العداء للآخر و استبعاده .
(2 من 4 )
Fraternity among nations, however, touches the deepest desire of human nature. Hjalmar Branting
" إن الإخاء بين الشعوب يلمس أعمق رغبات الطبيعة البشرية " . هجلمار برانتنج ( سياسي سويدي )
أخلص من المداخلة السابقة إلى نتيجتين هما ؛ الإحساس العالمي بضرورة التعايش السلمي مع الآخر في إطار قرية كونية واحدة ، و الثاني التطلع العالمي إلى مرحلة جديدة يكون التعاون فيها بديلآ عن الصراع . فماذا لدينا في الثقافة الإسلامية السائدة للإجابة على هذه التحديات ؟.
من أخص خصائص الثقافة الإسلامية المعاصرة هي النزعة العدائية الواضحة ضد الآخر ، هذا الآخر ليس بالضرورة الأجنبي الغريب ، بل كثيرا ما يكون الآخر المحلي المخالف في العقيدة الدينية أو الرؤى و الثقافة . ولا يوجد -كما أعتقد- ثقافة معاصرة تشترك مع الثقافة الإسلامية في حدة عداء الآخر و التحريض المستمر ضده ، ربما باستثناء الأصولية اليهودية .
تراكمت نزعة العداء للآخر خلال مراحل تاريخية متفاوتة مر بها التاريخ الإسلامي . كانت المرحلة الأولى خلال مرحلة الدعوة الإسلامية و سجلها القرآن و سيرة النبي و أحاديثه ، و بهذا أصبحت جزءا لا يتجزأ من العقائد الإسلامية ، أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الصراع الحضاري بين العرب و غيرهم من الشعوب الأقدم حضارة كالفرس والذي اشتعل مع اتساع رقعة الإسلام ، أما المرحلة الثالثة فهي العصر الحديث الذي بدأ مع الغزو الإستعماري الغربي و استمر حتى الآن .
المرحلة الأولى : حروب النبي و صراعه ضد مخالفيه .
خاض النبي صراعا طويلآ داميا ضد قومه من قريش و غيرها من قبائل العرب ، كذلك ضد أهل الكتاب خاصة القبائل اليهودية في المدينة و حولها . تراوح الصراع بين النبي و أعدائه من الصراع السلمي القائم على المحاجة و المحاورات العقلية ، إلى الصراع المسلح القائم على القتال المتصل ، فبلغ عدد الغزوات التي قادها محمد 28 غزوة ، من ضمنها 9 غزوات دار فيها قتال ، و قد استمرت الغزوات 8 سنوات (من 2 هجري إلى 9 هجري) ، في السنة الثانية للهجرة حدث أكبر عدد من الغزوات حيث بلغت 8 غزوات ، بينما بلغ عدد البعوث والسرايا 38 ما بين بعثة وسرية . بلغ عدد الضحايا في كل معارك الرسول محمد ما يقارب الألف قتيل من الطرفين، منهم 600 من يهود بني قريظة قتلوا قضاءا . ترتب على ذلك تراث متباين من الآيات القرآنية و الأحاديث إلى درجة التعارض ، بحيث يصعب فهمها أو تصور أنها صادرة من نفس المنبع ، سوى خلال قرآة النص في إطاره الزمني و السياسي . أفرزت هذه المرحلة التأسيسية نصوصا دينية متعارضة التوجيه في التعامل مع الآخر ، ولو نظرنا إلى القرآن كأوثق المصادر الإسلامية و أكثرها مصداقية ، سنجد هناك آيات واضحة للغاية تقرر حق الإنسان في إختيار عقيدته الدينية بلا حرج و لا تثريب ، هذه الآيات منها :" فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ " .الغاشية ( 21-24 ) ، و منها " قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (الكافرون 1-6 ) ، و قوله " وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ۖ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا" (الكهف 29) ، وقوله " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ "(الحج:17) ، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ( المدثر : 38 ) ، وقوله " أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ " (فاطر:8 ) . أما عن القتال فهناك آيات تدعوا إلى السلم و تنفر من القتال منها " وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " (الأنفال: 17 ) ، و منها " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ " (البقرة : 208 ) . و لكننا نفاجئ أيضا بنسخ كل آيات الرحمة و التسامح تلك بسورة التوبة ، (هي آخر سورة في ترتيب النزول) ،و فيها يتلو النبي " فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (التوبة-5). و " قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" (التوبة-29) . هذه النصوص الحربية الأخيرة قدمت للأصوليين رصيدا قويا في التحريض ضد الآخر ، و بالتالي دفع المسلمين لعداء البشرية كما هو حادث الآن ، ولا يمكن دمج المسلمين في حركات السلام العالمي دون بذل جهدا مركزيا في تجاوز تلك النصوص و تعطيلها كما حدث في أحكام العبودية .
المرحلة الثانية :الصراع الحضاري الداخلي .
