التخلف المقدس
الزملاء الأعزاء .
تحية طيبة .. هذا موضوع جديد و يسعدني مشاركة أكبر عدد من الزملاء ( الجادين ) .
قبل أن أسترسل في هذا الشريط أريد أن أعيد تأكيد حقيقة أعتقد فيها بشكل كبير ؛ هي أن الإسلام كغيره من العقائد الكبرى عبارة عن مجموعة متنوعة -إلى درجة التعارض أحيانا- من التقاليد الثقافية التي تخلقت خلال فترة زمنية طويلة ، و في أحضان شعوب شديدة التنوع عرقيا و ثقافيا ، هذا التنوع عبر عن نفسه في نماذج إسلامية متصارعة مختلفة في درجة تفتحها و تطورها ، و لكننا الآن نواجه نموذجا إسلاميا منتصرا بالفعل ، هو النموذج الوهابي السلفي بدرجاته المتراوحة من اللون الأسود إلى شديد السواد ، هذا النموذج هو موضوعي ، فنحن لا نتجادل في عقائد بل في ثقافة ذات خطاب ديني ، هذه الثقافة تحمل من بداوة الجزيرة و تصحرها الروح و القلب و الوجدان .
في لقاء متلفز أكد أستاذ تاريخ الفكر الإسلامي محمد أركون، أن هناك نوعان من الجهل، النوع الأول هو الذي سماه ب «الجهل المقدس» كما جاء في كتاب المفكر الفرنسي أوليفي روا Olivier Roy، أي كيف نقدس الجهل؟ وأن المجتمع هو الذي أدى بالفاعلين الاجتماعيين إلى تقديس الجهل ، وكيف أن الخطاب الاسلامي الجاري والغالب في مجتمعنا يكرر عقائد دوجمائية ، دون أن يخضعها إلى تحليل تاريخي . هذا الحديث أوحى لي بعنوان هذا الموضوع وهو " التخلف المقدس " ،و كيف أن المجتمع يدفع صناع المجتمع و مديريه إلى إدامة التخلف بوضعه موضوع القداسة .
في اعتقادي الذي عبرت عنه دائما أن التخلف منظومة متكاملة ، فلا يمكن عزل التخلف في المجالات العلمية و السياسية التكنولوجية و الإجتماعية عن التخلف الثقافي . و يقول (جيمس وودورد James W. Woodward) أنه عندما تتغير الظروف المادية ، تحدث تغيرات موازية في الثقافة التي تستوعب تلك التغيرات ، و لكن هذه التغيرات الثقافية لا تتزامن مع التغيرات المادية المسببة لها ،و لكنها تتخلف عنها ، هذا التخلف هو ما يطلق عليه التخلف الثقافي أو "culture lag" ، و بالتالي فمصطلح التخلف الثقافي يستخدم للدلالة على التأخير في ترجمة التغير في الثقافة المادية إلى تغير في القيم و المعايير و الأساليب اللامادية التي تتحكم فيها. عالم آخر هو أوجبيرن Ogburn يقول أن التخلف الثقافي هو ظاهرة طبيعية في المجتمعات المنتجة للتكنولوجيا ، فالثقافة المادية تميل للتطور السريع المستمر ، بينما تميل الثقافة اللامادية إلى المحافظة و الثبات ،نتيجة هذا التناقض في طبيعة الثقافتين يصبح تبني التكنولوجيا الحديثة و توظيفها في حياتنا أكثر صعوبة . هكذا نجد أن التخلف الثقافي يخلق مشاكل كبيرة للمجتمع ، فبينما تتيح لنا التكنولوجيا الحديثة أفاقا كبيرة للتقدم ، يؤدي التخلف الثقافي إلى عدم وجود الإجماع الضروري اللازم للإستفادة من التقدم التكنولوجي . الأمر في المجتمعات الإسلامية أكثر تعقيدا بما لا يقارن ، فهي لا تنتج التكنولوجيا و لكنها تستهلكها ، و بالتالي فالعقلية التي تنتج قيما جديدة للتأقلم مع التكنولوجيا غير موجودة ، و هكذا تبدوا القيم العصرية كلها غريبة و نتاج مجتمعات أخرى يراها المسلم التقليدي منافسة بل و معادية ،و هكذا يصبح تقبل القيم الثقافية الجديدة قبولآ بعقائد الكفار !. هذا نجد أن القضايا التي حسمتها الحضارة مازالت موضع جدل بل صراع بين المسلمين . فالخلاف حول نقل الأعضاء و العلاج الجيني - رغم أن التكنولوجيا نفسها قد تكون متاحة - يؤدي إلى تخلف تلك المجتمعات.
