

القصيبي يُقرئكم الدرس الأخير!
الوطن السعودية
GMT 0:26:00 2010 الأحد 22 أغسطس
محمد المسعـودي
ها هو يرحل بجسده بعد عمر حافل بعطاءات مئات المبدعين والمخلصين، بعد أن قدم لوطنه ما سيبقيه حيا في قلوبنا، لتذكر الأجيال والسنون إنسانيته، عقلانيته، إخلاصه، مواطنته الصالحة، مشاعره الجارفة التي تجاوزت جميع البروتوكولات الوزارية والدبلوماسية !. فما أبدعك أيها القصيبي!
رحل رجلٌ في زمنٍ عز فيه الرجال، وعندما يرحل المخلصون تخفق أفئدة الشرفاء وتدمع عيونهم. إنها كاريزما كل المقاعد الإنسانية وحضور الإخلاص والحب والمشاعر ... ولأن النسيان صفقة خاسرة لا تغري بالمحاولة حتى، فلم يبقِ غازي القصيبي لنا سوى كله وليس بعضه!
رحل صاحب السيرة المثيرة، والمحطات المتنوعة بخليطٍ سياسي فكري أكاديمي دبلوماسي ووزاري، أضاف وأضفى لكل منها بريقاً خاصاً، وهيبةً وهاجة.. إنها جمع السجايا والسمات الشخصية وسعة الأفق في شخص، فإن كان لكل دولة زمن ورجال فأجزم أنه هو (الرجال)!.
نجمه وحضوره سبقه في كل مكان يجوبه أو يقوده أو يخطه يراعه، فالبصمة القصيبية حاضرةً.. كان أديباً وشاعراً وروائياً مبدعاً، ومفكراً أثرى الحياة الفكرية وزادها توهجاً بـ(موسوعيته)، حتى أجزم أنه لم يكن في ساحة المثقفين العرب بأسرها من جمع تلك الهالة من السمات الاستثنائية كما ملكها (غازي)، حتى مع خصومه كان له طموح ونَفَس أرهق به مخالفيه دون جرحهم أو إهانتهم، ليسجل ظاهرة متفردة في عصرنا من الحوار الإبداعي الخلاَّق.
قدم من بيت ثراءٍ ونزاهة فعمل مع عدة ملوك دون نفاق أو رياء. متصالح مع ذاته أولاً بقول الحق بشجاعةٍ له أو عليه بوضوح وشفافية، فلم يجامل أحداً، بل كان مجاهراً بالرأي بقوة حجة وثبات، فكانت تزداد قناعة قادة بلادنا بأنه الرجل المناسب في كل مكان تبوأه حتى نعاه الديوان الملكي في بيان نادر كريم جاء فيه "الفقيد - رحمه الله - من رجالات الدولة الذين خدموا دينهم ومليكهم وبلادهم بكل تفانٍ وإخلاص".
النزاهة والحزم بقول الحق كانا ديدناً يرافق أعماله المنثورة شعاعاً على جبين الوطن، ولأنه (حياة في الإدارة) فكم مسؤولية تسنمها وأتته طائعة، فبدأ وزاراته بمحاولة الوقوف في وجه أصحاب المصالح الضيقة، بدءاً من تطهير وزارة الصحة، وإيصال الكهرباء إلى كل أصقاع البلاد الواسعة، ونشر الفكر والمدن الصناعية، ومكافحة التبذير والمحافظة على منسوب المياه، انتهاءً بوزارة العمل. ولأنه صاحب مبدأ لا يتزحزح فقد أنهكته وكثرت الحراب عليه في آخر وزارة، ولكنه كعادته كان جسوراً محارباً للأنفس الطامعة وغيرةً على أبناء بلده في سبيل الحصول على مصادر الرزق حتى آخر أنفاسه الشريفة لمحاولة القضاء على البطالة، فتجده منتشيا جذلان وهو يقبِّل رأس شاب سعودي يعمل نادلاً بمطعم، ويعتز بارتداء زي النادل قائلاً عنه : "رداء لا يستحقه إلا من سعى لدراسته، وأنا أعتبره نوعاً من الدكتوراه الفخرية ".
وها هو يرحل بجسده بعد عمر حافل بعطاءات مئات المبدعين والمخلصين، بعد أن قدم لوطنه ما سيبقيه حيا في قلوبنا، لتذكر الأجيال والسنون إنسانيته، عقلانيته، إخلاصه، مواطنته الصالحة، مشاعره الجارفة التي تجاوزت جميع البروتوكولات الوزارية والدبلوماسية !. فما أبدعك أيها القصيبي!
