بغداد ـ من مراد الأعظمي:لا تزال حادثة اغتيال الصحافية العراقية الشابة أطوار بهجت تثير الكثير من التساؤلات بشأن هوية المتورطين في ذلك، وبشأن الجهة التي يمكن أن تستفيد من عملية قتل صحافية عراقية، كانت في طريقها لتغطية واحد من أبرز الأحداث التي كادت أن تنزلق بالعراق إلي أتون حرب أهلية، سعي الكثير من أبنائه إلي تجنبها.
اغتيلت أطوار بهجت، واثنان من زملائها، في يوم عراقي ملتهب، ومضت أسابيع علي الواقعة دون أن يجاب علي الأسئلة، طالما أن الحقيقة هي الضحية الأولي، في حالات كهذه.
لكن ملف أطوار بهجت قادر، بما يتوفر له من إشارات ودلالات قابلة للمقارنة والتحليل، لأن يقاوم محاولة إيداعه في أدراج النسيان، أو إبقائه أحجية مستعصية علي الحل، في العراق الجديد. فما هي القصة؟
أطوار من الصعود الإعلامي
أطوار لمن لا يعرفها، صحافية عراقية درست في قسم اللغة العربية، في كلية الآداب بجامعة بغداد. وتخرجت في عام 1998، لتمارس بعد ذلك عملها الإبداعي في كتابة الشعر.
وكانت الشابة العراقية المتفتحة علي الحياة الثقافية تتردد علي مبني اتحاد الأدباء في بغداد كل أربعاء، حيث الأمسية الأدبية الثابتة. بعد ذلك عملت في مجلة ألف باء ، وفي الصفحة الثقافية تحديدا. هي مثقفة إذن، وليست مجرد مزاولة نمطية لمهنة المتاعب. وفي ما بعد عملت بهجت في عدد من الصحف اليومية والأسبوعية، التي كانت تصدر إبان حكم الرئيس العراقي السابق، صدام حسين.
لم يعرف عن أطوار أنها كانت تميل إلي أفكار البعث، أو أنها انتمت إليه. كما لم يعرف عنها ميلها إلي أي من الاتجاهات الحزبية، التي ظهرت علي الساحة العراقية بعد الاحتلال. وقد عملت أولا في قناة العراقية الفضائية، إلا أنها بعد أن شعرت أن المحطة لا تعكس عراقيتها، عملت أطوار بهجت مع أبرز جهتين في الفضائي الإعلامي العربي المرئي، أي قناة الجزيرة الفضائية، قبل أن تنتقل إلي قناة العربية الفضائية، وهما قناتان تتمتعان بمعدلات متابعة داخل العراق تتفوق باستمرار علي نظيراتها العراقية متفرقة الألوان والأهواء والارتباطات.
إلا أن الأمر لم ينته إلي مجرد صعود لنجم إعلامية شابة تمارس عملها برصانة. فقد كان علي أطوار بهجت أن تدفع ضريبة باهظة بآلامها ودمائها وروحها، في المنعطف الأخير مع ملاحقة أطراف الحقيقة، في حقل الأشواك العراقي.
ورغم مضي نحو الشهر علي انتزاعها قسرا من صدارة المشهد الإعلامي العراقي، وأطياف الفضاء العربي: فإن تفاصيل اغتيال أطوار ظلت طي الكتمان، وربما يراد لها ذلك. فالرواية الرسمية التي تناقلتها وسائل الإعلام من خلال أجهزة الأمن العراقية بدت مختزلة ومحفوفة بالتساؤلات، وها هي تثير شكوكا متزايدة، خاصة وأن بعض الأجهزة الأمنية متهمة، وأكثر من أي وقت مضي، بالتورط في مخالفات جسيمة، تشمل ارتكاب عمليات اختطاف، وممارسة حفلات تعذيب مروعة، كان لا بد وأن تلقي نفيا متشابها من متحدثين لا يبدون الاستعداد لمناقشة البراهين والأدلة والاتهامات الموجهة إلي تلك الأجهزة، أو الشروع بفتح تحقيقات جادة ومسؤولة.
بداية القصة
يري مراقبون ان ملاحقة أطوار بهجت بدأت بعد إحدي حلقات برنامج الاتجاه المعاكس ، والتي استضيف فيها علي قناة الجزيرة الفضائية، السياسي العراقي، فاضل الربيعي، الذي وجه انتقادات صوب المرجع الشيعي علي السيستاني. كان ذلك قبيل الانتخابات التشريعية العراقية الأخيرة، بيومين تحديدا، لتثور ضد القناة ثائرة بعض الجهات المحسوبة علي دوائر عراقية، تعتبر أن انتقاد مواقف المرجع السيستاني: إنما هو انتقاد لها علي ما يبدو.
