منطق....
" نظرية المعرفة "
لنسأل هذا السؤال : هل مدينة باريس موجودة؟
إن الجواب على هذا السؤال راجع لمعرفة ومعلومات من يُسأَل فإذا كان المسؤول من سكان باريس فجوابه سوف يكون مؤكد باريس موجودة , فهو يشعر ويحس بها بحواسه , وهو مؤمن بصحة معرفته بصورة مطلقة ولا يمكن إقناعه بغير ذلك.
ولكن إذا كان الشخص المسؤول من سكان الأمازون أو من سكان القطب الشمالي أو من سكان الصحارى المنعزلين فجوابه , سوف يكون لا إنها غير موجودة , أو لا أعرف.
وسيرد الكثيرون طبعاً مدينة باريس موجودة , وهذا مؤكد ومثبت بشكل تام, فهناك آلاف وملايين الدلائل والإثباتات . وسوف يقول بعضهم أنهم زاروها , وهي موجودة حتماً , وليس هناك مجال للنقاش في ذلك.
إنها موجودة بالنسبة لهم . فهم يؤمنون بذلك ومتأكدون منه .
والقارئ سيعتبرأن الجواب الصحيح والموضوعي والذي لا لبس فيه , هو أن باريس موجودة دون أي شك, وأن الذي يقول أنها غير موجودة لم يتأثر بوجودها أو لم يعلم بوجودها ولكنها فعلاً موجودة.
الآن . سوف يحصل النقاش التالي:
إن الذين يقولون أن باريس موجودة وليس هناك أي شك , وهؤلاء الذين سألتموهم لا يعرفون ذلك , وهي موجودة فعلاً . يمكن الرد عليهم بالقول : إنها موجودة بالنسبة لكم ولكنها ليست موجودة بالنسبة لهؤلاء الذين لم يسمعوا أو يروا أي شيء عن باريس, لذلك جوابكم صحيح بالنسبة لكم و لما تملكون من معارف ومعلومات, وكذلك جوابهم صحيح بالنسبة لهم.
ولكي نصل إلى تحديد وتعيين أكثر يمكننا أن نقول أن باريس توجد بالنسبة لإنسان أو جماعة معينة - أي لمرجع معين- ولا يمكن أن توجد بالنسبة لكل الناس , أو بالنسبة لكل مرجع.
الآن- إذا حاولنا إقناع إنسان لا توجد باريس بالنسبة له بوجودها بواسطة الكلام فقط , ربما نصل إلى إقناع ضعيف له , أما إذا أخذنا زعيم هذا الإنسان أو أحد الذين يثق بهم إلى باريس , وشاهدها ولمس وأدرك وجودها وآمن بوجودها, ثم عدنا به وجعلناه يروي ما وجد لذلك الإنسان فإننا على الأغلب سوف نجد جوابه أن باريس موجودة , مع أنه لم يذهب إليها , لأن زعيمه أو مرجعه الموثوق أكد له وجودها, وسوف يكون أكثر إيماناً بوجودها من ذي قبل.
أي يمكن أن تصبح مدينة باريس موجودة بالنسبة للذين لا يعرفون أو لا يعلمون بوجودها إذا نحن استطعنا أقناع هؤلاء بوجودها كأن نريهم إياها, أو نريها لأحدهم ويكون موثوقاً بالنسبة لهم أو نقنعه بوجودها وهو سيقول لهم أنها موجودة ويصفها لهم ويقنعهم بوجودها.
الآن- إذا استخدمنا إمكانيات واقع افتراضي متطور جداً يعتمد على الصوت والصورة والرائحة و أغلب الحواس , وجلعنا الذي لا يعرف ولا يعلم بوجود باريس يتأثر بحواسه بواسطة الواقع الافتراضي وكأنه يزورها, أي تأثير الحواس فقط, دون وجود واقع مقابل لها,إننا سوف نحقق لديه معرفة وإيماناً قوياً بوجود باريس أو بأي أشياء غير الموجودة في الواقع .