ستبقى مالئا الدنيا وشاغلا الناس، حتى في موتك ولعلهم يفقهون، وأنت توزع صورا شتى لكل وزير وسفير ومسؤول. الصورة الأولى في المواطنة الصالحة الخالصة بخلفية أخاذة في العمل الإبداعي الخلاق ليعرفوا أجمل صور التفاني من أجل وطن، أما الصورة الأخيرة فهي أعظم درس قدمته لهم بلقطة خالدة سطرتها في مخيلة وطن وزمن، اختصرتها في وهج كمية الحب المتدفق ألماً وفراقاً تحسسه الجميع بدءا من قادتنا إلى شتى شرائح المجتمع وانتشاراً إلى دول العالم، فكم من وزير وسفير ومسؤول رحلوا عن كراسيهم وعن دنياهم ولا نذكر سوى بقايا من أسمائهم، وكم من شخص رحل ولم يترك لنا ولوطنه سوى بقايا من فتات ورق صحف فقط!
أيها المسؤولون اتعظوا من عطاءات هذا الرجل وماذا قدم. وكيف استقبل الناس رحيله، فالأوطان والتاريخ لا يحفظان إلا أسماء عظيمة فقط ليكتباها، وجزماً تحفظها الأجيال والأمم، والتقوقع ديدن الأرض البوار التي لا تاريخ لها، والضعيف بها لا يخلده سوى الضعفاء، أما مدن الخصوبة والحب فتبقى حية، والتاريخ بها لا يحفظ إلا العظماء.. فما أبلغك أيها الدرس الأخير، وما أجمل حضورك ووداعك – يرحمك الله - !


الكاريزما القصيبية.. ما الذي ميّز غازي؟
الوطن السعودية
GMT 1:36:00 2010 الجمعة 20 أغسطس
شتيوي الغيثي
غازي القصيبي كان يمتلك ثقة رسمية وشعبية منقطعة النظير حتى بعد توليه وزارة العمل رغم صعوبة النجاح في مثل هذه الوزارة. أن يتفق الجميع (تقريباً) على حبه واحترامه وتقديره حتى عند بعض خصومه السابقين فهذا نوع من الكاريزما التي لا تتحقق إلا لدى الندرة القليلة من الناس
المقالات التي كتبت عن غازي أكثر من أن تحصى خلال أسبوع فقط، وبعد وفاته بيوم مباشرة، بل إن الصحف الإلكترونية كانت أسرع في نشر الخبر والكتابة حول فكره وشخصيته مما جعل الحدث استثنائياً وإشكاليا كما هو غازي في كل حياته. غازي من النوع الإشكالي الذي أصبحت حتى وفاته حدثاً سعودياً عاماً وخليجيا؛ بل وحتى عربياً. والكتابة حول غازي، برأيي، لا بد أن تتجاوز مرحلة البكائيات القديمة والرثاء الحزين إلى استخلاص تجربة من التجارب الاستثنائية، والبحث عن سر ذلك التفرد الذي كان يتميز به عن غيره. غازي كان نموذجاً من النماذج العربية التي اتفق الناس عليها، وهذا الاتفاق يصعب العثور عليه فيما لو فتشنا في العديد من الأسماء العربية الأخرى التي كانت تنافسه داخلياً وخارجياً. أن يكون هذا الحب الشعبي بهذا المستوى فهو شيء ينم عن كاريزما خاصة يتمتع بها هذا القصيبي. إحدى الإشكاليات التي قيلت قبل سنة في بداية مرضه انتشار الشائعة بوفاته ونفيها في نفس اليوم. طبعاً هذا القلق من فقدان غازي كان ينم عن قلق شعبي من عدم تكرار نموذج آخر، لاستثنائه الذي لم يستطعه إلا هو!
الدكتور غازي القصيبي ـ رحمه الله ـ كان يمتلك ثقة رسمية وشعبية منقطعة النظير حتى بعد توليه وزارة العمل رغم صعوبة النجاح في مثل هذه الوزارة. أن يتفق الجميع (تقريباً) على حبه واحترامه وتقديره حتى عند بعض خصومه السابقين فهذا نوع من الكاريزما التي لا تتحقق إلا لدى الندرة القليلة من الناس، فلماذا تحققت لدى غازي ولم تتحقق لدى غيره؟ بل لا نجد في الأفق حتى الآن رجلا بمواصفات هذا الرجل يحمل ما كان يحمله من سعة ثقافة ونجاح في الإدارة وتحقيق توازنات سياسية وثقافية نخبوية وجماهيرية لا تتوافق في الغالب لمدى اتساع الهوية بين ما هو رسمي وما هو شعبي، أو ما هو نخبوي وجماهيري. وقد جاء غازي ليرمي هذه الهوة ويجعل الأمور متداخلة تداخلا متوازنا بشكل عجيب يثير إعجاب العامة والخاصة على حد سواء، وهي المعادلة الأصعب، خاصة في مواقع إدارية من أعلى المستويات كالوزارات أو السفارات.