في غضون ذلك: انطلقت حملة إعلامية حاشدة، تجندت لها كافة وسائل الإعلام، الخاضعة للدولة العراقية، ومنها جريدة الصباح والقناة الفضائية العراقية . وطالبت تلك الوسائل إعلاميي قناة الجزيرة في بغداد، بالاستقالة من القناة، الأمر الذي فهم من قبل أطوار بهجت علي أنه تهديد مبطن، ومدفوع بأقصي درجات الجدية، في ساحة لا يأمن فيها مزاولو المهن الإعلامية علي العودة السالمة إلي مراقدهم مساء.
في أتون تلك الحملة الضاغطة: وجدت أطوار أنه لا مناص من تقديم الاعتذار عما بدر من الجزيرة ، فقدمت استقالتها، من القناة عبر قناة العراقية ، إلا أن ذلك، حسب من عايشوا ما جري وراء الكواليس، لم يكن كافيا لطمأنتها من انتفاء الشرور التي تتربص بها، أو انفضاض خيوط الموت التي تحاك حولها بعناية.
لقد برهنت لها الأيام علي صدق حدسها، فقد لاحقت أطوار الكثير من المضايقات، علي الرغم من هذا الاعتذار، وعلي الرغم من الإبحار بعيدا عن الجزيرة . كان ذلك كافيا لأن تضطر إلي تغيير محل سكناها صحبة والدتها وشقيقتها، والانتقال إلي منزل جديد. غير أن ذلك لم يجد نفعا في ساحة مكشوفة لفرق الموت الأسود.
كانت الإعلامية العراقية، التي ربما انتظرتها فرصة ارتقاء مهني مميزة لو كانت خارج بلادها: تؤكد باستمرار أن هناك من يتعقبها. وهي لا تتحدث عن رؤي منامية أو خيالات تفرضها الحالة المعنوية السائدة في الشارع العراقي: بل تشير تحديدا إلي سيارتين مدنيتين، حاولتا اختطافها، ولكنها تمكنت من الفرار، ليكون الأردن وجهتها هذه المرة، حيث عرضت عليها الجزيرة العمل من عمان، إلا أنها رفضت.
سامراء البداية والنهاية
التحقت أطوار بهجت بالعمل في قناة العربية ، رغبة منها في إيصال الحقيقة، كما تقول، وهي الحقيقة ذاتها التي ذهبت ضحيتها. ففي إحدي المهام التي أوكلت إليها، وهي إعداد تقرير لبرنامج مهمة خاصة : اتجهت إلي كركوك، حيث موضوع التقرير، وبسبب الأوضاع المضطربة في المدينة، اضطرت إلي المبيت في السليمانية (منطقة كردية)، ومن ثم العودة إلي كركوك، لاستكمال المهمة، ومعها كادر من شركة الوسن الإعلامية .
خلال ذلك أفاق العراقيون علي تفجير قبة سامراء الذهبية، التي طالت مرقدي الإمامين علي الهادي والحسن العسكري. فاتصل المعنيون من قناة العربية ، من المكتب الرئيس بدبي، بالإمارات العربية المتحدة، حيث مقر القناة الرئيس، لحث مكتبهم في بغداد علي الذهاب إلي هناك، وتغطية الحدث، ضمن الأسبقية المنشودة. وفي ما تمكن المراسلون الذكور من التملص من المسؤولية: اتصلت هدير الربيعي، مراسلة العربية بأطوار بهجت، لتخبرها بأن المسؤولين في القناة يريدون تغطية الحدث، وأن هدير ستذهب إلي النجف، فقالت أطوار نقلا عن العربية. نت ، أنا سأذهب إلي سامراء، ولا تذهبي إلي النجف، يكفي مكتب بغداد خسارة واحدة .
سرعان ما اتجهت أطوار إلي سامراء، محاولة الولوج إلي المدينة المغلقة، والتي تحيط بها قوات الأمن العراقية، فلم تفلح، فأرسلت تقريرها الأخير علي الهواء مباشرة، من المدخل الشمالي للمدينة، والذي أنهته بعبارتها، لا فرق بين عراقي وعراقي: إلا بالخوف علي العراق .
ثم أجرت مقابلات مع بعض أهالي المنطقة، وهنا تشير المصادر إلي توصلها إلي معلومات حول حادث التفجير، مع وجود خلاف حول طبيعة تلك المعلومات، إن كانت تتعلق بالطرف المسؤول عن التفجير أم عن ملابسات تنفيذه.
بعد هذا الذي بدا لها كسبا إعلاميا: حاولت أطوار بهجت دخول المدينة المغلقة مرارا، وأجرت عدة اتصالات، فاتصل بها وزير الداخلية، بيان جبر صولاغ، وكان وقتها موجودا في سامراء، وقال لها انتظري مكانك، ستأتيك سيارة تدخلكم إلي المدينة.
بعدها بلحظات: يتم التبليغ عن اختطاف أطوار وزميليها، وهروب الرابع أنمار عاشور، ورواية ركيكة يرويها الزميل الهارب، علي مقربة من نقطة تفتيش يقيمها مغاوير الداخلية.