ولكن إذا جعلنا مولوداً يتأثر بالواقع الافتراضي المتطور الذي خضع له ذلك الرجل , فهل سيعرف أن باريس موجودة ؟
أن هذا المولود لن يعرف شيئاً سوى أصوات وألوان وروائح..... ليس لها أي معنى بالنسبة له, لأنه لم يكتسب بعد المعاني والمفاهيم وأسس التواصل البشرية التي سوف تنقل إليه لاحقاً وهذا معناه أن الحواس لوحدها غير كافية لنشوء المعرفة البشرية.
إذاً المعرفة يمكن خلقها أو إيجادها في العقول وبطرق متنوعة كثيرة, وبعض هذه الطرق يعتمد على التواصل اللغوي الفكري فقط, , ودون الاستعانة بالأحاسيس والتأثيرات الواقعية - دون تجربة واقعية- .
لنتابع ....
لنسأل مئة أو ألفاً من سكان باريس الحاليين عن ماهية باريس , أننا سوف نجد أجوبة مختلفة بعدد الذين سؤلوا , فكل منهم تكون تأثيرات باريس عليه مختلفة عن الآخر, صحيح سوف تتشابه الأجوبة في بعض الأمور ولكن تبقى مختلفة بشكل كبير, وهذا يعني أن غالبية المعارف ليست متطابقة بين الناس . فكم هي المعلومات التي يمكن أن تذكر عن باريس , إنها هائلة جداً ولا يمكن تحديدها, وكذلك هي متغيرة دوماً خلال زمن قصير أوطويل, ومدينة باريس لم تكن موجودة دوما فهي نشأت في زمن معين, وهي في كل لحظة تتغير فباريس اليوم غير باريس قبل مئة عام أوقبل يوم .
ربما يقول البعض الذين يؤمنون بالوجود الموضوعي إن باريس مهما فعلنا هي موجودة ويمكن إثبات وجودها لأي كان .
هناك رد على ذلك , هل باريس وحتى الكرة الأرضية هي موجودة الآن بالنسبة لكائن في كوكب آخر يبعد عنا عشرة آلاف سنة ضوئية, إنها لا يمكن أن توجد بالنسبة له إلا بعد عشرة آلاف سنة. وإذا كان يبعد عدت ملايين أو عدت مليارات من السنين الضوئية فيلزم هذه المدة لكي تصل التأثيرات إليه وسوف تكون هذه التأثيرات شبه معدومة, وإذا أرد المجيء لكي يتأثر بها عن قرب فسوف يأتي ولن يجدها لمرور ملايين السنين, فهناك بعد زمني يجعل تعميم وجود باريس على كل الوجود مستحيل.
وكذلك الكائنات التي وجدت قبل تشكل باريس لا يمكن أن توجد باريس بالنسبة لها.
وربما يقول البعض أيضاً أننا أخذنا مثال مدينة باريس وهي بنية معقدة.
لذلك سوف نأخذ مثال آخر, أي بنية لكائن حي ونحاول تحديد معرفتنا عنها, إننا سوف نجد أنها أيضاً معقدة ولامتناهية ومتحركة. ولكي نوضح أكثر لنأخذ أحد العناصر الكيميائية الأساسية ولتكن ذرة النحاس . إن ذرات النحاس كلها متشابهة في الخصائص ولكنها ليست متماثلة تماماً إن كل ذرة نحاس مختلفة عن الأخرى من عدة نواحي , ولكي نصف ذرة النحاس بشكل دقيق نحتاج إلى مئات الصفحات لذكر طبيعة وحركة ومدارت وطبقات إلكتروناتها, وطرق تغير مسارات ومدارات الإلكترونات فيها, ولكي نصف خصائص البروتونات والنيترونات الموجودة في النواة والعلاقات الموجودة بينها ضمن النواة . فهي في أوضاع وطبقات متعددة, فالوضع حتى في الذرة الواحدة معقد ومتحرك ويستحيل علينا تحديده بدقة مطلقة. والذي يعقد الوضع أكثر هو التأثيرات المتبادلة بين طبقات مدارات الألكترونات والنواة, والتأثيرات المتبادلة مع الوسط الموجودة فيه الذرة , فهناك تأثيرات مجالات القوى المختلفة إن كان من خارج الذرة أو من داخلها. فحتى الذرة هي أعقد بكثير مما نتصور وهي في صيرورة مستمرة, والمشكلة الكبرى هي أننا عندما ندرس الذرة يجب أن نتأثربها ونؤثر بها أيضاً , وهذا يمكن أن يغير من خصائصها وبالتالي يجعل إمكانية معرفتها بشكل مطلق مستحيل.