أن يخرج مثقف ليحاول أن يحقق الكثير من المبادئ التي يراها، فهذا شيء طبيعي؛ بل هي طبيعة المثقف في كل عصر وفي كل مكان، لكن ما إن يدخل هذا المثقف إلى مستوى اتخاذ القرار فإنه يعود فيتحول إلى موظف بيروقراطي، أو الفشل المباشر لكونه يبحث عن التغيير الجذري فيكون الصدام مع المجتمع، وهذا فيه خلل في مدى معرفة الحد الفاصل بين كونه مثقفاً وكونه مسؤولاً، في حين أدرك القصيبي مدى حجم المساحة بين مبادئ المثقف وبيروقراطية المسؤول واستطاع العمل على المساحة الفاصلة بين هذه وتلك.
أيضا كان غازي نزيهاً جداً في العمل الإداري، وهذه النزاهة يفسرها البعض على أنه ولد وفي فمه ملعقة من ذهب، وهذا التفسير ليس كاملاً كون الكثيرين مثله ولدوا وفي أفواههم آلاف الملاعق الذهبية؛ لكن هذا لم يجعلهم نموذجاً شبيهاً لغازي في نزاهته.
الموازنة بين المبادئ والمسؤولية هي ـ حسب ما أتصور ـ جعلت من غازي نموذجا لابد أن يحتذى للأجيال الطالعة أو الأجيال الحالية، والقراءة في مرحلة وعمر طويل من العمل الإداري والشغل الثقافي من خلال قراءة جيدة لتحولات المجتمع وتبدلات القيم والأفكار والصراعات والمناوشات وأحلام النهضة وانتكاسات النضال، والتي حاول غازي أن يبث جزءاً كبيراً منها حتى أثناء مرضه الذي توفي فيه.
الأحلام الكبرى التي كان يملكها غازي لم تكن خيالية إلى الدرجة التي جعلت من غيره حبيسي مرحلة محددة وصلت فيها الأحلام إلى أبعد مستوياتها حتى إذا انهارت انهار الحلم بكليته مما سبب صدمة عنيفة لم يستطع أن يصحو منه حالمو الأمس حتى الآن، أي لم يكن أيديولوجيا إلى الدرجة التي أعمت بصره عن رؤية الحقائق بعين المثقف والذي ترجم كل ذلك إلى برنامج حقيقي له امتداده على أرض الواقع.
لقد تخلص غازي من الوهم منذ فترة طويلة من خلال رؤية ناقدة جعلته عروبياً من خلال نموذج مثقف نفطي؛ أي أنه لم تكن لديه عقدة المثقف العروبي الذي يرى في الدول الخليجية أنها دول نفطية أكثر من كونها دولا حقيقية، فعمل غازي على إثبات ذلك، إذ لا تشكيك في عروبة الخليجي لكونه نفطياً. من جهة أخرى فقد تخلص من وهم آخر هو وهم الإسلاموية، فليس عنده عقدة الأسلمة كما عند الآخرين، فلا مزايدة على إسلام الرجل المسلم حتى لو اتهم بالعلمانية كما اتهم غازي، كما أنه لم يحاول الوقوع في صراع التيارات، لأن التجربة الثقافية كانت ذات وعي مبكر تبلورت من خلال أحلام العروبة وانتكاساتها مما بلور لديه حساً نقدياً مبكراً لكل الخطابات العربية والتي كان لها امتداد سعودي هنا أو هناك.
كما أن قربه من القرار السياسي منذ صغره جعله يطلع على الكثير من القرارات والأسرار التي قد تغيب عن كثير من المشتغلين في العمل الإداري في السعودية، وهذا أعطاه حس الموازنة بين أحلام العروبة ورجل الدولة حين رأى دولة شارك أبوه في يوم من الأيام في إنشائها حين كان من رجال المؤسس الملك عبدالعزيز آل سعود.
هذه الأشياء مجتمعة خلقت تلك الشخصية القصيبية الفريدة، لكن تبقى هذه القراءة مجرد محاولة للفهم، ذلك أن الكثير من الشخصيات الإدارية أو الثقافية حصلت لهم نفس الظروف، لكنهم لم يتحولوا إلى نموذج استثنائي كما حصل لغازي، مما يجعلنا بحاجة ماسة إلى قراءات عديدة يضيف بعضها إلى بعض، لا تقتصر على الجانب الإبداعي أو الإداري، بل تحاول الجمع بين الجانبين لكون غازي نفسه لم يرد أن ينفصل هذا عن هذا، ولذلك نراه يكتب روايات أو ينشد قصائد بسب مواقف إدارية مرت به، فالقراءة المتكاملة يمكن أن تكشف لنا بعضاً من أسرار الكاريزما القصيبية.