نحن نختار عالمنا
(1)
كيف بدأ الكون ؟.
هناك العديد من الإجابات الأسطورية على هذا السؤال يعلمها الجميع و يصدقها البسطاء . شهدت حقبة العشرينات من القرن20 أولى المحاولات العلمية الجادة لفهم كيف بدأ الكون ، و لعل من المفارقات أن يكون ذلك بشكل غير مقصود في البداية . حتى ذلك الوقت كان العلماء يعتقدون أن الكون أزلي ثابت بالشكل الذي يبدوا عليه ، و لكن خلال حقبة العشرينات استخدم العالم الأمريكي " إدوين هابل Edwin Powell Hubble" تلسكوب ضخم ( 100 بوصة ) في مراقبة المجرات .
Edwin Powell Hubble
و بتحليل الطيف و جد أن تلك المجرات تتباعد عن الأرض ، و أن المجرات الأبعد تفعل ذلك بسرعة أكبر . في عام 1929 نشر هابل بحثا هامآ أوضح فيه أن معدل الخفوت recession في ضوء المجرات يتناسب مع ابتعادها عن الأرض ، و استنتج بالتالي أن الكون يتمدد . هذا معناه أن الكون كان أصغر في الماضي ، و بالتالي عندما نعود إلى الماضي السحيق و نمد الخطوط على إستقامتها سنصل إلى لحظة كانت المادة مكثفة للغاية و بدرجة لا يمكن تخيلها ،وصولآ إلى اللحظة التي بدأ فيها كل شيء ، و هي اللحظة التي أطلق عليها العلماء " الإنفجار العظيم " أو ال big bang كما نطلق عليها منذ عام 1948 و حتى الآن .
أوضح تشبيه لتمدد الكون هو التشبيه الذي ابتكره العالم " آرثر إدينجتون " و الذي يشبه الكون ببالون و أن المجرات موجودة على سطحه ، مع ملاحظة أن تمدد الكون لا يعني تمدد الأجسام المادية مثل المجرات أو النجوم أو السيارات و المنازل ، لأنها تكون مرتبطة بقوى الجاذبية ، و لكن التمدد يكون في الفراغ بين تلك الأجسام . فلو رسمنا دائرة حول حزمة من المجرات على سطح البالون سنجد أن دائرة ستبقى بدون تمدد ، وهذا هام جدا فلو تمددت كل الأجسام بنفس القدر – بما في ذلك أدوات القياس بالطبع – لن يمكننا ملاحظة التمدد أبدآ .
هذا النموذج الذي قدمه " إدينجتون " يشرح ملاحظة هابل بأن المجرات البعيدة تتحرك بسرعة كبيرة ، فلو افترضنا أن المسافة بين نقطتين على سطح البالون تقدر ب1 بوصة ، و أن قطر البالون يتضاعف كل ساعة ، فبعد ساعة تكون المسافة بين النقطتين = 2 بوصة ، و هذا يعني أن السرعة التي تبتعد بها النقطة عن الأخرى هي 1 بوصة في الساعة ، أما إذا كانت المسافة بين النقطتين في البداية =2 بوصة ، فبعد ساعة ستكون المسافة =4 بوصة ،و هذا يعني أن سرعة ابتعاد النقطتين عن بعضهما =2 بوصة ، أي ضعف السرعة الأولى ، أي أن المجرات الأبعد تبتعد بسرعة أكبر من سرعة إبتعاد المجرات القريبة ! . قبل نشر هابل بحثه بسنوات كان معروفا أن معادلات أينشتين تذهب إلى أن الكون يتمدد ، و لكن أن تثبت المشاهدة الفلكية ذلك كان مفاجأة حتى لأينشتين نفسه ، أكثر من ذلك.. كانت الصدمة من الكبر بحيث أن كثير من علماء الفلك تجاهلوا تلك الحقيقة لأكثر من عقد من الزمان .
في عام 1922 درس الفيزيائي و الرياضي الروسي " ألكسندر فريدمان" ما يمكن أن يحدث في نموذج للكون قائم على فرضيتين ، أولاهما أن يكون العالم متماثلآ عندما ننظر إليه في مختلف الإتجاهات ، و الثاني أن يكون هذا التماثل قائما عندما ننظر إليه من أي نقطة مشاهدة في الكون ، وهذا معناه أنك عندما تقف في أي نقطة مشاهدة و تنظر إلى إتجاهات مختلفة ستجد الكون متماثلآ ، كذلك لو غيرت نقطة المشاهدة و ذهبت إلى أماكن متعددة و نظرت إلى الكون ستجده متماثلآ أيضا . هذا بالطبع بفرض أن تكون المشاهدة من نقط بعيدة للغاية أبعد من أبعد المجرات . وفقا لهذا النموذج استطاع فريدمان شرح نتائج معادلات أينشتين ،و قد توصل أن العالم بدأ من نقطة متناهية الصغر ، و أنه سيتمدد حتى تتغلب قوى الجاذبية عليه فينهار داخليا ، وهنا ظهرت أيضا احتمالات التمدد اللانهائي مع انخفاض سرعة التمدد حتى تتجه إلى الصفر دون أن تبلغه أبدآ .
لم يكن هناك قبول واسع لفكرة التمدد ، بل بقى معظم العلماء يعتقدون في نموذج الكون الثابت ، فقط في عام 1948 أطلق فيزيائي فلكي بريطاني هو " فريد هويل " تعبير" الإنفجار العظيم " او ال big bang ، و كان هذا العالِم يؤمن بأن العالَم يتمدد إلى مالانهاية . أما أول مشاهدة عملية تؤكد نظرية الإنفجار الكبير فقد ظهرت فقط عام 1965 مع إكتشاف وجود خلفية من موجات الميكروويف الباهتة في كل مكان من الكون ، وقد أطلق عليها الخلفية الإشعاعية الكونية لموجات الميكروويف أو للإختصار CMBR ،
الإنفجار الكبير.
