[center]
[/center]
في لحظة غيبوبتي، سألت الحقيقة الضائعة عمّن تكون، فأجابت :
عندما يضع الملاك حقده في البوق، نافخا بكل قوته ليعلن نهاية العالم، فتصدر ضرطة عفوية من طرف فيه، فتكون ك " طظ " الغير معلنة، فهذا أنا الحقيقة الضائعة.
عندما تنصت إلى جمع غفير، حين يسكتون بالإجماع دون اتفاق مسبق، ويعلو نفيري ليسود على كل أذن، ثم لا يلبث أن يبدو كأنّه اختفى بعد طرفة عين، حين يعود الجميع إلى الحديث، ولكنّه لا يزال هناك أبدا، فهذا أنا، الحقيقة الضّائعة.
حين تقفز في الماء فتذوب في برودته المنتشية، ولا تعود نفسك - للحظة - مع تلك النّشوة، فهذا أنا الحقيقة الضائعة.
عندما تستدير حبيبتك بطيش لتبتعد ذاهبةً دون وداع، وتصفعك شعراتها على وجهك مودعةً، فتشمّ رائحة أحلى من كل الأزهار، وتصاب بغصّة الحسرة، لأنّك تعلم أنّ كل هذا البستان في رأسها، سيرحل إلى الأبد، دون أن تستنشقه لمرة أخيرة، فهذه هي الحقيقة الضّائعة.
[center]
* * *
[/center]
بعد هذه الإجابات، قدمت طلبا لتمديد غيبوبتي، فوافقت عليه الحقيقة الضائعة، وجلست عند قدميها، فقالت :
أنا الحكّة التي أصابت قدم يسوع، عندما دغدغتها شعرات المرأة الخاطئة، فاستنكف وقاره أن يسمح له بالانحناء لتمزيق ظهر قدمه بأظافره، فغفر لها، حتى يرتاح منّي.
أنا الجزء الوحيد في كرسيّ الله الذي لا يطيق رائحة قدميه.
أنا قطرة الماء التي أبت أن تبيدكم يوم الطّوفان، فبخّرت نفسها.
أنا البصقة التي أرسلتها السماء فأصابت وجوه الجميع، فابتسموا فرحين.
أنا الدودة التي أبت أن تذوق لحم إنسان، ولم يصنع لها الكون تمثالاً.
[center]
* * *
[/center]
في غيبوبتي، دون أن أشعر، صلّيت أنا التّارك الصّلاة، فاستجابت لي، وأعطتني المزيد عنها، فقالت :
أنا الواقعة التي لم يكتبها الملكان.
البصمة التي لم يرفعها المحقّقون.
المصطلح الذي لم يرصده قاموس.
الكلمة التي لم ينطقها أحد.
..................
أنا الجزء في العدد الكسري الذي لا يضعه أحد في حسابه.
الأنشودة المسطورة في كتاب الهندسة.
أنا حل المسألة التي لم يطرحها أحد.
أنا القبلة التي تبادلتها ظلمة نفق لم يعبره أحد مع لسان الضّوء الممتد في نهايته.
أنا كلمة حق قالها سلطان جائر أمام شعب مسحوق، وتغاضى عنها التّاريخ.
أنا الخير الذي فعله المسيح الدجّال.
أنا الشر الذي لم يرتكبه إبليس.
الصّلاة التي رفعها الكافر، وسهى عنها المؤمنون.
[center]
* * *
[/center]
رفعت عينيّ إليها دامعاً، فواستني، قبل أن ترسلني إلى عالم اليقظة، وقالت لي مودعة :
أنا يدك التي تخرجها في ظلمات بعضها فوق بعض فلا تراها، ولكنّك على يقين أنّها هناك من أجلك، وقتما تحتاج أن تبصر بها.
أنا القبلة التي أرسلتها في الهواء، فحلّقت عاليا، وأبت أن تهبط على جبين أحد.
أنا الشّعرة التي في رأسك ولم تحن عليها يد.
