الجنرال» المجنون الأكثر عقلانية

ميشال عون.. المغامر الذي لم يوفر عدوا يعود «متصالحا مع نفسه»

بيروت: ثائر عباس
سقطت التهم القانونية الموجهة للعماد ميشال عون كأوراق الخريف صفراء باهتة. وما أبعد اليوم عن البارحة، فالجنرال الذي غادر لبنان منفياً الى فرنسا في اغسطس (آب) 1991 بعد 11 شهراً مضنية قضاها لاجئاً في السفارة الفرنسية في بيروت اثر سقوط حكومته العسكرية، يعود غداً في الخامسة والثلث مساء معززاً مكرماً، حيث سيلقى استقبال الأبطال في ساحة الشهداء في وسط بيروت. و«الجنرال»، الذي يصف نفسه بـ «حامل الميدالية الفضية» في الإبعاد بعد نيلسون مانديلا، يعد من اكثر الشخصيات اثارة للجدل في لبنان. وصفه معارضوه بـ «المجنون» ثم وصفوه بـ«المبدئي»، لكن خطابه السياسي الأخير كان «الأكثر عقلانية» بين القوى السياسية الفاعلة على الساحة اللبنانية، اذ دعا الى مشاركة المعارضة في الحكومة وعدم التصعيد الداخلي واعتبار سلاح «حزب الله» قضية داخلية، في الوقت الذي كانت فيه بعض أطراف المعارضة تدعو الى المقاطعة والتصعيد. ولا يوجد الكثير من الكلام حول شخصية العماد عون، وهو من مواليد بلدة «حارة حريك» بضاحية بيروت الجنوبية 1935، فهذا العسكري المتشبث بمواقفه حتى العناد، أب لثلاث بنات تزوجن في فرنسا وعدن الى لبنان، أما زوجته ناديا فهي متضامنة مع زوجها ولم تفارقه منذ مغادرته بيروت منفيا. لم يكن للعماد عون اي تاريخ «سياسي» قبل تسلمه رئاسة الحكومة في سبتمبر (ايلول) 1988 عندما اصدر الرئيس اللبناني آنذاك أمين الجميل مرسوماً قضى بتعيين عون، الذي كان آنذاك رئيسا للجيش، رئيساً لحكومة عسكرية تتولى السلطة بعد الفشل في تأمين انتخاب رئيس جديد للبلاد بسبب خلافات سياسية بين القوى اللبنانية منعت التوافق على اي اسم. وكان الوضع غير مألوف، اذ ان التقسيمة تقضي بأن يكون رئيس الحكومة من السّنة، كما ان الحكومة السابقة برئاسة سليم الحص (كان رئيس حكومة بالوكالة بعد اغتيال رشيد كرامي الذي استقال قبل اغتياله 1985)، ظلت بدورها في السلطة، وكانت هذه هي الفترة التي شهد فيها لبنان حكومتين في آن واحد. شاءت هذه الظروف ان يكون «الجنرال» في «فوهة المدفع»، ولأنه «لا يخشى المواجهات»، فقد اندفع في ما سماه كثيرون «مغامرة» عندما قبل رئاسة الحكومة العسكرية واستمر فيها رغم استقالة نصف اعضائها المسلمين فور اعلانها احتجاجا عليها بسبب تحالفهم مع سورية التي كان بينها وبين عون من العداء ما يكفي ويفيض. (عون تولى رئاسة الحكومة العسكرية ويده مصابة بجروح في معارك ضارية بينه وبين الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، الموالي لسورية آنذاك، في جبل لبنان). كتب لعون ان يواجه خلال السنتين اللتين قضاهما في رئاسة الحكومة، الكثير من التحديات، بعضها «داخلي» اي داخل المناطق المسيحية متمثلاً في «القوات اللبنانية» التي يتزعمها سمير جعجع أحد القادة المسيحيين البارزين، اذ تصادم عون وجعجع بعدما سعى عون الى