفع شعاراً عمل على تطبيقه على نفسه قبل أن يطلب من الاخرين تطبيقه.. والمفارقة الكبرى بين الرجلين هي أن كمالا انطلق في حياته السياسية من موقع تقليدي اقطاعي يميني صديق للاستعمار، حاولت الست نظيرة (والدته) أن تزجه فيه، غير أنه انقلب على ذلك الموقع وانتهى قائدا وطنيا وعربيا، يساريا، معاديا للاستعمار، ساعيا لتغيير النظام السياسي والطبقة الحاكمة في لبنان. أما وليد فهو على العكس تماما، انطلق في حياته السياسية من موقع وطني تقدمي، قائدا للحركة الوطنية، و "انتهى" زعيما طائفيا يمينيا لبنانويا، جبليا، صديقا للاستعمار، بل اداة في يده.
وبالفعل سعى جنبلاط في السنوات الاخيرة للتخلص من عبء كمال جنبلاط ذي التوجهات النقيضة لتوجاته التي لا يزال بعض المحازبين المضللين يرددونها، فاجرى انقلابا منظما على المفاهيم تمهيدا لاجراء القطيعة مع كل الخط السياسي الفعلي الذي كان كمال جنبلاط يمثله. وقد سعى، بواسطة بعض الكتب والافلام الوثائقية التي اعدت مؤخرا، لتقديم صورة مغايرة عن كمال جنبلاط تتواقف مع تطلعات وليد جنبلاط نفسه، من خلال اعادة ابراز بعض الافكار والمواقف الليبرالية اللبنانية التي كان كمال جنبلاط يعبر عنها في بداية حياته السياسية في منتصف الاربعينات وقبل أن يؤسس الحزب التقدمي الاشتراكي، أو من خلال تشويه أهداف كمال جنبلاط في تجربة الحركة الوطنية اللبنانية ومواقفه تجاه القضية الفلسطينية.
وكثيراً ما عبرت مواقف وليد جنبلاط وسلوكه عن نزعة لديه إلى تقمص شخصية بشير جنبلاط، فسنوات طاحنة من الحرب بعد عام 1982 راح ضحيتها آلاف الشبان والمواطنين ودمرت مئات القرى وكانت لها اثارها الاقليمية والدولية، واندحرت بنتيجتها قوات الحلف الاطلسي عن بيروت، وسقط اتفاق 17 أيار الموقع بين لبنان واسرائيل، وهزم المشروع الفاشي اللبناني – ولو مؤقتاً – لم ير وليد فيها الاقضية واحدة حاول اختصارها بكلمات معدودة: ها قد عدنا يا بشير، تلك كانت الصيحة الأولى التي اطلقها في قصر المير بشير في بيت الدين حين احتفل بانتصاره في حرب الجبل معلنا انتزاع القصر من المير بشير الشهابي ثأراً لبشير جنبلاط. ولم تتوقف نزعة الثأر لديه يومها عند هذا الحد، بل راح يبحث عن سبل استعادة تلك الاراضي التي انتزعها بشير الشهابي من بشير جنبلاط، فامتدت انظاره إلى سهل البقاع، مستملكا العديد من العقارات في البقاع الغربي باحثاً عن طريق تصله بوادي التيم، املا، ربما، في تحقيق حلم طالما سعى بشير جنبلاط لتحقيقه وليرى نفسه على رأس امارة تضم دروز المشرق العربي جميعاً. وكثيراً ما يستغل جنبلاط عقدة الثأر لديه عبر مكيافيلليته المعروفة لتغطية نزوات ومصالح شخصية، وبالفعل، تجري ترجمة المشهد السياسي ذي الوجهين الانتقامي – الانتفاعي بوجه واحد في الثقافة السياسية والتعبئة الشعبية وسط جماعة الدروز والجنبلاطيين، وهو الوجه الانتقامي – التضليلي في حقيقته – الذي ستمد جنبلاط قوته الشعبية منه.
