نصف الحقيقة الغائب
يسعدني ويحزنني ما أقرأه في هذا الموضوع من معايرات ومهاترات ومعلومات تاريخية مغلوطة نتيجة جهل عن سابق إصرار أو بغير تعمد .
ما يسعدني هو صحة ظني بالعرب كأمة لا تتقن إلا ثقافة الفخار والعار ، وإن كل أحاديثهم التي تشغل وقتهم هي ممارسة الفخر الموهوم وتوجيه الإهانة للآخرين على عار حملوه ولم يكن لهم ذنب في تحمله .
ويحزنني أننا دائماً ما نسقط في اختبار الإنسانية عندما نأخذ من مصائب الشعوب موضوع للمعايرة وما بالنا أن هذه الشعوب تشاركنا كل شيء شئنا أم أبينا ابتداءاً من التاريخ مروراً باللغة وصولاً للجغرافيا !.
وبغض النظر عن المهاترات والأخطاء التاريخية والجهل الرهيب في قراءة واستقراء التاريخ ، أكثر ما لفت نظري هو محاولة بعض الزملاء تزوير تاريخ المنطقة وخصوصاً ذلك الذي يختص بالتضحيات التي قدمتها شعوب هذه المنطقة في مواجهة المشروع الصهيوني . لا لشيء إلا لأن الأنظمة العربية الأخرى لا تعجبنا وننسى أن شعوبنا جميعها دفعت وتدفع الضريبة حتى هذا اليوم جراء فشل أنظمتها .
إن أحد أشكال الصراع العربي الإسرائيلي الذي خاضته المنطقة هي الصراعات المسلحة .وقد وصلت الصفاقة بأحد الزملاء لأن يقول في غير موضوع عن مصلحة مصر بالحرف:
"المصلحة دي أخدناها بالحرب (( لوحدنا ))" .
هل من المعقول أن تصل الصفاقة بالبعض لحد أن ينسى أن حرب تشرين "أكتوبر" قد خاضها العرب مجتمعين ، وأن الجبهة السورية كانت أساسية لا تقل أهمية عن الجبهة المصرية هذا إذا لم نعتبر المعارك على الجبهة السورية "أشرس" حسب المعطيات الواقعية .
ولكن ماذا نفعل بالتاريخ عندما يقرأه الجهلة والمزورون ؟
وقتها من الطبيعي أن يصبح الجيش العراقي هو من أوقف الزحف الإسرائيلي إلى دمشق وكأن الجيش السوري غير موجود حسب أحد الزملاء (وقد دحضنا ذلك بالوثائق والصور والشرح المفصل في أحد المواضيع ) ، ومن الطبيعي أن يأتي أحد المهرجين لكي ينظر علينا كيف انسحب الجيش السوري من بيروت "بملاعقه وطناجره" ، وينسى أن سوريا قدمت على امتداد المواجهة مع إسرائيل في حرب لبنان أكثر من 10 ألاف شهيد(1) . وقد أغفلنا الرد على هذا التهريج كونه لا يليق بتضحيات الجيش السوري الذي واجه إسرائيل ,
هنا اسمحوا لي أن أكون "صادماً" بعض الشيء للزملاء المنظرين والغير عقلانيين وأن أتوجه لهم بوقائع لا يعرفونها ، وكيف سيعرفون إلا ما أراد الأخرون أن يمرر لهم من التاريخ .
إن تضحيات الجيش المصري أثناء العبور ممثلة بضباطه وجنوده لشيء عظيم والخرق الذي تم على الجبهة المصرية كان أشبه بالمعجزة البشرية ولا ينقص من هذا الإنجاز حقيقة الثغرة كون موازين القوى مختلة لصالح إسرائيل دائماً وأبداً .
لكن على بعض المصريين أن يعرفوا أن هذا الإنجاز ما كان ليكون بشكله الذي تم عليه لولا جبهة الجولان ، والتي تلقت الضغط الأكبر من ناحية الأعمال القتالية تبعاً لطبيعة الجبهة الحيوية بالنسبة لإسرائيل كدولة .
إن جهل البعض بما حصل على الجبهة الأخرى (الجبهة السورية) واكتفائه بالمعلومات العامة والتي لا تعطي انطباعاً صحيحاً سوف تؤدي به إلى نتيجة أن الضغط الأكبر من الحرب وقع على مصر وهذا غير صحيح بالوقائع وبمفهوم النسبة والتناسب !.
