معنى الواقعية Realism
(2)
الزملاء المحترمون .
عودة إلى معنى الواقعية .
بداية نقرر أنه لا توجد صورة أو نظرية مستقلة عن مفهوم الواقعية . أي أنه لا توجد واقعية واحدة و لكن هناك واقعيات بديلة . و سوف نتبنى ما يمكن أن نطلق عليه الواقعية المعتمدة على نموذج ، أي أن كل نظرية أو رؤية للعالم هي مجرد نموذج ( صيغة رياضية غالبا ) ،و بعض القواعد التي تربط هذا النموذج بالملاحظات ، و هذا يعطينا الإطار الذي يمكننا به شرح العلوم الحديثة .
أحب أن نلاحظ سويا أننا لا نصنع النماذج في العلوم فقط ، بل حياتنا كلها هي عبارة عن نماذج نصنعها باستمرار ، وهذا يتم شعوريا أو لا شعوريا . الإنسان بإمكانياته الحسية و قدراته العقلية لا يمكنه أن يدرك الواقع ، فهناك إستحالة عملية ،و لكن الإنسان في المقابل يشكل نماذجآ عقلية و يتعامل معها. هذا يعني ضمنيا أنه لا يمكن أن نفصل المراقب الذي هو نحن عن آلية فهمنا للعالم . إننا لا ندرك العالم خلال حواسنا فقط ، و لكن خلال التصميمات الإيضاحية التي يصنعها عقلنا ، هذه التصميمات ليست عشوائية و لكن العقل يصنعها نتيجة انفعاله بالتأثيرات الناتجة عن عمل أعضائنا الحسية . يمكننا أن نعطي مثالآ من حياتنا اليومية ل" model - dependent realism" هي الصورة التي تصنعها أعيننا نتيجة الأشعة الساقطة عليها من الهدف ، فالأشعة الساقطة على العين تترجم إلى صورة ثلاثية الأبعاد ،و هذا لا يحدث بشكل آلي و لكن خلال ترجمة الأشعة وفقا لنموذج مسبق في عقل الإنسان . عندما تقول أني أشاهد مقعدا فأنت في الواقع تكون استقبلت مجموعة من الأشعة المشتتة ،و لكن عقلك يستخدم تلك " المادة الخام "و يصنع منها نموذجا كاملآ ثلاثي الأبعاد ،و حتى لو ارتديت منظار يجعل الصورة مقلوبة فعقلك سيقوم بعدل الصورة ، و ستراها معدولة بعد لحظات قليلة ،و عندما تخلع هذا المنظار سترى الصورة مقلوبة للحظات عابرة ثم يقوم عقلك بإعادة الصورة إلى وضعها الطبيعي ( يمكنك أن تجرب ذلك بنفسك ) .
هناك مشكلة أخرى أكثر أهمية يتغلب عليها أو بعبارة أدق يتفاداها " model - dependent realism" هي مشكلة الوجود ، ففي حالة الأجسام دون الذرية التي لا يمكن أن نراها ، سنجد أن الإليكترون مثلآ هو مجرد فرضية أو ( نموذج ) و لكنها فرضية مفيدة للغاية ، فهذا النموذج يشرح لنا ظواهر عديدة ، كما يقوم عليه استخدامات عديدة أصبحت أساسا يبنى عليه الحضارة . رغم أن أحدآ لم يشاهد الإليكترون أو يقيس خواصه مباشرة ، إلا أنه نموذج أساسي جدا في فهم الطبيعة و استخداماتها ، و اليوم يعتقد كل الفيزيائين في الإليكترون رغم أن أحدا لم يشاهده قط . ( أريد هنا أن أذكر أن الإليكترون لا يشبه في شيء ما نرسمه من دائرة صغيرة عليها علامة (-) تدور في مدار دائري حول النواة ، فالإليكترون لا يشبه أي شيء آخر ،و كل ما نعرفه هو سلوك الإلكترون في مواقف بذاتها ).
هناك جسيم دون ذري آخر هو الكوراك ، هذا الجسيم مجرد نموذج أساسي في فهم خواص البروتون و النيوترون داخل النواة ، و ذلك رغم أن أحدآ لم يشاهده أبدآ . الكوراك لا يوجد منفصلآ أبدآ في الطبيعة ،و لكن في مجموعات إما ثلاثية كما في البروتون و النيوترون أو ثنائية مكونة من الكوراك و مضاد الكوراك في ( الميسون ) . كان من الصعب على الفيزيائين قبول وجود جسيم لا يمكن أن يظهر مستقلآ أبدآ ، و لكن القدرة التفسيرية العالية لنموذج الكوراك جعل لا غنى عنه ، و بالتالي تلاشت مقاومة الفيزيائين له . لو كان هناك قادمون من الفضاء بتكوين مختلف و أجروا نفس التجارب لحصوا على نفس النتائج ،و لكنهم بالقطع سيجدون نماذجا مختلفة كلية لفهم و تفسير نتائج التجارب و لن يوجد فيها الكوراك ، و لكن الكوراك سيبقى نموذجا أساسيا حتى نستبدله بنموذج آخر أكثر قدرة تفسيرية .