مثال على لاتناهي الأحداث واستحالت تعيينها بشكل مطلق ما قاله إيان ستوارت في كتابه من" يلعب النرد":
إن ميلي غرام واحد من الغاز يحتوي مئة تريليون جسم تقريياً ونحتاج إلى قطعة من الورق يساوي المساحة التي يحويها مدار القمر حول الأرض لكتابة معادلات الحركة لذرات هذا الغاز. وقال أيضاً:
إن حساب حركة كرتين متصادمتين ممكن بالدقة التي نريد, أما حساب حركة تصادم ثلاث كرات فهي مستعصية على الحل الكامل.
وأخيراً لنأخذ أحد الجسيمات الذرية الإلكترون أو البروتون أو الفوتون , إن الإلكترون هو غمامة متغيرة تدوم - له أسبين- وله كتلة وسرعة يمكن أن تتغير, وشحنته هي فقط الثابتة بشكل كبير, وإن كافة الجسيمات الذرية بمكن أن تتحول إلى طاقة - كم بلانك- وهذه الكمات تسير بسرعة ثابة هي سرعة الضوء, والثابتان الأساسيان في الكون هما ثابت بلانك وسرعة الضوء في الخلاء, و يحاول علماء الفيزياء إرجاع كافة البنيات الذرية إلى أسس مشتركة واحدة بوضع نظريات تفسر ذلك , فنظرية الكم تقول إن كافة ما نجده في هذا الكون أكان مادة أم طاقة مؤلف من كمات بلانك, ولم يستطع العلماء تجزيء هذا الكم, ولا نعرف خصائص داخلية له , وهذا يجعله اللبنة الأساسية للكون- بالنسبة لنا-.
ونظرية كل شيء تسعى لتفسير كل خصائص بنيات الوجود وتفاعلاتها بناءً على نظرية الكم وبعض الأساسيات القليلة الأخرى فهناك ثلاث أنواع مختلفة من القوى - وقد كانت أربعة أختزلت إلى ثلاثة- هي أساس كل التفاعلات, ولكل نوع خصائصه المختلفة, وهم يحاولون أرجاعهم إلى أصل واحد ولكنهم يواجهون صعوبة كبيرة في ذلك, والمشكلة الكبرى لديهم هي كيف يمكن التوفيق بين قوى الجاذبية التي أصغر من القوى النووية ب 10 قوة ناقص 38 , وكيف تفسر نشوء الشحنة والكتلة والجسيمات والاسبين . . . , وهناك أفكار ونظريات أخرى تحاول تفسير خصائص الوجود بناءً على تفاعلات لأوتار متناهية الصغر في أبعاد كثيرة, ولها خصائص معينة, ولم تصل إلى أمور حاسمة حتى الآن.
نعود إلى ثابت بلانك وسرعة الضوء , إنهما أساس كافة بنيات الوجود وبوجود القوى والمكان والزمان والتناظرات, وبالتالي القوانين التي تجري حسبها كافة تفاعلات الوجود- والتي هي ثابتة بشكل كبير- تتشكل كافة بنيات الوجود .
والمهم أن البنيات الفيزيائية لا تتغير ولا حتى خلال 10 قوة 34 سنة, فعمر البروتون المتوقع أكثر من 10 قوة 35 سنة.
لذلك المعارف الفيزيائية تملك أعلى دقة تنبؤ لاعتمادها على ثوابت دقيقة جداً وهي مكممة بدرجة عالية جداً.
