{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
الكينونــة والسيــرورة والصيــرورة - د. محمد شحرور
thunder75 غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 4,703
الانضمام: Feb 2002
مشاركة: #1
الكينونــة والسيــرورة والصيــرورة - د. محمد شحرور
منقول عن الكتاب الرابع للدكتور محمد شحرور


كان - سار – صار:

كانت هذه الأفعال الثلاثة، ومازالت، محور الفلسفة، والعمود الفقري لكل الأبحاث الإلهية و الطبيعية والإنسانية،باعتبار أن الكينونة هي بدء الوجود، والسيرورة هي حركة سير الزمن، والصيرورة هي ما انتهت إليه الكينونة الأولى بعد مرورها بمرحلة السيرورة.

فمن "كان" جاء اسم الكينونة والوجود (Da - sein , being). ومن سار جاء اسم السيرورة (Process). وهي حركة سير الزمن (t) الخارجة عن سلطان الفعل الإنساني. ومن " صار " جاء اسم الصيرورة (werden - becoming).

هنا نلاحظ أمراً هاماً، هو التلازم والترابط بين هذه المحاور الثلاثة، بحيث لا وجود لأحدها بعيداً عن الآخر. فالسيرورة من حيث هي حركة زمن تبقى في فراغ إن لم تقع على شيء كائن متحرك يخضع لها، ثم ينتهي ليصير بتأثيرها إلى صيرورة أخرى. والصيرورة لا تكون أبداً مع عدم وجود شيء وقعت عليه السيرورة. وهذا كله يقودنا إلى الجزم بأنه لا وجود بلا تطور، ولا تطور بلا وجود.

انظر معي إلى هذا الشكل الذي تمت صياغته فراغياً للتعبير عن هذه المحاور الثلاثة ضمن نموذج قابل للفهم والتعميم.


من خلال هذه المحاور (الإحداثيات) يمكن مناقشة وفهم الوجود الطبيعي (الكوني)، ويمكن مناقشة وفهم حركات المجتمعات الإنسانية. فالكينونة في الوجود الكوني، هي الوجود المادي الذي يشغل حيزاً من الفراغ، وهي الوجود المادي خارج الوعي الإنساني. والسيرورة هي الزمن(الحركة)، المرتبط بالمادة ارتباطاً لا انفصام فيه، وباعتبار هذا الارتباط بين المادة والزمن، فنحن نقول إن الحركة هي شكل الوجود المادي. إنما يظل هذا الفهم ذا بعدين، مقتصراً على محورين، إن لم نأخذ محور الصيرورة بعين الاعتبار.

وإذا استطعنا نظرياً لتسهيل الدراسة والبحث، الكلام عن محوري المادة والزمن(الكينونة والسيرورة)، فنحن قطعاً لا نستطيع ذلك عملياً و فعلياً. إذ ثمة بعد ثالث ينتج عن الارتباط اللامنفصم بين المادة والزمن، هو التطور والتحول من "كان" في حالة اولى، الى "صار" في حالة ثانية. ولو أن الوجود اقتصر على محوري الكينونة والسيرورة دون تطور وصيرورة لثبت الوجود على شكل واحد جامد لا تنوع فيه، ولانتفت ظاهرة الموت. لأن الموت صيرورة تنتج عن تغير في كينونة الكائن الحي، تغيراً يطال طبيعة وجوده المادي، أما الكائنات غير الحية فالتغير فيها يقتصر على الشكل. وهذا ما عبر عنه تعالى بقوله عز من قائل {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ...

ونخلص إلى القول بأن محوري الكينونة والسيرورة كشكل مستوٍ يمثلان الوجود بمركباته، أما محور الصيرورة فيمثل التطور والتحول في هذا الوجود، وهذا ما نراه واضحاً جلياً منذ لحظة الانفجار الكوني الأول، حيث ظهرت الفوتونات فقط، ثم تحول قسم منها إلى هيدروجين، ثم إلى هيليوم، ثم إلى عناصر رئيسية، تجمعت لتنتج مركبات غير عضوية، ثم مركبات عضوية، ثم كائنات حية بأبسط صورها(واحدات الخلية).. إلى أن ظهر البشر على الأرض، ثم الإنسان، وما زال هذا الكون بكينونته وسيرورته في مرحلة صيرورة مستمرة لا تتوقف.

