أريد أن أتوقف قليلاً مع قضية "التعاطف" ... فمسألة "التعاطف" هذه مهمة جداً. فالديمقراطيات الغربية، وهي أقوى دول العالم وأغناها، يسيّرها "الرأي الشعبي" فيها، وليس قرارات حكامها المتنقلين فقط.
"الرأي الشعبي" هذا هو أساس لأي موقف حكومي من بلد آخر، فحكام الديمقراطيات الغربية لا يستطيعون تجاهل من أوصلهم إلى كرسي الحكم، لأنهم يخشون على مركزهم من منتخبيهم.
حكام الديمقراطيات الغربية يستطيعون أن يروا "مصالحهم" أحياناً تصب في خندق، وآراء شعوبهم تصب في خندق آخر، ويستطيعون أن يتخذوا قراراً بمخالفة ما تريده أغلبية الشعب، ولكنهم سوف يعرضون منصبهم إلى التهلكة، ويضعون حياتهم "السياسية" كلها على كف عفريت، لو اتبعوا ما يحسبونه مصالحهم وتجاهلوا رغبة الأكثرية والرأي العام الشعبي (public opinion). والتاريخ يقول لنا بأن أعتى الرؤوس الغربية تغيرت وفقدت سلطتها عندما لم تستطع استيعاب "الرأي العام الشعبي" في سياستها، أو تخلى هذا الأخير عنها في توجهاته. هكذا رأينا "تشرتشل" – بعدما قاد بلاده إلى النصر في الحرب العالمية الثانية – يخسر في أول انتخابات لرئاسة الحكومة، وهكذا رأينا "ديغول" لا يفهم أجواء "مايو 1968" في فرنسا فينتهي سياسياً. وهكذا رأينا، أمس القريب، "شرودر" يخسر الانتخابات، وقبله "شيراك" يحل "الجمعية العامة الفرنسية" فيضع الشعب "اليسار" في الحكم.
"الرأي العام" في الغرب (ولا أتحدث هنا عن الولايات المتحدة التي تعاني ديمقراطيتها من ألف عيب وثغرة ومرض فتاك) هو "المصلحة الأكبر". عندما تستطيع أن تجده بجانبك فإنه سوف يساعدك كثيراً، بغض النظر عن توجهات الحكام وألاعيب الساسة والسياسيين.
الآن، هناك تحول مستمر خطير يحصل في "الغرب الأوروبي" منذ عقدين وأكثر تجاه القضية الفلسطينية. ولعل الفلسطيني منا، الذي كان يحاذر أمس أن يجهر بفلسطينيته، يلمس هذا عن كثب. وأنا أعلم علم اليقين، بأنني كنت أتململ وأتهيب قبل عشرين سنة لو سألني سائل عن جنسيتي، ولكني اليوم أبتسم وأقول: فلسطيني وألقى قبولاً وبشاشة واستحسانا.
"التعاطف" مسألة مهمة جداً لأنها ليست "قضية سياسية خالصة" لا شأن لها بمجريات الحياة اليومية والعملية. فهذا "التعاطف" الغربي مع القضية الفلسطينية في المرحلة الأخيرة شكل ضغطاً نفسياً على إسرائيل من ناحية، وفائدة "مادية ملموسة" للشعب الفلسطيني من ناحية أخرى. "فالديمقراطيات الغربية" والاتحاد الأوروبي بالذات ضخ "مليارات الدولارات" لأبناء الشعب الفلسطيني من خلال المساعدات المالية المباشرة ومن خلال الاستثمارات العديدة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وما توفره هذه الأخيرة من فرص عمل وتنمية للاقتصاد الفلسطيني وأسس للدولة الفلسطينية الموعودة. هنا، ليس بعيداً عن الموضوع لو أشرنا إلى مفارقة مبكية مضحكة مفادها أن "الاتحاد الأوروبي" ساعد الفلسطينيين، على الصعيد المادي والمعنوي، أكثر بكثير من جميع الأنظمة العربية والإسلامية وخطابها العنتري الفولاذي وأناشيد العودة والانتصارات الوهمية والمعارك الدونكيشوتية التي تعودناها من إعلامها السخيف.
لو خرجنا من الاتحاد الأوروبي ونظرنا إلى "سويسرا"، هذه الدولة الصغيرة التي كانت أمس تدرب الطيارين الإسرائيليين، فإننا نجد عجباً. فأنت لن تجد فقط في هذه الدولة تعاطفاً شعبياً للأكثرية مع الفلسطينيين (طبعاً، لا أتحدث عن أقلية ما زالت على دين "صهيون") ، بل سوف تجد "إعلاماً سويسرياً" منحازاً إلى الفلسطينيين إبان الانتفاضة الثانية، مما شكل أزمة سياسية بين "برن" و"تل أبيب"، ومما دعا "الجالية اليهودية في سويسرا" الى اتهام "الراديو والتليفيزيون السويسري" بعدم الحياد عبر شكاو رسمية حيناً ومن خلال قبة البرلمان حيناً آخر.
ولكن، هذا التعاطف الشعبي من أين جاء حقاً؟
ببساطة، من خلال التخلي عن الخطاب العنتري و"عروته الوثقى"، التي استعصم بها العرب طويلاً و"نجاد" اليوم، وتقديم حقيقة الصراع في الشرق الأوسط بدون رتوش وبدون زيف وكذب ودجل.
لقد انكشفت أمام الأوروبي كذبة "أرض بدون شعب لشعب بدون أرض"، ولم تعد تنطلي عليه خدعة "إسرائيل الحمل الطيب المسكين الذي يريد الذئب العربي نهش لحمه".