وفي النهاية لنسأل أي إنسان يؤكد أن وجود الموجودات هو وجود موضوعي بغض النظر عن وجود من يتأثر بها, لنسأله عن بعض الموجودات أو بعض خصائصها التي لم يتأثربها وبالتالي لم يعلم بوجودها, إنه سوف يقول لا أعلم ربما كانت موجودة , أي يكون رده مثل رد الرجل الذي سألناه عن باريس التي لا يعلم بوجودها, ولكنه سيبرر, أن عدم معرفته بها لا يمنع من وجودها وجوداً فعلياً.
هذا جيد ؛ ولكن كم هي الموجودات التي لم يتأثر بها؟
إنها غير محدودة ولا يمكن تعيينها, وعلى الأغلب لامتناهية , واللا معين هو لا معرٌف ولايمكن التعامل معه فكرياً , وكل أحكامنا عليه سوف تكون غير معينة وليس لها أي معنى . أي أن الوجود الموضوعي غير معين بشكل كامل أو لايمكننا تعيينه بشكل كامل.
إن هذا يظهر لنا أن وجود شيء ما هو دوماً بالنسبة لشيء أخر, ولا يمكن وجوده لوحده- أي بالنسبة لنفسه فقط -.
وأن المعرفة هي دوماً تنبؤ أو حكم بوجود شيء , أو وضع, أو فعل, حدث في الماضي ,أو سوف يحدث في المستقبل , وهي تعتمد علىالسببية .
وهذا يستدعي أيضاً وجود حوادث متشابهة يتكرر حدوثها , فإذا لم توجد حوادث متشابهة فلن مستطيع بناء معرفة . والمعرفة مرتبطة بالتأثر ولا يمكن حدوث معرفة دون تأثر.
ويمكن أن نقول أن خصائص المعرفة هي :
أولاً : المعرفة هي تنبؤ( والاستقراء, والاستنتاج, والاستنباط, والاستدلال, والتركيب, والتحليل, والتفسير, والسببية ) يتضمنون التنبؤ . والحكم هو تنبؤ معتمد . و لها درجة صحة أو درجة دقة ولا توجد معارف مطلقة الصحة.
فالمعرفة هي بمثابة مفاتيح تسمح لنا بفتح الزمن , باستنتاج ماحدث في للماضي والتنبؤ لما سوف يحدث في المستقبل . ومعرفة مراكز التوازن أو الاستقرار لدارات تفاعل البنيات , ونتائج صيرورتها . وبالتالي تسمح لنا بتحقيق الأهداف بأسرع وأسهل طريقة , دون استعمال التصحيح بالتغذية العكسية أو التجربة والخطأ, لأنها تسمح لنا بتحديد المطلوب الصحيح فوراً.
فهي بمثابة المفاتيح التي تفتح الأقفال أو الأبواب المطلوبة من المرة الأولى , فالمعلومة التي تقول" كل المعادن تتمدد بالحرارة " هي مفتاح يمكن استعماله لتحقيق أهداف نسعى إليها بسهولة وسرعة.
ثانياً : المعرفة نسبية وهي تابعة للعارف ( إن كان فرد أو جماعة) ومرتبطة به , لذلك لا توجد معارف مطلقة العمومية
ثالثاً : المعرفة تابعة لخصائص وقدرات الحواس البشرية (أشكال وطبيعة التأثر بالوجود , و خصائصها-), وقدرات وخصائص العقل البشري . لذا فإن المعرفة البشرية مختصرة ولا تشمل إلا جزءاً ضئيلاً من وقائع الواقع اللا متناهية.
وترتبط المعرفة بزمان ومكان وقدرات وخصائص الإنسان العارف , الذي هو مرجع هذه المعارف . لذلك تختلف المعارف باختلاف الأشخاص واختلاف الأزمان .
رابعاً : المعارف يجب أن تكون عامة , و توحيدها لا بد منه عند تعامل الناس بها.
خامساً : هي نتيجة التواصل الفكري بين البشر .
|