فإذا أخذنا محوري الكينونة والصيرورة، نتج لدينا مستوي لا سيرورة فيه، تندمج فيه كينونة المادة بصيرورتها دون سيرورة، أي دون حركة وزمن، ويفقد الزمن تأثيره ومعناه المعروف، ليصبح الوجود أشكالاً وقوانين ثابتة لا تتغير ولا تتطور ولا يطالها الهلاك. وهذا ماعبر عنه تعالى في التنـزيل الحكيم بمفهومي الجنة والنار، حيث الثبات والخلود، وحيث للزمن معنى آخر غير معناه الذي نعرفه به. وذلك واضح في كثير من آيات الذكر المبين أبرزها قوله تعالى:

{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ...

وإذا ما نظرنا في وصف الجنة والنار كما وردت في التنـزيل الحكيم، رأينا فيه معنى الثبات والديمومة واضحاً، أي أن هناك كينونة وصيرورة بلا سيرورة:
وجود ــ ثبات الموجود..........ظاهرة ـــ ثبات الظاهرة

لكن هذا يتطلب علاقة جديدة بين المادة والزمن، وشكلاً جديداً من أشكال الوجود المادي، نجدهما في التنـزيل الحكيم تحت عنوانين هما قيام الساعة ونفخة الصور.

فنفخة الصور تسريع في سيرورة كينونة هذا الوجود باتجاه صيرورة ينشأ على أنقاضها كينونة جديدة لا سيرورة لها، وهذا هو الهلاك الذي حكت عنه آية القصص 88، فالهلاك هنا لا يعني العدم، وإنما يعني هلاك صيرورة الأشياء السابقة ونشوء صيرورة جديدة ثابتة.

هنا يمكننا أن نخلص إلى القول بأن محور الصيرورة يمثل المفهوم الأساسي للوجود وهو الغائية. ونفهم أن الغاية من الانفجار الكوني الأول (big bang) في صيرورته النهائية هي الانفجار الثاني المتمثل بنفخة الصور الأولى.

ونفهم أخيراً أن أي كينونة بلا صيرورة هي وجود بلا غاية و لا حكمة ولا هدف.

أما إذا أخذنا محوري السيرورة والصيرورة نظرياً فقط مع ثبات الكينونة (ولنقل النقطة A على محور الكينونة) بدا لنا وبكل وضوح استحالة ذلك عملياً. فالسيرورة حركة وزمن، ومحورها يفقد معناه في حالة ثبات المتحرك (أي النقطة A تبقى A) والصيرورة غاية ومنتهى، أي النقطة A تصبح A` وهنا يكمن قانون الجدل الأساسي وهو قانون النفي ونفي النفي أي أن A هي A وهي ليست A وهذا هو قانون صراع المتناقضات الداخلي لذا لا يمكن الحديث عن الصيرورة والسيرورة إلا بشيء (كينونة) تتلبس به الصيرورة.

فاللون الأحمر يوجد في شيء يتلبس به، طربوش/ حذاء/ وردة… الخ.
والتنـزيل الحكيم لم يفصل البتة بين هذه المحاور الثلاثة، لا بل لعله أثبت تلازمها اللا منفصم، كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} الحج 5. وكما في قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ} الرعد 4.

فالكينونة في آية الحج 5 واضحة في قوله تعالى (خلقناكم من تراب).
والسيرورة واضحة أيضاً في انتقال وتحول التراب إلى ماء (نطفة). والصيرورة واضحة بدورها في انتهاء التراب ليصير ماء، لتبدأ بعدها سلسلة أخرى تصبح فيها النطفة كينونة تتحرك بها سيرورتها لتصير علقة، لتبدأ بعدها سلسلة ثالثة تتحول العلقة فيها إلى مضغة.. وهكذا.

نخلص بعد هذا كله، إلى أننا أمام الحالات التالية لهذه المستويات الثلاثة:

1- الكينونة (الوجود) والسيرورة (الزمن) بلا صيرورة:.