فعلى سبيل المثال ، بلغ عدد الطلعات الحربية بحسب المصادر المصرية(2) للطائرات الإسرائيلية صباح 7 تشرين الأول على الجبهة السورية أكثر من 3820 طلعة جوية بينما كان عدد الطلعات على الجبهة المصرية بحدود 1021.
طبعاً لا أريد الخوض في تفاصيل الحرب على الجبهتين وإن كنت قادراً على ذلك ، ولكن كل ما أردت إيصاله لمنظري فكرة بطل الحرب والسلام(3) ، عندما تذكرون كلمة حرب فلا تنسوا "برضاي عليكم" أن سوريا كانت في هذا الحرب مناصفة معكم وليس أقل .
وعندما تذكرون كلمة السلام ، لا تنسوا أن العرب كانوا يحضرون جميعاً لمؤتمر جنيف للسلام (بغض النظر عن تفاصيل هذا المؤتمر) ، ولم يزد السادات على أن التف عليهم وذهب منفرداً(4) . واستطاعت إسرائيل وقتها أن تخرج أكبر قوة عربية خارج الصراع العربي الإسرائيلي بأقل ثمن ممكن .
إن "العبقرية" المفترضة للسادات والتي يتغنى بها البعض ومن حقهم ذلك ، لم يأتي على ذكرها التاريخ حتى الآن ، ولم يذكرها سوى المطبلين والمزمرين وكل حجتهم أن السادات كان صاحب رؤية للصراع العربي الإسرائيلي في المنطقة سبق العرب إليها . نعم إن السادات سبق العرب ولكن إلى ماذا ؟
سبقهم إلى الهزيمة وفتح بابها على مصراعيه لهم . وصدقوني أي مهرج سيفسر معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية (كامب ديفد) على أنها انتصار لمصر سوف نقول له ببساطة إقرأ المعاهدة بتفاصيلها قبل أن تنظر يا أخا العرب !.
في النهاية اسمحوا لي أن أهمس بكلمتين في آذان المنظرين .
الكلمة الأولى : الفلسطينيين شعب مقاوم ، وهزيمتهم أمام المشروع الصهيوني مرحلياً لا تعني تخاذلهم بأي حال من الأحوال ، فمن يملك أدنى عقل ومنطق يعرف أن المشروع الصهيوني كان أكبر من المنطقة برمتها .
الكلمة الثانية : لماذا أقدر عبد الناصر كرجل في سياقه التاريخي (وضعوا خطين تحت سياقه التاريخي) ، ولا أقدر السادات بالمثل ؟
السبب بسيط وهو أن عبد الناصر في عز الهزيمة لم يهزم ، والسادات في عز الانتصار لم ينتصر(5) .... فرق لا يخطئه إلا الأعمى .
الهوامش :
1- لا يوجد بين يدي إحصاءات سورية رسمية منشورة بهذا الشأن ولكن الرقم وصل في بعض التقديرات إلى 14 ألف شهيد .
2- أتت الأرقام مقاربة للأرقام التي ذكرت وإن لم تأتي مطابقة تماماً في أحد كتب المشير عبد الحليم أبو غزالة .
3- من غرائب الصدف أن أدق توصيف للسادات كان من أديب وهو نجيب محفوظ وليس من سياسي ، عندما وصف السادات وهو يمشي مشية الإوزة في عرض 6 أكتوبر بأن "الملابس لهتلر ، والمسلك لشارلي شابلن" .
4- قبل أن "يحج" السادات إلى الكنيست الإسرائيلي في خطوة وصفها بعض المصريين فقط على أنها "ذكية" ، اجتمع مع حافظ الأسد وحاول أن يأخذ تفويضاً من السوريين للتكلم باسمهم ، والسؤال لطالما حارب السوريون بأنفسهم واستمروا بحرب الاستنزاف بعد أن توقف المصريون ، لماذا يتخلون عن دورهم للسادات ، أليس الأجدر بمن يريد أن يتكلم باسم الآخرين أن يحارب عنهم ؟!
5- كانت دموع الفريق عبد الغني الجمسي في مفاوضات الكيلو 101 شاهداً للتاريخ على الهزيمة السياسية التي مني بها المصريون مقابل التفوق العسكري الذي حققوه .