عثر علي الثلاثة مقتولين علي أحد الطرق الخارجية القريبة من سامراء، بعد الساعة الواحدة صباحا. لقد كانت صدمة بالغة هزت المشاعر، فالصحافية الصاعدة، التي كسبت احترام المشاهدين من شتي المربعات: التحقت بسجل شهداء المهنة، ولتكون أبرز شهيداتها.
أعلن علي الملأ خبر اغتيال الإعلاميين الثلاثة، صباح الخميس 23 شباط (فبراير) الماضي، واتجهت الجثامين الثلاثة من سامراء، حيث وصلت بغداد قرابة الساعة الخامسة مساء بسبب إغلاق سامراء، واضطراب الطريق.
وهكذا تأجل التشييع إلي اليوم التالي، الجمعة 24 شباط (فبراير) 2006، بعد الساعة السادسة مساء، ريثما ينتهي حظر التجوال المفروض علي بغداد، غير أنه تقرر أن يفرض الحظر من جديد بعد الساعة الثامنة مساء، وهو ما يجعل من المتعذر علي أي أحد الذهاب إلي مقبرة الكرخ، مكان التشييع المحدد، والعودة في ظل الظروف الأمنية السائدة حينها، ثم العودة قبل دخول وقت الحظر.
فتم تغسيل أطوار بهجت وتكفينها، علي أن يتم التشييع صباح السبت 25 شباط (فبراير) 2006، في الساعة الثامنة صباحا، حسب ما أعلنته قناة العربية .
ولكن لم يمض الليل حتي أعلنت الحكومة عن تمديد حظر التجوال يوما آخر، لذا كان من المقرر أن يتم تأجيل التشييع إلي ما بعد انتهاء الحظر، أي في الساعة الرابعة عصرا.
وما ان طلع الصباح، حتي طرق الباب مغاوير الداخلية ، ومعهم بعض الشخصيات المحسوبة علي أطراف وقوي سياسية بعينها، ليقرروا بدء التشييع قسرا، وسط رفض الأقارب، لعدم تمكنهم من الحضور بسبب الحظر، وهنا قال المغاوير إن السيد عبد العزيز الحكيم أرسلنا، ويقول ندفنها الآن .
هكذا بدأ التشييع، وسار موكب الجنازة، وحدث ما حدث من اشتباكات مع مغاوير الداخلية . ونتيجة للاشتباكات، تجدد رفض ذوي أطوار بهجت مرافقة قوات الأمن لموكب التشييع، غير أن المسؤولين الأمنيين أصروا، مشددين علي أنهم حضروا بأمر من وزير الداخلية.
وبعد اتصالات عدة لإرسال تعزيزات أمنية، وكما شاهد كثيرون في البث المباشر لبعض الفضائيات، لأحداث إطلاق النار: أعلن وزير الداخلية بيان جبر صولاغ، أن هذه المنطقة ليست تابعة لوزارة الداخلية، وإنما هي تابعة لوزارة الدفاع. وهكذا تم سحب سيارات الداخلية، لتسير الجنازة إلي أن انتهت عملية الدفن.
أطوار بهجت السامرائي، وبحسب مصادر طبية كشفت علي جثتها: لم يتم إنهاء حياتها وزميليها، عدنان خير الله، وخالد محمود، من مدينة الفلوجة، بطريقة اعتيادية . فالاختطاف جاء ملحقا بحفلات من التعذيب والتنكيل المروعة، وفق الآثار التي عثر عليها في الجثث الثلاث.
فأطوار بهجت، ودون الاسترسال في التفاصيل المروعة التي وردت مشفوعة بالتأكيدات، واجهت صنوف الضرب، والتثقيب بالمثقاب الكهربائي (الدريل) في مواضع عدة، وعمليات إحراق وتشويه وتمزيق متكررة، فضلا عن استخدام آلات حارقة خلال ذلك كله، قبل أن يطلق الرصاص في الرأس من الجهة اليسري.
جري ذلك كله، ولم يكن بالوسع العثور علي أية إشارة بشأنه في المصادر الرسمية العراقية التي تطرقت إلي واقعة قتل أطوار بهجت، وإلي كل ما تخللها من ملابسات، وإلي حقيقة التعذيب المروع الذي عانت منه.
وما هو أكثر إثارة، أن تلك الأساليب تحمل في الساحة العراقية بصمات محددة، وترتبط باتهامات أكثر تحديدا، أمكن تأكيدها مرارا في تقارير عدة، بل ولفت تقرير حقوق الإنسان الأخير لوزارة الخارجية الأمريكية (الصادر في آذار/ مارس الجاري) الأنظار إلي جديتها، عندما تحدث عن أنه غالبا ما تصرفت عناصر من المليشيات الطائفية وقوي الأمن بصورة مستقلة عن سلطة الحكومة .