لقد نصت آيات القرآن الكريم على أن من لا يؤمن ببعد الصيرورة فقد كفر بالله، منها ما نجده في قوله تعالى: {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا،وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} الكهف (36-39).

لقد نفى الرجل الأول محور الصيرورة عن جنته، إذ دخلها وهو ظالم لنفسه قائلاً: لا أظن أن تبيد هذه أبداً، فنفى بذلك قانون " كل شيء هالك إلا وجهه"، ونفى بذلك قيام الساعة فكفر باليوم الآخر، والكفر باليوم الآخر يستلزم الكفر بملك هذا اليوم ومالكه، تماماً كما أن الإيمان به يستلزم الإيمان بهما معاً. ومن هنا جاء رد صاحبه عليه متسائلاً مستنكراً: أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلاً؟ أأنكرت محور الصيرورة الذي جعلك ما أنت عليه الآن؟ ألم يجعلك الله من تراب.. ثم تحول التراب إلى ماء تحول بدوره إلى صيرورة ثانية فثالثة فرابعة فعاشرة لتنتهي إلى رجل سوي منتصب على قدمين؟ فكيف تنكر محوراً أنت الآن نتيجة من نتائجه وغاية من غاياته، وتنكر أن يطال جنتك هذه التي تتوهمها باقية خالدة؟

2- الكينونة (الوجود) والصيرورة (التحول) بلا سيرورة (زمن): وهو يعني التحول من الكينونة إلى الصيرورة دون حركة وزمن، ويعني قيام الساعة. ونلاحظ أن مستوي هذين المحورين (الكينونة والصيرورة) دون محور سيرورة، لا وجود له في الطبيعة إلا في الضوء. فالضوء عبارة عن فوتونات وأمواج، وله صفة إيجابية واحدة هي أنه ينير ولا ينار، بمعنى أنه لا يوجد فوتون نسلط عليه الضوء لأنه هو الضوء بذاته. فالفوتون كينونة وصيرورة فقط بلا سيرورة، فهو إما موجود أو غير موجود، لأن الزمن في عالم الضوء يساوي الصفر، ولأن كل جسم يسير بسرعة الضوء يصبح ضوءاً وتنعدم قيمة الزمن بالنسبة لهذا الجسم
(t = 0).

(مستوي الكينونة والصيرورة بلا زمن موجود في الضوء فقط لأن الضوء هو العنصر الأول الذي تشكل في الكون لحظة الانفجار وبدأت به الصيرورة الكونية حيث تشكل من الفوتونات العنصر الأول في الوجود وهو الهيدروجين وبعد تشكل الهيدروجين ظهر النور لأن الهيدروجين قابل لأن ينار، فالضوء لا يخضع للمتبدل والمتحول فهو إما موجود أو غير موجود، وليس له في وجوده الإ شكل واحد، سرعته الثابتة هي غائيته. وكل جسم يسير بسرعة الضوء يصبح ضوءاً، واصلا إلى غائيته النهائية.)

3- السيرورة (الزمن) والصيرورة (التحول والغائية) بلا كينونة:
في هذا المستوي يظهر قانون صراع المتناقضات في ذات الشيء، فهو ذاته وغير ذاته في آن معاً، وهذا هو قانون النفي ونفي النفي الكامن وراء الغائية. أي أن الانفجار الكوني نفى ما قبله، عدماً كان أو غير ذلك. وقيام الساعة ونفخة الصور نفي لهذا النفي الأول، واليوم الآخر والبعث نفي لهذا الكون، الذي سينتهي إلى وجود لا صيرورة فيه، هو الغائية في ذاته، فيبطل مفعول قانون صراع المتناقضات هذا بانتهاء محور الصيرورة ووصوله إلى غايته النهائية. أما في هذا الكون فقانون النفي ونفي النفي هو القانون الأساسي الذي تكمن فيه الغائية، الموجود في ذات الكون منذ لحظة الانفجار الأول وحتى الانفجار الكوني الثاني.