وتتسع دائرة الصفات البشيرية التي تقمصها وليد إلى غير ذلك، فالنزعة إلى الملك وتوريث الملك وسمت الرجلين، فالشيخ بشير سعى طويلا لجمع ثروة واستملاك اراض ولو عن طريق المصادرة، حتى لو تطلب ذلك قتل أبناء عمه للسيطرة على بيوتهم في المختارة ولكي يحصر الزعامة في بيته تخلص من أي شخصية كان يمكن أن تنافسه على ذلك، وها هو ولود جنبلاط مذ تسلم عرش الزعامة مارس النزعة نفسها. وأول هدف للمصادرة لديه كان الحزب التقدمي الاشتراكي نفسه، فصادر الحزب، والغاه كمؤسسة، وأصبحت كل ممتلكات الحزب جزءا من املاكه الشخصية، حتى أن العناصر البشرية في الحزب يتعاطى جنبلاط معها تعاطيا قطعانياً، وكأنهما جزء من ممتلكاته، فلا رأي لها أو قرار، بل عليها الانقياد الاعمى بلا اعتراض في الاتجاهات التي يقررها هو يمينا أو يسارا. وقد اتسعت المصادرة لديه لكي تشمل منطقة الشوف ككل، إذ غالباً ما حاول جنبلاط في الثمانينات والتسعينات مصادرة 51 في المئة من اسهم أي مؤسسة انتاجية أو مشروع استثماري كان ينوي أحد المستثمرين القيام به في منطقة الشوف، الأمر الذي ساهم في حرمان هذه المنطقة وابنائها من مشاريع التنمية وبالتالي من فرص العمل. وها هي المناطق الواقعة تحت نفوذ جنبلاط اليوم ربما تكون من افقر المناطق اللبنانية لناحية وجود فرص عمل أو مؤسسات انتاجية.
وعلى مستوى الاحتكار الزعامي يمارس جنبلاط الاسلوب نفسه، فهو عمليا يمنع ظهور أي شخصية سياسية يمكن أن يكون لديها طموح سياسي، وهو عبر غير مرة عن ذلك لبعض الاشخاص الطموحين، الذين كان يراهم يشيدون بيوتا تلبي طموحاتهم السياسية أو يرممون ما ورثوه عن آبائهم من بيوت كان لها تاريخها: "أن الشوف لا يتسع لقصرين". وهذا ما يسعى جنبلاط إليه اليوم من خلال قطع الطريق على أي رأي مغاير، عبر حصر التمثيل البرلماني للدروز بجماعته ثم عبر الامساك بمشيخة العقل وبالأوقاف الدرزية.
وجنبلاط لا يخفي توجهه إلى توريث الزعامة من بعده إلى ابنه تيمور، الذي بدأ منذ سنوات يتولى عنه بعض مهمات العلاقة بالرعية، كالقيام بواجبات التهاني والتعازي، وهو طالما سعى لانتزاع شرعية اقليمية لهذا التوريث أيضاً. وهذا ما حدث في لقاء جمعه بحليفه نائب الرئيس السوري انذاك عبد الحليم خدام منذ أكثر من ثلاث سنوات في قصر المختارة، حيث انتزع جنبلاط من خدام أمام كاميرات التلفزة توقيعه صورة تضم جنبلاط وابنه تيمور.
كيف تحدث عملية التحول التي يشهدها ركنا الثقافة السياسية لدى الدروز الجنبلاطيين؟
تجري اعادة انتاج الثقافة السياسية لدى الدروز الجنبلاطيين في شق منها عبر مجموعة مكونات وعلى نحو شبيه لما يجري على مستوى اعادة انتاج الثقافة السياسية لدى الجماعات والطوائف الأخرى في لبنان، على الرغم من احتمال اختلاف أهمية كل مكون بين جماعة وأخرى. لكن إلى جانب المكونات العامة التي تساهم في اعادة انتاج الثقافة السياسية لدى مختلف الشعوب، المتمثلة بالصحافة وبوسائل الاعلام المرئية تحديدا، تبدو هناك مجموعة مكونات تحمل سمات خاصة لدى كل شعب أو فئة اجتماعية أو سياسية.
أما ابرز المكونات التي تعيد انتاج الثقافة السياسية لدى الدروز الجنبلاطيين فهي:
الذاكرة التاريخية التي ترسم صورة للاحداث مرسومة من منظار محدد تشترك جماعة الدروز الجنبلاطيين في النظر إلى الامور من خلاله، وهكذا يرتدي كل حدث تاريخي لدى هذه الجماعة ثوبا يمثل حقيقة هذا الحدث كما يرونها هم. وهكذا أيضاً تصبح لهم حقيقتهم الخاصة بهم حول الاحداث المتعلقة بتاريخهم. وهذه الحقيقة التي تتمحور الذاكرة الشعبية حولها، غالبا ما يساهم في تكوينها عناصر خرافية وقدرية مستمدة من البنية الثقافية الدينية لدى هذه الجماعة، التي تمثل الخرافة القدرية بعض مكوناتها، وهكذا يعاد انتاج الاحداث التاريخية في الذاكرة الشعبية هذه على قاعدة أن هؤلاء الجماعة هم الذين كانوا دائما على حق وأن الاخرين هم الذين كانوا على خطأ. وهكذا، تتنزه صورة الزعيم في هذه الذاكرة عن اي خطيئة، ويبرر لها ما لا يبرر لغيرها. وفي ضوء هذه الذاكرة المركبة يجري تفسير الاحداث من قبل الجماعة، ويجري بالتالي تبرير سلوك الزعيم ومواقفه المحجوبة بهالة من الترفع والتنزه يغيب عنها العقل.
ويحاول جنبلاط استخدام هذا المكون في حركته السياسية، وبخاصة في اللحظات الحرجة، كمرحلة التحضير للانتخابات، أو حين يمر بمأزق سياسي ما أو حين يريد أن يحدث تحولا براغمانيا في مواقفه المعلنة، وهي محطات ثلاث مر جنبلاط بها في الفترة الاختيرة. فلكي يغطي جنبلاط مأزقه لكونه أحد أركان النظام السياسي في لبنان، سواء اكان في السلطة أم كان في المعارضة، يلجأ إلى تضليل الرأي العام والهائه عن طبيعة المأزق الفعلي الذي تمر البلاد به المتمثل بشبه انهيار اقتصادي، وبكتلة دين عام لا يمكن الخروج من اعبائها، وبتفشي الفقر والبطالة إلى حدود لم يعرفها لبنان منذ الحرب العالمية الثانية، في الوقت الذي كان جنبلاط يتبنى منذ بداية التسعينات تقريبا معظم السياسات الاقتصادية التي اوصلت لبنان إلى ما وصل إليه وكان شريكا فعليا في عمليات "الهدر" المنظم للمال العام وحين كان يسأل عن موقفه من السياسة الاقتصادية التي اودت بالبلاد إلى ما اودت إليه كان يقول ببساطة: "اسألوا غيري أنا ما بعرف بالاقتصاد!!!". ولكي يغطي على كل هذا المأزق يلجأ اليوم إلى مكون الذاكرة الشعبية لكي يثير لدى جماعته حالة اهتياج تعبوي مستخدما "كربلائية" اغتيال كمال جنبلاط في ذلك.
المكون الاخر لاعادة انتاج الثقافة السياسية هو عملية التماهي بالزعيم والعمل على تقليده والسعي لتبني مفاهيمه والسلوك وفق مسلكه. وبالفعل ساهمت عملية التماهي هذه في تبرير وتعميم الفساد ثقافة ومسلكا في وسط الدروز الجنبلاطيين الذين يتماهون في ذلك، سواء بمواقف وليد جنبلاط تجاه الكثير من الملفات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية والسياسية في البلاد أم بمسلكه الذي اعتمد شتى وسائل الفساد والزبونية في موقعه الوسيط بين المواطن الدرزي والدولة وفي التباهي بنفسه بوصفه حوتا ماليا. هكذا نجد الكثير من الدروز الجنبلاطيين مثلا يرددون مواقف يتخذها جنبلاط أو مسلكا يمارسه بطريقة ببغائية ومن دون أي تفكير في الامر حتى لو كانت هذه المواقف، أو هذا السلوك، لا تعبر اطلاقا عن المصالح الفعلية لهؤلاء معيشيا أو سياسيا، أو كانت لا تعكس أحياناً اخلاقيات هؤلاء أيضاً.
المكون الثالث هو التناقل الشفهي لمواقف وليد جنبلاط، مع ما يرافق هذا التناقل من عمليات حشو ومبالغة، أو حتى تخيلات خرافية، تضفي على مواقف جنبلاط ومسلكه هالة من "السوبرمانية" والقدرة على قراءة ابعاد الامور وربما خفاياها، في ظل نظرة دونية إلى الذات الجماعية لدى الجنبلاطيين يجري التعبير عنها بمجموعة مقولات استسلامية: "نحن شو بيفهمنا بالسياسة، هو ادرى"، "هو يعرف ماذا يفعل"، "هو يرى اشياء نحن لا نراها"، "هو لديه نفس قوي، بيشم لبعيد" أو "لديه انتين قوي" يستطيع أن يقرأ الماجريات المقبلة للاحداث. وعبر هذه النظرة "السوبرمانية" الانبهارية إلى البيك تسري مقولات ومواقف يذكرها البيك خلال لقاء أحد المسؤولين الحزبيين به أو خلال استقباله أحد الوفود الشعبية. ويتحول الموقف إلى شائعة تنتشر في مختلف اوساط الجماعة الجنبلاطية بغض النظر عن مدى دقتها أو حتى صحتها، إذ مع انتقال الموقف عبر الوسيط، الذي غالبا ما يكون مسؤولا حزبيا، أو نائبا من كتلته، أو وفدا شعبيا، يجري تحميل الموقف أحيانا فسحة من مواقف الوسيط أو تمنياته الشخصية.
وهكذا تنسج منظومة تصورات شعبية لمقولات البيك تؤسس للموقف السياسي الشعبي وللثقافة السياسية واتجاهات الرأي العام لدى الدروز الجنبلاطيين، وهي مواقف واتجاهات تتخذ منحى خطيرا في بعض الاحيان، كما حدث في منتصف ثمانينات القرن الماضي أو كما يحدث اليوم. وقتذاك انتشرت مقولة الدولة الدرزية التي يريد وليد جنبلاط تأسيسها بغض النظر عن مدى جدية جنبلاط في تبني هذا المشروع، لكن على الاقل يمكن القول بمسؤولية أن بعض مسؤولي الحزب التقدمي الاشتراكي كانوا يسوقون لهذا المشروع الذي دخل فعلا في نسيج الثقافة السياسية للدروز الجنبلاطيين آنذاك. حتى أن بعض النصوص والدراسات وزعت بالفعل في منطقة الشوف آنذاك وهي تنظر لمشروع الدولة الدرزية اقتصاديا وسياسيا وتاريخيا. وما لبث هذا الامر أن تحول يومها إلى موضوع خلاف بين اتجاهات مختلفة داخل الحزب التقدمي الاشتراكي، ثم ما لبث الخيار الاسرائيلي أن تقهقر في لبنان، قاطعا هذا التقهقر الطريق على كل تلك الاحلام والاوهام.
والمفارقة بين الامس واليوم هي أن هذا النوع من المشاريع يجري ارتفاع وتيرة الحديث فيه في اوساط الدروز الجنبلاطيين كلما هبت رياح اميركا واسرائيل على لبنان والمنطقة، فوقتذاك كانت الرياح جنوبية، واليوم هي الرياح شمالية تهب من قلب النظام الامبريالي.. وها هي المواقف والتوجهات التي يجري تسريبها وتعميمها في الثقافة السياسية للدروز الجنبلاطيين عبر التناقل الشفهي لمواقف وليد جنبلاط، أو عبر شاشات التلفزة في الفترة الأخيرة، لا تقل خطورة عن تلك التي سادت منتصف الثمانينات الماضية. فبما أن وليد جنبلاط "لديه نفس قوي" وهو يشم إلى مسافة بعيدة، فهو يدرك "أن الكفة تميل، وهو يميل معها"، وهذا كلام يمثل قمة التعبير عن الثقافة السياسية الانتهازية وغير المبدئية، وبالتالي عن الحائط المسدود، الذي اوصل وليد جنبلاط جماعته إليه. حتى أن الكثيرين من هؤلاء الدروز الجنبلاطيين لا يخفون رغبتهم في قيام اميركا، أو حتى اسرائيل، بتوجيه ضربة عسكرية ضد سوريا أو ضد حزب الله، تغير موازين القوى في لبنان والمنطقة لمصلحتهم. وهذا بالفعل ما راهن وليد جنبلاط عليه – أي عدوان اسرائيلي أو أميركي يسقط النظام السوري ويركب نظاما سياسيا بديلا في دمشق مواليا لاميركا ويسير مع الخيار التطبيعي في المنطقة – فيظهر وليد جنبلاط فيه منتصرا، كما ظهر أحمد الجلبي في بغداد عقب الغزو الاميركي للعراق، مع العلم أن ذاك "الهيرو" الورقي ما لبث أن تفتت على ايدي المقاومين والوطنيين في العراق.