برز هذا الصراع إلي السطح علي نحو خاص مع الدولة العباسية التي قامت علي أكتاف الموالي بالدرجة الأولي ، وقد واكب هذا النفوذ الفارسي انتقال الكثير من أدوات الحضارة الفارسية ومظاهرها إلي الحضارة العربية، وانتقال معارف الهنود واليونان والفرس إلي اللغة العربية، إما بنقل مباشر عن الأصول، أو بنقل غير مباشر عن اللغات الوسيطة مثل السريانية علي سبيل المثال. وصحب الترجمة انتشار أفكار فلاسفة كبار (سقراط، وأفلاطون وأرسطو وغيرهم) ومذاهب فلسفية
![[صورة: aristotelesPoetika.jpg]](http://mitoloji.info/angel/aristotelesPoetika.jpg)
مختلفة (السوفسطائية، الفيثاغورية، الأبيقورية) لليونان وغير اليونان، فضلاً عن معتقدات ذات طابع ديني أو شبه ديني لديانات الحضارات الأقدم، يستوي في ذلك السماوي منها (اليهودية والمسيحية) أو غير السماوي (الزرادشتية، المانوية... إلخ). هذه الأفكار و ما ولدتها من مساءلات جديدة كانت مصدر إقلاق للذهن العربي التقليدي ، خصوصاً أن هذا الذهن لم يكن قد اعتاد هذا النوع من الأسئلة الصعبة الجسورة . وهو أمر أربك النسق الفكري القائم، ودفع إلي نوع من المقاومة أو الاستجابة السلبية. أخذ رد الفعل التلقائي شكل النهي عن الجدال والبعد عن التعمق، مستعينة بنصوص دينية متأولة تنهى عن الجدل والتعمق، منها ( مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ( غافر : 4 ) ، و قول النبي :" أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقا....." و يقول أبو جعفر : " الجدال في الله منهي عنه ، لأنه يؤدي إلى ما لا يليق به " .
ومنطقي أن ينقلب النفور من الأفكار المحدثة والأسئلة الوافدة المصاحبة إلي نفور من مصادر هذه الأفكار، ومن الثقافات التي جاءت منها، بل اللغات التي نقلت بواسطتها. وكان ذلك في إطار من العنجهية العربية الجوفاء التي ترى أن قدر الأفكار من قدرأصحابها ،و أنه طالما كان العرب هم العنصر المنتصر المسيطر فأفكارهم هي الصحيحة ، مهما كانت ثراء الحضارة الأخرى بالقياس إلي العربي صحيح النسب.
كان أهم نتائج هذا الصراع الثقافي هو رفض المغايرة و الإختلاف بدءا من مجال العقيدة و ليس انتهاء بها ، بل يشمل أيضا المجالات السياسية و الثقافية و الإجتماعية ، كذلك غياب التنوع و امتناع الحوار الخصب بين مختلف التيارات و الإتجاهات الفكرية على النقيض مما هو حادث في الحضارة المعاصرة ، التي تتميز بتنوع و خصوبة غير مسبوقة في التاريخ البشري .
المرحلة الثالثة : الغزو الإستعماري .
إن أسوأ ما فعله الغربيون ليس فقط الإستنزاف الإستعماري للعالم القديم ، و لكنه إذلال الشعوب الشرقية و قتل روحها القومية ، و حرمانها من الفخر و الإحساس بالعنفوان و الزهو ، فالسلوك الإستعماري كان دائما سببا في توليد شعورا قويا بالمهانة ،و عبئا ثقيلا من الإحساس بالدونية .إن تأثير العامل المعنوي لا يقل بحال عن تأثير النفوذ السياسي و الإقتصادي غير العادل للغرب اللذي فرضته الحقبة الإستعمارية .
هكذا نجد أن الموقف المعادي الذي يتخذه البعض من الغرب ليس متجنيا و لكنه مبرر أخلاقيا تماما ، فقط سوف أردف قائلا أنه رغم ذلك سيكون موقفا خاطئا ، لأنه يعني أن يعيش الإنسان في الماضي و يستغرق فيه ، و سيكون ذلك علي حساب الحاضر الذي تفسده المرارة و الكراهية ، كما سوف يدفع ثمنه من فرص المستقبل الذي يتسرب من بين يديه دون أن يشعر ، بينما عقله و قلبه مثبتان في حقبة تاريخية بعينها قد تجاوزها الزمان ، و في مثل هذه المواقف أتذكر دائما قول برنارد شو :" ذلك الذي يقتل الملك ،و ذلك الذي يموت من أجله ،كلاهما عابد أصنام " ، وهذه ليست مبالغة لأن كلاهما سيعيش مستغرقا في مشاعر الحب أو الكراهية تجاه هدف واحد فقط .
بمكننا أن نطلق تعبير (العقل المستعمَر) علي ذلك العقل المتهووس دائما بالعلاقة الإرتجاعية بالقوي الإستعمارية الغربية و جرائمها ضد الشعوب الشرقية ، مثل هذا العقل سوف يجد صعوبة مستمرة في إدراك الذات بشكل سليم ، و بالتالي فمثل هذا العقل لن يدرك وجوده التاريخي الفريد في هذا الكون سوي كمجرد ضحية لآخر هو الغرب ، ولن يري نفسه سوي قطرة من بحر الكراهية و الإنتقام . هذا الموقف خلق ما يمكن أن نطلق عليه ( العقلية الأسيرة ) ، هذه العقلية تقود المسلمين إلي إدراك الذات بشكل إرتجاعي ضيق و مشوه شديد الضحالة و التحيز ، إن هذه الطريقة الإنفرادية من التفكير يمكن أن تؤدي إلي نتائج متعددة ، رغم أنها تقوم علي التركيز علي فترة تاريخية واحدة و اعتبارها محور الوجود الإنساني ، مثل هذا العقل كما أوضحنا سوف يجد صعوبة مستمرة في إدراك الذات بشكل حضاري منفتح ، و ذلك كله يؤدي إلي آثار شديدة الوطأة علي عالمنا المعاصر ، يدفع المسلمون ثمنه بالأساس ، سواء في تخلفهم و ضياعهم الفكري أو المادي ، كذلك في استنزاف قدراتهم المحدودة في معارك دونكيشوطية ضد العالم كما هو حادث بالفعل .