إن من يهمل هذا القانون يقع في مطب السكون والسكونية، أي في الشرك والكفر، لأنه ينكر اليوم الآخر والبعث وقيام الساعة. وقد طرح الفكر الماركسي مفهوم المجتمع الشيوعي كبديل لمفهوم اليوم الآخر وقيام الساعة ونفخة الصور، لكنه غفل عن أن هذا لا يمكن أن يحصل إلا بعملية نفي للوجود المادي ذاته، هذا النفي الموجود في ذات المادة منذ لحظة الانفجار الكوني الأول، ليحل محله وجود مادي جديد بقوانين مادية جديدة يبعث فيه الإنسان، وهذا نفي لهذا النفي. إذ كيف يمكن إيجاد مجتمع إنساني غائي في ذاته، وظاهرة الموت ما زالت موجودة؟

لقد شرحنا آنفاً كيف أن الضوء هو الموجود الوحيد الغائي في ذاته، لذا قال تعالى في هذا المضمون {الله نور السموات والأرض} فكيف نتصور مجتمعاً إنسانياً يتحول إلى مجتمع ضوئي غائي في ذاته، توقف وانتفى عنده محور الصيرورة التاريخية، وما زال مع ذلك يخضع للسيرورة والهلاك و الموت؟(5)

لقد تصور الإنسان سابقاً مجتمعاً ضوئياً، أفراده كائنات نورانية غائية في ذاتها هي الملائكة، ثم جاءت الماركسية لترسم مجتمعاً الغائية فيه دنيوية ملائكية، لا جدل فيه ولا تناقضات، وغفلت عن أن هذا الكون نفسه قائم على الجدل والتناقض، وعن أن عمل الفكر هو إزالة التناقض. مما ينتج عنه أن المجتمع الشيوعي كما رسمه ماركس وأصحابه، مجتمع تصوري طوباوي بحت غير قابل للتحقيق.

إن غاية التاريخ الإنساني عند الماركسية هي الصيرورة الإنسانية، كنهاية التاريخ في المجتمع الشيوعي. والفكر الشيوعي بدلاً من أن ينفي التاريخ ذاته، نفى الإنسان ذاته، رغم أنه موجود فعلاً، ونفى الحرية بدلاً من أن ينفي التاريخ، فسقطت الحرية الإنسانية بشكل لا مثيل له.

أما التنـزيل الحكيم فكان في هذا منسجماً مع نفسه تماماً، ومع الوجود المادي، لكونه وحياً من خالق الوجود وخالق الجدل وخالق الغائية، وهو الدليل النظري الوحيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

فحياة الإنسان وحريته ورفاهيته غاية دنيوية، والجنة غاية أخروية، والخير والشر مرتبطان بشكل لا انفصام فيه، لا ينفي أحدهما الآخر بل يتصارع معه، وهذا مربوط بظاهرة الموت. أي أن وجود جدل الإنسان ووجود الكون مرتبط بوجود ظاهرة اسمها الموت، واقرأ معي قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (الانبياء 35). ونفهم أن الغائية التي يرسمها التنـزيل الحكيم للوجود الكوني المادي هي الساعة والصور والبعث، وأن الغائية الدنيوية للانسان هي الحياة والحرية، وأن الغائية الأخروية له هي الجنة.

فإن قال قائل: إن قانون النفي ونفي النفي لا ينسجم مع ما يقرره المنطق من أن A هي A وأن B هي B وأن الشيء لا يمكن أن يكون A وB في آن معاً، بينما نراك تقول أن A هي A وغير A في آن معاً، فكيف ذلك؟

نقول إننا عندما شرحنا الاحتمالات الثلاثة:
1 ـ الكينونة + السيرورة بلا صيرورة.
2 ـ الكينونة + الصيرورة بلا سيرورة.
3 ـ السيرورة + الصيرروة بلا كينونة.

بدأنا القول بتلازم المحاور الثلاثة تلازماً لا انفصام فيه، وافترضنا أن ثمة من يخالفنا في هذا التلازم، الأمر الذي يقتضي منه الأخذ بأحد احتمالات ثلاثة لا رابع لها، حاولنا أن نشرح استحالة الأخذ بها والركون إليها.