أنا الحبّ الذي يفيض منك تجاه لا أحد.
النّظرة التي أرسلتها ولم تر بها شيئاً.
الصحوة التي أسكرتك ولم تستطع بعدها أن تفيق.
أنا أنت...
حين تتجاوز حدودك، وتحيط بكل شيء، ناسياً من أنت.
[center]
* * *
[/center]
ثم استيقظت.
وأخذت أتساءل عمّا رأيته في غيبوبتي حتّى أتاني الصداع.
- هراء
قلت.
ما سمعته أضغاث أحلام، لا يستحق أن أتذكّره، ولهذا عجزت عن ذلك، عجزت عن تذكّر أي شيء.
أشمّاعة لم يعلّق عليها قميص؟
أم كولا لم يفضّها مفتاح؟
لعلّها سينما لم يدخلها زبون؟
أو إرهابي لم يفجّر نفسه!
أو نشرة لم تقرأها فضائيّة.
لا أذكر.
- هراء
أكّدت لنفسي، وأنا أنتفض من فوق الفراش، لعلّ هذه الكلمة تعزّيني.
لا وقت لتذكّر هراء سمعته في غيبوبة، فالكثير ينتظرني في الخارج.
نهضت بتكاسل، أحك أصابعي في شعري، ثمّ فزعت واقفاً كأنّ مسّا أصابني:
- الكثير ينتظرني لأفعله،
قبل أن ينفخ الملاك في البوق معلناً نهاية العالم.
قبل أن تختلط أصوات الجموع ويفوتني تدوين ما يقولونه.
قبل أن أقفز في الماء فتأكلني الحيتان أو تصيبني حمّى البرد.
قبل أن تأتي حبيبتي لتطالب بهديّة ثمينة.
- الكثير ينتظرني لأفعله،
قبل أن تنفد النّسخة الأخيرة من صكوك الغفران.
قبل أن يصمت كرسيّ الله عن الشّفاعة للعباد.
قبل أن يأتي الطّوفان بلا هوادة ليبخّر البشر.
قبل أن تبصق السّماء سيولها فتفني الحرث والنّسل.
قبل أن يأكلني الدّود، ولا يصنعون لي تمثالاً !
- الكثير ينتظرني لأفعله،
قبل أن يحاسبني الملكان.
قبل أن يرفعوا بصمتي ليزجوا بي في السّجون.
قبل أن يرصدوا اسمي في كشوفات المفقودين.
قبل أن يسمّوا إرثي في إعلان الوفيّات.
- الكثير ينتظرني لأفعله،
كي أنجح في امتحان الرياضيّات والهندسة.
كي أحفر المزيد من الأنفاق.
كيلا يعدمني السلطان قبل أن أطلب العفو.
كيلا يفتنني الدجّال ويتلبّسني إبليس.
كيلا تفوتني الصلوات والقدّاسات.
- الكثير ينتظرني لأفعله،
قبل أن تنقطع الكهرباء فلا أجد دليلاً في الظّلام.
قبل أن تتشقّق شفتاي فيعافون قبلاتي.
قبل أن أخسر شعري أو يدركه المشيب.
قبل ألاّ أجد أحدا أحبّه!
قبل أن يصيبني العمى.
- الكثير ينتظرني لأفعله،
قبل أن أغفل عن نفسي فأنسى من أنا.
[center]
* * *
[/center]
أنسى من أنا؟
أصابتني هذه الجملة الأخيرة برعدة باردة، فقلت مقشعرّا :
لا وقت لتذكّر هراء سمعته في غيبوبة عابرة.
الكثير ينتظر نفسي، مهمّات وملذّات كالجبال. تنتظر نفسي.
- نفسي نفسي ( قلت بفخر غبيّ )
الحقيقة تنتظرني لأبحث عنها. هناك في الخارج.
كلا تضيع.
واندفعت خارجاً بحماقة لا مثيل لها بين الكائنات، لأبحث عن الحقيقة في الخارج.
الحقيقة الضائعة
Albert Camus