معايير التخلف الثقافي .
هناك علاقة بين التقدم المادي و النسق الثقافي السائد ، أو بعبارة أخرى بين ثروات الأمم و نوعية الثقافة القائدة ، فالتقدم المادي المعاصر و الذي غير نوعية الحياة على سطح الأرض بشكل ثوري غير مسبوق لم ينشأ كتطور طبيعي تراكمي للحضارات السابقة ،و لكنه إنقلاب ثوري في المكون المادي للحياة . موازيا لهذه الثورة المادية يشهد العالم ثورة ثقافية لم يعرفها التاريخ البشري ، هي باختصار مغامرة من أجل الحرية و ارتياد الأفاق التي لم يعلم أجدادنا حتى بوجودها .
يعرف الشيء بضده " و بضدها تتميز الأشياء " ، هكذا قال العرب القدماء ، فكما أن هناك معايير للتقدم المادي ، تلك المعايير ذاتها نقيس بها التخلف المادي ، و كما أن هناك معايير للتنوير و التحضر الثقافي ، هناك أيضا معايير للتخلف الثقافي هي النقيض تماما للتطور الثقافي ،
في حضارتنا المعاصرة هناك مقاييس كمية نقيس بها تقدم الثقافة في أي شعب ، هذه المقاييس سبق أن تعرضنا لها كثيرا ، مقاييس تعليمية مثل نسبة الأمية و مستوى التعليم و متوسط الإنفاق على الطالب في مراخل التعليم المختلفة و ..... الخ . هناك أيضا مقاييس ثقافية خاصة بالكتب وهي تقاس بالعدد لكل مليون نسمة مثل .. عددها الإجمالي ، و عدد العنواين الصادرة سنويا و نوعيتها ، عدد الكتب المترجمة سنويا ، عدد المكتبات العامة و حجمها و عدد الكتب بها . هناك النشاط الإليكتروني ..عدد أجهزة الكمبيوتر و عدد الويبسايتات و محتواها ... الخ . هناك عدد الفرق الموسيقية و الباليه و المسارح ودور السينما و محطات التليفزيون و شبكة الأقمار الصناعية المخصصة للأنشطة الثقافية ..... الخ . تلك كلها أنشطة ثقافية يمكن قياسها ،وهذا يحدث بالفعل و تصدر به التقارير المقارنة . و لكن هذه القياسات لن تكون موضوعنا الآن ،وربما نعود إليها لاحقا لو كان هناك ضرورة .
الأهم في أي منظومة ثقافية هو روح الثقافة و قيمها ، و عندما نستعرض منظومة الثقافات الأكثر تقدما في العالم ،و نقارنها بالثقافات المتخلفة سنجد مجموعة من الخصائص تميز الثقافات المتخلفة ، هذه الخصائص متعددة ،و يمكن أن تكون موضع خلاف بيننا ،و لكنها من وجهة نظري و كثير آخرون هي :
1- المزج بين الدولة و الدين .
2- الماضوية أو الولع بالماضي و الإستغراق فيه .
3- التمييز ضد النساء و تخفيض مرتبتهن .
4- العداء للآخر .
5- اعتبار الحكم وظيفة إلهية .
6- تحقير العقل و تقديس النقل .
عندما نطبق تلك المعايير على الثقافة الإسلامية السائدة حاليا سنجد أنها تحقق كل معايير التخلف ، أكثر من ذلك تجعل منها جزءا عضويا من العقائد الدينية ، بحيث يصبح منكرها كافرا .
للموضوع بقية .