فحين أخذنا الاحتمال الثالث مثلاً، القائل بوجود مستوٍ من محوري السيرورة والصيرورة بلا كينونة، أخذناه من باب الفرض النظري، وألمحنا الى استحالة وجود مستوٍ من هذا النوع في حيز الواقع.

لقد عزلنا محور الكينونة لنبين أن قانون النفي ونفي النفي، وهو الأساس في قانون الجدل، قانون صاعد إلى الأعلى، وهذا لا يتضاد مع منطق الهوية والماهية، باعتبار أن المنطق هو قوانين العقل الإنساني، إذ يبحث في ماهيات الأشياء والظواهر وعلاقات العناصر بعضها ببعض. فهو يبحث في قانون السببية، وعلاقة المقدمة بالنتيجة، وعلاقة النتيجة بالمقدمة.

ومن هنا فالنتائج المنطقية قد تكون صادقة وقد تكون كاذبة، والمعيار الكاشف لها هو الكون والوجود والواقع.

ولما كان المنطق كما قلنا، يبحث في ماهيات الأشياء والظواهر، فإن محور الكينونة فيه محور أساسي لا يعمل المنطق في حال عدم وجوده. لا بل من الصواب أن نقول إن المنطق لا يعمل إلا بوجود المحاور الثلاثة مجتمعة. ولابد ليعمل المنطق بقوانينه من وجود كائن ما على محور السيرورة (t) في إحداثية محددة، وفي وضعية معينة (نقطة واحدة) من محور الصيرورة. ومن هنا نخلص إلى القول بأن قوانين المنطق لا يمكن لها أن تحل محل قوانين الجدل. لأن قوانين المنطق هي قوانين العقل، أما قوانين الجدل فهي قوانين الوجود الموضوعي.

وقوانين العقل تقوم على مبادئ الهوية والماهية وعدم التناقض وتنتهي إلى أن A هي A وB هي B، لأنها أخذت نقطة واحدة كائنة على نقطة بعينها من محور السيرورة في نقطة بعينها من محور الصيرورة، وهذا كله لا يتناقض مع قوانين الجدل التي يقتصر حقلها في مجال البرهنة على الغائية والتطور والتحول، في حين يقتصر حقل المنطق على تحليل الظواهر بعناصرها المختلفة مستنداً إلى قوانين الهوية والماهية وعدم التناقض.

ولابد أخيراً من توضيح أن القول بالتناقض بين قوانين الجدل وقوانين المنطق، قول خاطئ من أساسه، لأن الجدل قانون، أما المنطق فهو مجموعة قواعد للعقل تعصم عن الخطأ وأولها قانون عدم التناقض.

فإن قال قائل: فأين قانون الزوجية (التأثر والتأثير المتبادل) وقانون الأضداد؟ نقول: هو في الفراغ. فعندما نأخذ ظاهرة ما على محاور الكينونة والسيرورة والصيرورة، تظهر قوانين الأضداد في الظواهر، وقوانين الأزواج في العلاقات بين الأشياء بعضها مع بعض. أي أن قانون النفي ونفي النفي موجود في ذات الوجود، أما قوانين الأزواج والأضداد ففي الأشياء المختلفة والظواهر المتباينة.

فإن قال قائل: إذا كان قانون النفي ونفي النفي هو حقل الصيرورة والغائية، وإذا كان الكون قد بدأ، بحسب قولك،من الفوتونات ثم من عنصر الهيدروجين، الذي تغيرت صيرورته الى عناصر أخرى، فكيف تفسر وجود الهيدروجين الآن؟ ولماذا لم تتغير صيرورته؟ ولماذا لم يتحول كل الهيدروجين الموجود إلى عناصر أخرى؟ أليس الأصح أن نجد الكون اليوم كله أورانيوم لو كان ما تقوله صحيحاً؟