اعادة سيطرة الدولة على المناطق الشرقية المسيحية التي كان لجعجع فيها نفوذ كبير منذ سنوات الحرب الأهلية. وكان الاشتباك الاول بين عون وجعجع في يناير (كانون الثاني) 1989، وسرعان ما تحول الاشتباك الى معارك واسعة كانت الاكثر دموية في تاريخ لبنان الحديث سقط خلالها مئات الضحايا بعدما اصطدمت القوتان الاكثر تنظيماً في لبنان ودمرت المناطق الشرقية المسيحية بشكل واسع. غير ان هذه المواجهات توقفت لاحقا لتندلع «حرب التحرير» التي خاضتها الحكومة العسكرية برئاسة عون ضد القوات السورية. وخلال هذه الحرب تحالفت الاحزاب والقوى المسيحية ومنها «القوات» بزعامة جعجع مع عون. غير ان «الجنرال» العنيد الذي لا يعرف المساومات، لم يستطع ان يواصل جمع القوى المسيحية تحت عباءته، اذ ان بعض هذه القوى سرعان ما انقلب عليه لاحقاً عند التوصل الي اتفاق «الطائف» الذي رفضه «الجنرال» وقبلته «القوات» بناء على نصائح اميركية. اما عون الذي لم يكن مستمعاً جيداً لـ «النصائح» الأميركية، فكانت علاقته بالسفير الاميركي في بيروت ديفيد ساترفيلد (نائب مساعد وزيرة الخارجية حالياً) مضرب المثل في التوتر، اذ قال عون انه رفض عرضاً اميركياً بأن يكون رئيساً للبنان تحت الوصاية الاميركية، فكان رد ساترفيلد «ليذهب عون الى الجحيم».
ايضا خلال سنوات ترأسه الحكومة لم تكن علاقات عون بالكنيسة المارونية جيدة، فالجنرال العلماني التوجه، يقول انه مسيحي ولو لم يمارس بعض الشعائر، لكنه «يفصل السياسة عن الممارسة الدينية». وكان غطاء البطريركية المارونية لـ «القوات اللبنانية» أحد الاسباب الرئيسية للجفاء الذي حكم علاقة عون بالبطريرك الماروني نصر الله صفير، والتي ترجمت ذات مرة باقتحام متظاهرين من أنصار عون مقر صفير وإجباره على تقبيل صورة الجنرال. يومها غادر البطريرك الى منطقة الديمان بشمال لبنان التي تسيطر عليها القوات السورية طلبا للحماية. اذا لم يوفر عون «عدوا» خلال تلك السنوات: المسيحيون المعارضون لمد نفوذ الجيش الى مناطق نفوذهم مثل جعجع، والكنيسة المارونية، والمسلمون الموالون لسورية مثل جنبلاط، والسوريون انفسهم، وذلك بالرغم من ان معارضي عون يقولون انه بعث برسالة الى الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد يقول فيها انه يتشرف بأن يكون ضابطاً صغيراً في جيشه. وسط هذه الاجواء، اعطت الولايات المتحدة مباركتها لعملية عسكرية قادتها القوات السورية للاطاحة بعون في 13 اكتوبر (تشرين الاول) 1990، وغضت اسرائيل حينها الطرف عن «الخطوط الحمر» المتفق عليها، فدخلت الطائرات السورية وضربت مواقع الجيش اللبناني، مما اضطر عون الى اللجوء الى السفارة الفرنسية في الحازمية بشرق بيروت حيث بقي هناك 11 شهراً انتهت باتفاق فرنسي ـ لبناني على مغادرة عون الى فرنسا لمدة 5 سنوات يتعهد خلالها بعدم القيام بأي عمل سياسي، كما اشترط الجانب اللبناني يومها بقاء عون في مكان بعيد عن باريس لإبعاده ما أمكن عن الجالية اللبنانية هناك.
غادر عون بيروت، وبقي انصاره فيها يرددون شعارهم المعروف «عون راجع» ويتعرضون لمضايقات سياسية وأمنية واسعة، حتى بلغ عدد الذين استدعوا الى المراكز الأمنية 15 الف شخص خلال 15 سنة منذ تاريخ اطاحته، تراوحت عقوباتهم بين «استضافتهم على فنجان قهوة» لتوصيل الرسالة، وبين السجن من سنة الى نحو 5 سنوات. وقد حمل العماد عون، منذ ذلك التاريخ، شعار رفض «الوصاية السورية» وبقي طوال فترة اقامته في فرنسا متفائلاً بزوال «الاحتلال السوري» الذي كان قضيته الرئيسية، بل الوحيدة. فعون يقول انه لا يرفض اتفاق «الطائف» في شقه الاصلاحي (توزيع السلطة بين المسلمين والمسيحيين)، كما انه منفتح على القوى السياسية المختلفة معه، ودخل في مفاوضات انتخابية جادة مع «حزب الله» (يتقاسم تيار عون المجلس البلدي في «حارة حريك» مع «حزب الله» بعد توافقهما في انتخابات 2004). ايضا شهدت علاقته بالولايات المتحدة تحسناً لافتا، غير ان علاقته بسورية ظلت كما هي، فهو لم يتراجع قيد أنملة عن موقفه الرافض لوجودها في لبنان. وبالرغم من ذلك التاريخ الصدامي الحافل، إلا ان علاقة السلطة اللبنانية بعون تتسم بشيء من الغرابة، فالاتصالات السرية لم تنقطع منذ مغادرته لبنان والموفدون اليه هم اكثر من ان يحصوا خلال السنوات الـ 15. ورغم ذلك، كان كلما قرر عون العودة الى البلاد اذا بملفه القضائي يظهر، اذ ادعي عليه اولاً بجرم الاستيلاء على اموال للدولة أمام محكمة الجنايات، ثم ادعي عليه بجرم الادلاء بشهادة أمام الكونغرس الأميركي خلال مناقشة قانون محاسبة سورية. وكان الملفان يتحركان في كل مرة يتحدث فيها عون عن عودته وآخرها العام الماضي حيث تم اصدار مذكرات توقيف غيابية بحقه. لكن الغريب ان جواز سفر عون الدبلوماسي الذي اعطي له كرئيس للحكومة وقائد للجيش لم يسحب منه يوماً، بالعكس فقد جدد اول مرة 1998 وما يزال تجديده يتم روتينياً، وقد استعمله لدى مغادرته الى واشنطن أخيرا. تغيرت الكثير من الظروف خلال اقامة عون الجبرية في باريس، فأعداء الامس زاروه واحداً تلو الآخر، البطريرك صفير، والنائب والزعيم الدرزي وليد جنبلاط وغيرهما. وحده سمير جعجع لم يزره لانه قابع في سجن وزارة الدفاع منذ 11 سنة، غير ان تيار جعجع ما زال يتصادم مع تيار عون في الساحة المسيحية منذ مغادرة الجنرال، سواء في الانتخابات الطلابية او النقابية وحتى في التجمعات السياسية، كما حصل اخيراً في المخيم الذي اقامته قوى المعارضة وسط بيروت.
فخلافات التيارين، ما تزال عميقة رغم «مرور الزمن» ورغم تقاسمهما القمع السياسي الذي مارسته السلطة، وهذا هو ربما ما تراهن عليه القوى المتحالفة مع سورية في السلطة اللبنانية في تسهيلها لعودة الجنرال، املاً في عودة اصطدام المشروعين العوني والجعجعي. فأي خلاف سيصب في صالح الموالين لانه سيضعف المعارضة. وكان عون قد قال في مقابلة صحافية اجريت معه أخيرا انه يكره شعارات تيار جعجع «لانه يشبه الخنجر»، لكن عون قال عشية عودته انه يأتي الى لبنان «متصالحاً مع نفسه ومع الآخرين». هذا التناقض هو نفسه التناقض التاريخي الذي عاشته لبنان طوال ثلاثين عاما الماضية; التناقض بين الموقف المبدئي والمصالح العملية.

جريدة الشرق الأوسط