أين أصبحت التوجهات السياسية والاجتماعية والاخلاقية لدى الدروز الجنبلاطيين في ظل زعامة وليد جنبلاط اليوم؟
لقد نجح وليد جنبلاط فعلا في تطويع معظم الدروز الجنبلاطيين وفي سوقهم في الاتجاه الذي تقتضيه مصالحه الشخصية وتحالفاته الطبقية بوصفه أحد ابرز افراد الطبقة الرأسمالية الاحتكارية و "حيتان المال" في هذا البلد (على حد تعبيره هو)، محدثا بذلك انقلابا مفاهيميا وسياسيا وطبقيا ومسلكيا شاملا على النهج العروبي اليساري التحرري والاخلاقي الذي سعى كمال جنبلاط لتكريسه في اوساط قاعدته الشعبية والحزبية. وبالفعل باتت سوريا، وليس اسرائيل، هي العدو الاقليمي، كما بات الشيعي هو العدو المحلي، في نظر الدروز الجنبلاطيين، الذين عادوا يقلبون صفحات التاريخ بحثا عن "كربلائية" ما تفسر عدائيتهم للشيعة. ونظراً إلى انتفاء هذا النوع من الكربلائيات واقعيا فهم يوظفون المشاهد الخيالية احيانا، ويلجأون إلى تضخيم الخطر العددي للشيعة احيانا أخرى، لتبرير خطورة حزب الله عليهم.
واللافت للنظر فعلا أن هذا الانقلاب الذي احدثه جنبلاط لا يواجه أي اعتراض يذكر، سواء في اوساط "جمهور" الدروز الجنبلاطيين أم في صفوف الحزبيين أم حتى في أوساط "المثقفين" الدروز الذين يفترض أن يكونوا أكثر وعيا لما يجري غير أن هذا الوضع له أسبابه طبعا. فوليد جنبلاط استطاع خلال فترة زعامته، تصفية أي حالة اعتراضية أو اختلافية داخل الحزب التقدمي الاشتراكي. وهكذا لم يبق وليد جنبلاط في صفوف الحزب التقدمي الاشتراكي إلا ثلاثة أنواع من الرعايا: فئة "البلاطيين" الانتهازيين الذين يجدون في تقربهم من وليد جنبلاط فرصة لاظهار الذات أو للوصول إلى النفوذ والثروة، وهم بطبيعتهم ذوو ميول يمينية، مع العلم أن وليد جنبلاط يعرف هذه الحقيقة، لأنه هو ساهم في صنعها، ثم فئة "الموظفين المطيعين" الذين لم يعتادوا أن يقولوا "لا"، بل أن طاعة الاوامر والتقيد بمواقف البيك تمثل قمة طموحهم واخلاصهم، ثم فئة المتحمسين العصبويين الذين غالبا ما يطغى الفقر والجهل عليهم وهو يسهل على جنبلاط تضليلهم وتهييجهم غريزيا. أما الدروز الجنبلاطيون غير الحزبيين، بمن فيهم "المثقفون"، المدجنون في معظمهم، فيستطيع جنبلاط أن يبتزهم في لقمة عيشهم. فإن كنت درزيا فمن الصعب أن تصبح يوما مديرا عاما أو استاذاً في الجامعة اللبنانية على الرغم من كل المؤهلات العلمية والمهنية التي تحملها، أو تصبح ضابطا في الجيش أو حتى جنديا أول أو موظفا عاديا، أو أن ترشح نفسك لدورة قضاة مثلا، إلا إذا كنت جنبلاطيا مطيعا ومرضيا عنك من البيك، أو كنت بارعا في الوصول، ولديك الاقنية التي تفتح أمامك الأبواب إلى بلاطه.
[size=5]
أما الديمقراطية التي تهب رياحها على وليد جنبلاط هذه الايام فحدث عنها ولا حرج، وقد تذوقناها فعلا في سنوات الحرب كما تتذوقها الآن في سنوات السلم. فكان يكفي مجموعة مقاتلين في صفوف حزبه خلال سنوات الحرب أن يعترضوا على تدمير بيوت المسيحيين في بعض قرى الجبل وعلى مشروع الفرز الطائفي والدولة الدرزية حتى يساقوا إلى بيت الدين ويشبعوا ضربا وحشيا، ويكفيك أن تتجرأ بعد الحرب وترشح نفسك للانتخابات النيابية في منطقته وفي وجه لائحته حتى يقضى على مستقبلك المهني وتطرد من عملك وتصبح منبوذا في المجتمع الجنبلاطي، كما حدث مع الدكتور مروان أبو شقرا مدير مستشفى عين وزين سابقا، أو يكفيك أن تكتب مقالة في صحيفة تنتقد فيها الزيارات المتكررة للسفير الاميركي لبلدة الرميلة مثلا، كما فعل الكاتب المرحوم حاتم سلمان، حتى ينزل عليك غضب نائب المنطقة الجنبلاطي وازلامه ويهددوك بالطرد من البلدة، أو يهددوا مراسل الصحيفة بإقفال مكتبه في عاليه إذا ما تجرأ ثانية وارسل إليها نوعا كهذا من المقالات، أو حتى يكفي مجموعة شبان مستقلين أو غير جنبلاطيين، أن يفكروا في تأسيس منتدى ثقافي أو ناد رياضي حتى توضع في طريقهم العقبات، فأي شيء: "أما أن يمر من خلالنا وأما لن يمر". أما اليوم فلا تحدث بلا حرج! فالقرى الدرزية في لبنان تعيش جوا من الارهاب الاجتماعي والسياسي، فإن عبرت عن رأي مختلف لسياسات وليد جنبلاط وخياراته الخاطئة فيمكن أن تنبذ وتهدد.
[size=5]
أما حديث جنبلاط عن حقوق الإنسان وعن أنظمة الاستبداد العربية وسجونها، فإن تاريخ وليد جنبلاط يظهر أنه ليس أقل استبداداً من أي حاكم عربي، ولو كان لجدران سجن بيت الدين افواه تنطق لتحدثت عن وسائل التعذيب التي تعرض لها بعض السجناء في عهد الادارة المدنية التي انشأها وليد جنبلاط في أثناء حرب الجبل، والتي لا تقل وحشية عن وسائل التعذيب في أي سجن عربي... أو أميركي.
وتشمل عملية التضليل التي يمارسها جنبلاط في مواقفه السياسية معركته ضد السوريين. مع العلم أن حق جنبلاط، كما من حق أي مواطن لبناني أو سوري آخر، الاعتراض على طبيعة الاداء السوري في لبنان على مدى ثلاثة عقود تقريباً. لكن هذا الاعتراض شيء والرهان على المشروع الاميركي – الاسرائيلي والانحراف إلى أقصى اليمين والتحالف مع الفاشية اللبنانية شيء آخر. حتى أن الأمور ليست كما يجري تصويرها، فهجمة جنبلاط على سوريا ليست لأن بعض اجهزتها الامنية عاث فساداً في الساحة اللبنانية، بل لأن جنبلاط البراع في البراغماتية، يبدو أنه يسعى دوماً لكي يلتحق بالاقوى والادسم. فالالتحاق بالاقوى يوفر له مزيداً من النفوذ، والالتحاق بالادسم يوفر له مزيداً من العطاءات. هكذا استطاع جنبلاط أن يوفق بين التحاقه بالنظام السوري والتحاقه بالحريري حين كانت العلاقة بين هذين الطرفين حميمية، أو تعاونية على الاقل، ويمها كان السوري لا يزال يمثل الطرف الاقوى في الساحة اللبنانية، أما حين برزت عضلات الكاوبوي الاميركي، وبات الادسم أكثر قوة ما دام ذلك يعزز نفوذه السياسي في أي معادلة جديدة، ويضمن له تدفق العطاءات!! لكن الرياح لا تجري بما تشتهي سفنه على ما يبدو.