أقول: الصيرورة زمرتان، صيرورة تراكمية وصيرورة تطورية. ومن هاتين الزمرتين نشأ التدرج ثم التنوع الدرجي ضمن النوع الواحد، إذ لولا هذا التدرج لأصبح العالم أحادياً ساكناً، ولاختفت منه الصيرورة ذاتها. لأن محور الصيرورة هو محور الدرجية. والأمر كما نراه أشبه ما يكون بالألوان، فللأحمر عشرات الدرجات في الكون، وللأصفر عشرات، وللأزرق عشرات، وكذلك بالنسبة للإنسان والبشر. فلو اختفت كل مراحل السيرورة والصيرورة بزمرتيها التراكمية والتطورية في الكائنات الحية، لأصبح الإنسان هو الكائن الوحيد الحي الموجود على ظهر الأرض، تندمج فيه الصيرورة بالسيرورة والكينونة، ولصار الإنسان إلهاً.

إن في هذا رداً على كل من يتساءل جاداً أو هازلاً، لماذا لم تتطور كل المخلوقات بنفس الدرجة؟ ونضيف: إن الصيرورة سلم تراكمي من المستويات، وليست مستوي واحداً متحركاً، ولو كانت كذلك لنفت ذاتها، ولانتفت الغائية من الوجود كله، ولانتفى الإله نفسه. وهذا ينقلنا الى البحث في مفهوم الإله من خلال محاور الكينونة والسيرورة والصيرورة.




المصدر :

الكينونــة والسيــرورة والصيــرورة

05-18-2005, 10:15 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
thunder75 غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 4,703
الانضمام: Feb 2002
مشاركة: #2
الكينونــة والسيــرورة والصيــرورة - د. محمد شحرور
05-18-2005, 10:22 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
thunder75 غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 4,703
الانضمام: Feb 2002
مشاركة: #3
الكينونــة والسيــرورة والصيــرورة - د. محمد شحرور
قوانين الجدل الأربعة التي تحكم العالم ((المادة و المجتمعات الإنسانية)) - د. محمد شحرور


[SIZE=4]..........ويقوم الجدل على الثنائية. والثنائية على أنواع :

1-.

2-.

3-.

4-.

وقد لا ينتهي جدل النقيضين في الدماغ عن طريق إصدار حكم، فيتم حينئذ تغليب عاطفي "غير عقلي" لأحدها على الآخر "ويظهر ذلك مثلاً في التغلب العاطفي للحب على الكراهية أو بالعكس". ويتجلى بهذا جدل النفس الإنسانية.

وسنبدأ بالحديث عن الجدل المادي الداخلي "جدل هلاك شكل الشيء باستمرار"، ثم عن الجدل المادي الخارجي "جدل تلاؤم الزوجين"....الخ

انتهى الإقتباس.

منقول عن كتاب ((الكتاب و القرآن)) د. محمد شحرور


تلخيص المحتوى أعلاه
أنواع الجدل :
1- جدل هلاك شكل الشيء باستمرار.
2- جدل تلاؤم الزوجين.
3- جدل تعاقب الضدين.
4- جدل الفكر الإنساني.





05-18-2005, 10:48 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
thunder75 غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 4,703
الانضمام: Feb 2002
مشاركة: #4
الكينونــة والسيــرورة والصيــرورة - د. محمد شحرور
Up
07-22-2005, 12:35 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  موجز كتاب تجفيف منابع الإرهاب للدكتور محمد شحرور عمر أبو رصاع 3 1,220 01-03-2009, 07:43 PM
آخر رد: عمر أبو رصاع
  لقاء الشرفة مع الدكتور محمد شحرور thunder75 6 1,751 04-19-2007, 05:14 PM
آخر رد: فلسطيني كنعاني
  فاطمة" الاستشهادية المسنة نفذت مشروعها(اللهم صل على محمد و ال محمد) على نور الله 1 979 11-24-2006, 07:54 PM
آخر رد: على نور الله
  مجاهد فلسطيني (... ....) يعلق على مقتل محمد طه محمد أحمد الاعصار 1 958 09-09-2006, 08:33 AM
آخر رد: الاعصار
  المناظرة بين فرج فودة و الشيخ محمد الغزالي و المستشار مأمون الهضيبي و محمد أحمد خلف الله إبراهيم 19 7,845 06-16-2006, 06:13 PM
آخر رد: إبراهيم

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS