في السادسة والعشرين كنت تائهاً، أمشي متعثراً بين الحارات والشوارع، أنظر في أنوار الطرقات وعتمات الدهاليز باحثاً عن حقيقة ما....
كنت أبحث عن حقيقة أقف عليها، ويتوكأ عليها ضعفي وعجزي...
كانت الحقيقة، تشكل مصطلحاً عقلياً، يسكن جسدي وكياني.
بحثت كثيراً، وقرأت كثيراً، وجهلت كثيراً...
ومررت يوماً ببضعة خيالات يجلسون في الشارع سوياً.
كان الاطمئنان يبدو على وجوههم، والبسمة تعلو شفاههم.
فعرفت أنهم يملكون الحقيقة.

جلست معهم، وجالستهم.
أكلت وشربت ونمت وسامرت.
عرفت أنهم مدركون وعاقلون.
وتبعتهم وقعدت متجملاُ بالصبر منتظراً غودو معهم عساه يأتي.

تغيرت حياتي كلياً مذ جالست أولئك الناس : تحررت من مسبق الظن، سامحت وتسامحت، فهمت وتأقلمت، وعرفت أن لكل إنسان لغةً، ولكل قومٍ منطق.

كانت حقيقة أولئك القوم ألا حقيقة في هذا الكون قبل أن يأتي غودو...

فجلست معهم، وتبعت ملتهم، وبقيت أنتظر غودو كما ينتظره الكثيرون ممن نجحوا في فهم الحياة والإنسان...

مرت الطائرات البارحة، فاضطربت.
وقصفت هنا وهناك.
وبعد أيامٍ من القصف جاء أحد أصدقائي مهرولاً، ألا اركض فإنه هناك...

ركضت....
بذلت أقصى جهدي.
قفزت فوق الحواجز ومن فوق الأسوار.
ركض معي رفاقي، ومنهم من تعب واستسلم، ومنهم من سبقني إلى هناك...
وصلت في النهاية، لأرى غودو جثة هامدة.
فعلمت أن حلمي قد تحطم.
علمت أن حلم الإنسانية كلها قد تحطم.

أحدهم قتل غودو، ولم أعلم من....
أحدهم أطلق رصاصة أو قنبلة أو قذيفة وقتله في ذاك المكان قبل أن يصل...

ندبت قليلاً، بقيت جامداً قاعداً بقربه أرقب الجسد الميت.
علمت ألا أمل بعد ذلك.
لا انتظار.

مات وهوقادم لنجدة الإنسان، ومهما كان قاتله فقاتله إنسان.

دفنته هناك، وعدت أدراجي.

عبرت كل الأسوار والحواجز في الاتجاه الآخر ولكن ببطء هذه المرة.

دفنته هناك وعدت.

وضعنا شاهدة على قبره تقول :" هنا دفن الإنسان "...
ولم نتوقع بقاءها طويلاً تحت كل هذا القصف ومع كل هذه الغوغاء.

عدت كما كنت سابقاً، أسير على غير هدى في الشوارع والحارات.
أبحث عن حقيقة ما...
في أضواء الطرقات وفي عيون الناس.

:rose:

الفاتحة على روحك يا "غودو"

آمين
في العالمين.

طارق - زمن "بيكيت حج إبراهيم"

(f)
وردة على قبر كل إنسان ضحية لشجع اخيه الانسان


و تحية بعبق الياسمين الدمشقي ل بشر .. (f)