ثم قال أن الخلاف بين جنبلاط والسوريين هو حقاً كما يدعيه جنبلاط أو كما تظهره وسائل الاعلام! فجنبلاط لم يقطع علاقته حتى ببعض رموز النظام السوري، وتحديداً تلك الرموز التي ثبت أنها كانت الاكثر فساداً في ذلك النظام وكانت تمثل عائقاً أساسياً أمام أي محاولة اصلاحية في دمشق، الأمر الذي ادى إلى اقصائها من السلطة في ما بعد. وليست مصادفة ابداً أن تلك الرموز كلما كانت تتعرض لمزيد من الاقصاء من دائرة القرار في دمشق كانت لهجة جنبلاط تجاه سوريا تزداد حدة. وهذا أمر يعبر في حقيقته عن تحالف طبقي خفي كان يجمع ابرز اقطاب "أغنياء الفساد" في كلا البلدين، الذين كونوا جماعة ضغط فاعلة لاعاقة أي محاولة اصلاحية يمكن أن تهدد مصالحهم في أي من البلدين، وللنيل من الخيارات الوطنية والقومية، في كل من سوريا ولبنان، الممانعة للمشروع الاميركي – الصهيوني في المنطقة.
ويلجأ جنبلاط اليوم إلى الحديث عن مسؤولية الحزب الحاكم في دمشق عن قتل كمال جنبلاط، مصوراً الصراع بينه وبين السوريين لدى جماعته وكأن المسألة مسألة ثأر لكمال جنبلاط، وبالفعل جرت تعبئة الدروز الجنبلاطيين في هذا الاتجاه. مع العلم أن جنبلاط في حملته هذه يتحالف مع القوى السياسية والميليشيات الفاشية المسؤولة عن قتل آلاف الشبان والنساء والاطفال والشيوخ، من الدروز الجنبلاطيين كما من بقية اللبنانيين والفلسطينيين المقيمين في لبنان، والمسؤولة عن ارتكاب المجازر انطلاقاً من صبرا وشاتيلا وصولا إلى كفرمتي وعبيه ومختلف قرى الشحار. وكأن جنبلاط يريد أن يقول أن دماء كل هؤلاء الشهداء هي دماء رخيصة لا تعني له شيئاً، فيضع يده بيد هؤلاء القتلى فيحين يصب جام غضبه في قضية قتل كمال جنبلاط، مع العلم أن "المكانة" السياسية التي يمثلها جنبلاط اليوم ما كان ليبلغها لولا الدعم السوري غير المحدود له في حرب الجبل. فجنبلاط بعدما كان على وشك الاعتراف بالهزيمة واعتزال السياسة عام 1982 (حين ظهر على شاشات التلفزة في عهد بشير الجميل قائلاً: سأعتزل السياسة واذهب إلى فرنسا. وسلامي إلى ابني تيمور في الأردن"!! فهو استعاد، بل عزز مكانته السياسية بفضل مئات الشهداء الذين سقطوا في حرب الجبل دفاعاً عن عروبة لبنان، والذين يتنكر جنبلاط لدمائهم اليوم، وبفضل الدعم السوري والفلسطيني الذي قدم بدوره مئات الشهداء فضلاً عن المساعدات المادية والعسكرية التي لولاها لما استطاع جنبلاط الانتصار في حرب الجبل، ولربما كان لا يزال معتزلا السياسة ومقيماً في فرنسا. هذا مع العلم أن جنبلاط نفسه قال عقب "انتصاره" في حرب الجبل: "أن السوريين انسوني قضية قتل كمال جنبلاط"، نتيجة دعمهم غير المحدود له في تلك الحرب.
وربما يكون صحيحاً أن أحد أقطاب النظام السوري هو المسؤول عن قتل كمال جنبلاط مرة، وهذا أمر فيه جريمة كبرى وخطأ استراتيجي فادح، لكن ما هو صحيح أيضاً أن كمال جنبلاط قتل ألف مرة على ايدي من يدعون أنهم يثأرون له اليوم.