من هنا، لو أراد الرئيس الإيراني أن يفيد الفلسطينيين حقاً، فالتشجيع لن يأتي من خلال خطاب يضر الفلسطينيين أكثر مما يفيدهم (ببساطة ، لو قطع الاتحاد الأوروبي مساعداته سنة عن الفلسطينيين فإننا سوف نجوع). فالفلسطينيون لا ينتظرون من "نجاد" أو غير "نجاد" أن يخوض حربهم مكانهم. وهم ،وليس "نجاد" أو غير "نجاد" من حكام العرب المتشدقين بأناشيد حماسية، من يخوض معركة بناء دولتهم. لذلك، فعوضاً من أن يتحفنا الرئيس الإيراني بخطاب يهدد فيه بتدمير الكيان الصهيوني، عليه أن يسكت قليلاً ويذهب إلى برلمانه ويقر مشاريع إغاثة لشعب فلسطين. فما فعله صاحبنا اليوم لا يدخل من باب الدعم بحال، فهو ليس إلا "متاجرة" بالقضية الفلسطينية و"كسب نقاط سياسية" على حساب مأساة الشعب العربي الفلسطيني ونكبته، مثلما فعل الحكام العرب منذ خمسين سنة، حذوك النعل بالنعل.
****
نقطة أخرى:
يقول "علي نور" :
اقتباس:حزب الله استعمل الغطاء الايرانى و حقق انتصارا .
السودان عندما تحالفت مع ايران انتصرت على ستة دول افريقية بالاضافة الى المتمردين فى الجنوب .
فى البوسنة كسر الايرانيون الحظر الدولى و الاوروبى على تسليح المسلمين و تحملوا تبعات ذلك سياسيا و دوليا .
لن أقف طويلاً أمام هذه المزاعم ولكن لي أن أقول: بأن إيران، الدولة الدينية الشيعية، ساعدت "حزب الله"، الحزب الديني الشيعي، كي يجابه اسرائيل. ولكن، كي نسمي الأشياء بمسمياتها، فإن مساعدة إيران لحزب الله يا مساعدة ثانوية بالقياس إلى المساعدة اللبنانية أولاً والسورية ثانياً. فلبنان وسوريا هم من تحملوا مواقف حزب الله وغارات اسرائيل والمجابهة في المحافل الدولية.
السودان لم ينتصر حتى اليوم على أحد. ولم ينتصر حتى على نفسه. فالمجاعات تنهش عظامه، والاستبداد الديني والسياسي يزني بمواطنيه، ولعل أفضل الخطوات التي خطاها اليوم هي سعي "البشير" الى المصالحة الوطنية وتعيين "جون قرنق" (المتوفي اليوم) كنائب للرئيس.
في البوسنة، "يخلف" على الغرب وعلى حلف الناتو، الذي أنقذ المسلمين من فتك الصربيين وعنصريتهم. ولو تركت أوروبا وأمريكا لإيران أو لغير إيران أن تحارب هناك لكان ضحايا "ميلوسوفيتش" اليوم لا يعدون ولا يحصون. فالغرب هو من ضرب "صربيا"، وهو من سحب "ميلوسوفيتش" من أذنيه ووضعه في قفص الاتهام، أما جهود إيران وغير إيران، فهي جهود سخيفة مضحكة لم تحسم يوماً معركة، بل لعلها كانت تصب الزيت على النار عوضاً من انهاء حالة الحرب في البوسنة.
*****
نقطة ثالثة:
يقول "علي نور":
اقتباس:تدمير الكيان الصهيونى ليس بالسلاح النووى بل بالوعى الشعبى و المقاومة التى تجعل مصالح الغرب و الصهاينة غير مستقرة فى فلسطين .
نعم يا خوي؟ ... وعي شعبي ومقاومة؟
ولكن ما شأن إيران بهذا يا صاحبي ؟ وما دخلها بالوعي الشعبي والمقاومة؟ ومَن مِن الفلسطينيين يأخذ أيديولوجيته من إيران؟ وما هو النفوذ الإيراني في فلسطين؟ وما مدى تأثير الصوت الإيراني على الأذن الفلسطينية؟
الجواب: لا علاقة للوعي الشعبي والمقاومة في فلسطين بإيران .. ففي فلسطين لا يعرفون إيران ولم يسمعوا بها حتى اليوم، وليس للدولة الدينية في إيران أي أثر على الشعب الفلسطيني ومن الصعب أن يكون لها أثراً يذكر.
في النهاية، النظام الإيراني بشكله الاستبدادي الديني الطائفي الحاكم اليوم، مشكوك بقدراته على توفير الحماية لنفسه .. وبالكاد. ولعل الأيام تأتينا بمزيد من البراهين لو استتب الأمر لأمريكا في العراق (وأرجو ألا يستتب).
بصدق يا علي .. بعد التمعن في مجريات الأحداث، أرى أن تصريحات "أحمدي نجاد" هي "دليل ضعف" وليست "دليل قوة". فالرئيس الإيراني يتوجس خيفة من المستقبل ويريد – مثلما فعل غيره دائماً – أن يستعمل "الورقة الفلسطينية" عله يربح بعض التعاطف الإسلامي، كي ينقل معركته القادمة الى نطاق أوسع يشمل العرب والمسلمين. إنه يفعل تماماً، كما فعل، "صدام حسين" في حرب الخليج الأولى عندما أطلق صواريخه تجاه "تل أبيب" ... وقديما قالوا: "قد يرقص الطير مذبوحاً من الألم" ...
واسلموا لي
العلماني