الكوراك المكون للنيترون
يمكن " model - dependent realism" أن تشكل إطارا لمناقشة قضايا مثل ما حدث ماقبل ظهور العالم . يجيب القديس سانت أوغسطين (354-430) أن الزمن هو ملك للعالم الذي صنعه الخالق ،و أن الزمن لم يكن موجودآ قبل ذلك ،وهو يرى أن خلق العالم لم يحدث منذ زمن طويل ، فهو يعتقد أن تقديرات سفر التكوين في العهد القديم دقيقة حرفيا ، طبعا لم يكن يعرف بالحفريات التي تعود إلى أزمنة أبعد كثيرا من تقديره . هناك نموذج آخر يعود بالزمن إلى 13.7 مليار عام حيث حدث الإنفجار العظيم big bang ،وهو النموذج الذي يتوافق مع الأغلبية الساحقة من الظواهر و المشاهدات ،
النموذج الثاني إذا هو الأكثر فائدة من الأول رغم أنه لا يمكننا أن نقول أن أيهما أكثر واقعية من الآخر .هناك نموذج ثالث يذهب بالزمن أبعد من الإنفجار العظيم ،و لكن مثل هذا النموذج الثالث لن يكون مفيدآ طالما أن تطور الكون قد تلاشى مع الإنفجار الكبير .لهذا فعلينا أن نتمسك بنموذج الإنفجار الكبير .
كي يكون النموذج جيدا يجب أن يحقق المتطلبات الآتية :
1- أن يكون راقيا elegant.
2- أن يحتوي على أقل عدد من العناصر التي يجب ضبطها أو الإختيارية .
3- تتماشى مع و تشرح كل الملاحظات القائمة .
4- أن يعطي تنبؤات تفصيلية بالظواهر المستقبلية بحيث يكون النموذج مرفوضا لو ظهر خطأه في التنبوء بها .
كمثال كان نموذج أرسطو القائل بوجود 4 عناصر أساسية في الكون هي التراب و الهواء و الماء و النار نموذجا فخما ،و لا يحتوى على أي من العناصر التي تحتاج ضبطها ،و لكنه فشل فشلآ ذريعا في إعطاء تنبوءات و التنبوءات التي قدمها ظهر خطأها .
من الواضح أن العناصر السابقة عناصر ذاتية و ليست موضوعية ، فالعنصر الأول وهو الفخامة عنصر نسبي تماما و لا يمكن قياسه ، و لكن العلماء يميلون للنماذج التي لا تحتوى على الكثير من العناصر التي تحتاج إلى ضبط ،و يمكن وصفها بتعبير أينشتين أن " تكون بسيطة و لكن ليس أبسط من اللازم " .
يحظى النموذج العلمي بقبول كبير عندما يقدم تنبوءات مدوية تثبت صحتها ، من جانب آخر يميل العلماء إلى تبرير القصور في النماذج القائمة ، على سبيل المثال بخطأ في التجارب ، و لكن عندما تستنفذ مثل هذه التبريرات يفقد النموذج مصداقيته و يتخلى عنه . مثال للنموذج الذي فقد مصداقيته هو نموذج الكون الثابت الذي اعتقد فيه الفيزيائيون حتى العشرينات من القرن 20 .في 1929 نشر "ادوين هابل" ملاحظاته التي تثبت أن الكون يتمدد ، و قد حاول آخرون تقديم تفسيرات لملاحظات هابل على أساس استاتيكية الكون ،و استمر عديدون بعد هابل بعشرات السنوات يعتقدون بثبات الكون ،و لكن الآن هناك قبول من الجميع بأن الكون يتمدد .
من أجل البحث عن القوانين التي تحكم الكون قام الإنسان بصياغة عدد من القوانين و النماذج ، تتراوح من نموذج أرسطو للعالم المصنوع من 4 مواد ، مرورا بنموذج بطليموس و قانون فلوجيستون إلى الإنفجار العظيم .مع كل نموذج تغيرت رؤيتنا للواقع و المكونات الأساسية للكون . هناك مثال آخر هو نظرية نيوتن للضوء الذي افترض أنه مكون من جزيئات متناهية الصغر بسبب حركته في خطوط مستقيمة و أيضا ظاهرة الإنكسار نتيجة مروره من مادة إلى أخرى ،و لكن هناك ظواهر أخرى لا يمكن تفسيرها سوى بأن الضوء مكون من موجات ،و بالتالي تم استبعاد نموذج الجسيمات ، و تم استبداله بنموذج الموجات ،و لكن في القرن 20 شرح أينشتين ما يسمى بالتأثير الضوئي الكهربائي photoelectric ( تستخدم حاليا في التلفزيون و الكاميرات الرقمية ) على أساس أن الضوء مكون من جسيمات متناهية الصغر ،و عندما يصطدم الجزيء بالذرة تطلق اليكترونا،و هكذا يتصرف الضوء كجسيم و موجة في نفس الوقت .
من الطبيعي أن يعرف الإنسان الموجة من مراقبة السوائل كالبحر ، كما يعرف الجزيئات من خبرة الحياة اليومية ، أما الثنائية فمفهوم غريب تماما عن الحياة اليومية . هذه الثنائية التي يمكن فيها لنظريتين مختلفتين شرح نفس الظاهرة بنفس الدقة يمكن أن تتوافق مع " model - dependent realism" ، فيمكن لكل نظرية شرح خواص بعينها دون أن تكون إحداهما أفضل أو أكثر تمثيلآ للواقع من الأخرى .