فكمال جنبلاط قتل فعلاً حين قتلت الروح الوطنية العروبية التحررية في نفوس جماهيره، وقتل حين أصبح التشبيح والسرقة شطارة وأصبح مال الحرام حلالاً، كما قتل حين انتهكت كرامة بيوت على ايدي ابوات حزبه، وقتل حين رفعت الاعلام الفرنسية على قبره، ثم قتل حين رفعت صوره إلى جانب صور القتلى وعملاء اسرائيل وحيتان المال، وقتل حين تحالف وليد جنبلاط مع ارباب الرأسمالية المتوحشة ضد العمال والفلاحين والفقراء والمساكين الذين "ليس على صدورهم قميص"، وهو يقتل اليوم ألف مرة حين يتحول وليد جنبلاط إلى أداة بيد المشروع الاميركي – الاسرائيلي.
هذا هو وليد جنبلاط الذي سعى بعض وسائل الاعلام المرئية والمقروءة إلى تسويقه بوصفه بطلاً تاريخياً ومخلصاً محرراً، كما سوق لمحمود عباس يوماً أنه المخلص في فلسطين، وكما سوق لأحمد الجلبي من قبل أنه المخلص في العراق، أو كما سوق لبعض الامور "الانقلابية" في اوروبا الشرقية وافلريقيا وغيرهما من مناطق العالم الثالث.
ولا يتردد جنبلاط من وقت إلى آخر، في أن يملي علينا دروساً حول الانظمة الوراثية في بعض البلدان العربية، متناسياً أنه نموذج مصغر عن تلك الانظمة، لكنه نموذج مكثف وأكثر تجذراً وعمقاً في التاريخ، وأكثر تضليلاً في الثقافة السياسية. لذا يبدو له أن اقتلاعه من جراء رياح الديمقراطية الآتية من الشمال، أكثر صعوبة من اقتلاع أي نظام وراثي عربي آخر. فهل هذا ما يراهن عليه وليد جنبلاط؟
هذا هو مأزق السياسي في لبنان: قيادة سياسية لا تعرف الثوابت، تعمل على جرف الدروز باتجاه خيارات سياسية خطيرة تقطعهم عن عمقهم الحضاري والتاريخي، وتقضي على الوجه المضيء من تراثهم السياسي وهويتهم الوطنية العربية التي طالما كانت مصدر فخر لهم. فالدروز الجنبلاطيون باتوا اليوم لعبة صغيرة في ايدي الدول الاستعمارية، التي طالما لعبت بما يسمى "الاقليات" في لبنان من أجل تمزيق هذه المنطقة العربية والسيطرة عليها.
لكن الدروز الجنبلاطيين يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس من تجربة الموارنة في هذا الصدد، الذين طالما راهنوا على المشاريع الاستعمارية، بما فيها المشروع الصهيوني، ووضعوا أنفسهم في حال عداء مع عمقهم الحضاري والتاريخي، وكانت النتيجة اقحام لبنان في سلسلة حروب أهلية لم تمح اثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية بعد. إلى أن بدأ الموارنة بالفعل يتبنون سياسة عقلانية متصالحة مع هذا العمق، وهي سياسة تتمثل اليوم بالتيار العوني، الذي أخذ يوفق في الفترة الأخيرة بين نزعته الاستقلالية اللبنانية وبين تعزيز الارتباط والتفاعل الطبيعي المحيط العربي – الاسلامي.
أما الدروز الجنبلاطيون فهم بفضل قيادتهم المقامرة هذه، يقحمون انفسهم في مشاريع شبيهة بالمشاريع التي اقحم الموارنة انفسهم فيها في القرنين السابع عشر والعشرين. وها هي النظرة الامتعاضية – على الاقل – اخذت تتسع تجاه الدروز في اوساط هذا العمق العربي – الاسرائيلي، سواء في لبنان أم في المحيط. فهل من اصوات عاقلة وجريئة يمكنها أن تعلو وسط الدروز اليوم من أجل اعادة تصويب المسار والحفاظ على الهوية؟