هذه الموجات متخلفة من الكون القديم عندما كان غاية في الصغر و الكثافة ، و أيضا غاية في إرتفاع درجة الحرارة ، و ذلك عقب الإنفجار الكبير مباشرة . كلما تمدد الكون انخفضت درجة الحرارة ،و فقد الإشعاع شدته حتى أصبح مجرد موجات مايكروويف باهتة ، لا يمكنها تسخين شيء أكثر من 3 درجات فوق الصفر المطلق المقدر ب (-273) درجة مئوية !. وجد العلماء (بصمات أصابع) أخرى تدل على الإنفجار الكبير . طبقا لحسابات العلماء كان الكون عقب الإنفجار الكبير مباشرة مكون من هيدروجين و 23% هيليوم و آثار ضئيلة من الليثيوم ، أما العناصر الثقيلة فقد تكونت بعد ذلك داخل النجوم التي تعمل كمصهر نووي كبير . هذه التقديرات الخاصة بنسبة شيوع الهيليوم في الكون أثبتتها التجارب العملية بالفعل . هكذا أصبح لدينا العديد من الشواهد على صدقية نظرية الإنفجار الكبير .
و لكن هذا لا يعني أن نقبل نظريات أينشتين لوصف ( بداية ) الكون لأسباب تتعلق بالنسبية العامة ذاتها ، و لنتذكر دائمآ أن معادلات أينشتين و مراقبتنا للكون يصلحان فقط لمعرفة تطور الكون (بعد ) حدوث الإنفجار العظيم و ليس أثناءه .
التضخم الكوني.
لنلق الآن نظرة على الوثبة الأولى لبداية الكون أو ما يعرف بالتضخم الكوني ، وفقا لأقل التوقعات بمجرد لحظة الإنفجار الكبير تمدد الكون بمعامل تمدد خرافي ، كي نمثل هذا المعدل علينا أن نتخيل أن عملة قطرها 1 سنتيمتر تبلغ في 1/10 ثانية فقط 10 مليون ضعف عرض سكة التبانة !. و هذا يفوق سرعة الضوء بما لا يقارن ، و لكن قوانين سرعة الضوء لم تكن سارية في هذه اللحظات المبكرة من عمر الكون . هذه التقديرات القائمة على الكوانتم ظهرت في الثمانينات من القرت 20 . لأنه لم يتم بعد صياغة نظرية كوانتم لقوة الجاذبية ، فمازالت البحوث جارية حتى الآن في التفاصيل حول كيفية حدوث التضخم بشكل دقيق . لكن هذا لا يمنع من أن يقرر العلماء أن تضخم الكون لم يكن منتظما تماما كما كانت الصورة التقليدية للإنفجار الكبير . عدم الإنتظام هذا أدى إلى فروقات ضئيلة في درجة حرارة CMBR في أجزاء محتلفة من الكون ، هذه الفروقات لم يمكن ملاحظتها في الستينات ،و لكنه أمكن قياسها بواسطة ناسا في 1992 و 2001 ،و النتيجة أننا أصبحنا مقتنعون الآن أن التضخم قد تم بالفعل .
التضخم الكوني
ربما مما يدعوا للتعجب أن وجود فروق ضئيلة في درجة حرارة CMBR يؤكد حدوث التضخم بالصورة السابقة ، وأيضا انتظام الحرارة في الكون إلى أعلى درجة ممكنة ، يؤكد نفس الحدث وهو التضخم الكوني ، لأن التبادل الحراري في الظروف الطبيعية ( سرعة الضوء) لم يكن ممكنا أن يحقق ما يشبه التعادل الحراري خلال الزمن الذي مضى منذ الإنفجار العظيم .
بالعودة إلى اللحظة الأولى لبداية ظهور الكون سنجد أنه حدث ينتمي للكوانتم لأن حجم الكون كان متناهيا في الصغر يعادل حجم ( بلانك ) الذي هو 1/ بليون تريليون تريليون من السنتيميتر !.و بالتالي فلا يمكننا استخدام قانون النسبية العامة الذي يتعامل مع الأجسام الكبيرة وحدها ،و لكننا سنستخدم مزيج من فيزياء الكوانتم و النسبية العامة ولو بشكل مؤقت ، طالما لا يتوفر لنا قانون كوانتم للجاذبية .
مولد الزمان .
بالرغم من أن أينشتين وحد الفراغ و الزمن إلا أنهما مختلفان في طبيعتهما ، و لو افترضنا أن للزمان بداية و أنه يسير على قضبان في اتجاه محدد لكان من الضروري أن يكون هناك من بدأ حركة القطار، سواء كان إله أو شيطان ،و لكن لحسن الحظ هناك حل آخر أقرب للنتائج العملية التي ظهرت لاحقا .
في البداية كان العالم صغيرا جدا ، و بالتالي يمكن أن نفترض أنه كان محكوما بالنسبية العامة و نظرية الكوانتم في نفس الوقت . في ذلك الموقف الإستثنائي الغريب لم يكن هناك زمن ، و لكن كانت هناك أربع أبعاد للفراغ . نعم أربع أبعاد للفراغ ، فعلينا أن نتقبل أن يكون شكل العالم مختلفا و أن الفراغ- زمن لم يكن كما نعرفه الان . ذلك العالم كان خارج خبرتنا و لكنه ليس خارج تصورنا .