من "تراجيديا تل الزعتر":
(..) ومع الانتصارات الحاسمة لمعسكر اليسار في مطلع 1976 حدث تحول هام في السياسة السورية التي اندفعت في التحالف السافر مع اليمين، سياسيًا وعسكريًا.
كانت دوافع سياسة الأسد الجديدة متعددة. فهو أولاً يريد أن يقضي على أية عراقيل تحد من إستراتيجية القائمة على استعادة الجولان المحتلة بواسطة تسوية سلمية مع إسرائيل، وأهم هذه العراقيل هي وجود حركة مقاومة فلسطينية "متطرفة" ومستقلة عن الهيمنة السورية ومرشحة لأن تزداد "تطرفًا" واستقلالاً في حالة انتصار تحالفها مع اليسار ضد اليمين الماروني. وهو من جهة ثانية يريد أن يقنع اليمني الماروني بقبول "الحماية" السورية وليس الإسرائيلية – الأمريكية، وهو هدف حاول الأسد تحقيقه عن طريق المبادرة التي قدمها في فبراير لإنهاء القتال والتي تنص في الجوهر على الحفاظ على البنية الاجتماعية والسياسية للبنان ما قبل الحرب مع خلق سلطة مركزية أكثر تماسكًا. وأخيرًا فقد كان الأسد واعيًا تمامًا بأن انتصار المشروع الديمقراطي الجماهيري في لبنان، في ظل احتدام ونضج الصراعات الطبقية في المدن والريف، ستكون له حتمًا آثار "وخيمة" في محيط أوسع من لبنان وأن رياح التغيير الثوري آنذاك ستكون مرشحة لتقويض نظامه الاستبدادي في سوريا.
هكذا ألقت سوريًا بثقلها سياسيًا وعسكريًا في معسكر اليمين الماروني لتنضم بذلك للقافلة الأمريكية الإسرائيلية المصرية الأردنية الخليجية، لكي يظهر على المسرح اللبناني مشهد عظيم للتضامن الشرق أوسطى قبل حوالي عشرين عامًا من البزوغ القوى للإيديولوجية الشرق أوسطية على يد منظريها المعاصرين من أمثال شيمون بيريز ولطفي الخولي!
خلال شهر يونيو 1976 أرسل الأسد حوالي 30 ألف جنديًا سوريًا على دفعات إلى لبنان، وإزاء فشل القوات السورية الذريع في احتلال المدن الرئيسية وإجبار المعسكر اليساري – الفلسطيني على الاستسلام أصبحت الإستراتيجية السورية هي السيطرة على المواقع الإستراتيجية، وعزل تمركزات القوات الفلسطينية والتقدمية عن بعضها البعض، ورفع الضغط عن مواقع الميليشيات اليمينية، ومنع وصول إمدادات مدنية أو عسكرية للقوات الفلسطينية والتقدمية. باختصار، حرب تجويع لصالح قوى الثورة المضادة. وفي ظل الوضع الجديد اكتسب مخيم تل الزعتر أهمية قصوى.
فمع توالي هزيمة العسكرية والسياسية حتى قدوم السوريين، لم يعد مشروع اليمين الماروني (الذي كان يظن أنه سينتصر لا محالة في الحرب الأهلية التي فجرها بمذبحة 13إبريل 1975) هو "إبقاء الأوضاع على ما هي عليه" في لبنان وإنما تقسيمه طائفيًا بحيث يتسم جوه يتسم جوه ويسود فيه المنطق الطائفي الرجعي. هكذا صار المطلوب هو "تطهير" المناطق التي يسيطر عليها اليمين، وأهمها بيروت الشرقية من كل من هو غير ماروني، عن طريق مجازر بربرية لأحياء الفقر المدقع التي تسكنها أغلبية شيعية مثل الكرنتينا والمسلخ والنبعة والمخيمات الفلسطينية في بيروت الشرقية وأهمها على الإطلاق تل الزعتر الذي وصل سكانه في 1976 لحوالي 30 ألفًا نتيجة لتدفق أعداد هائلة من فقراء الفلسطينيين والفقراء عمومًا عليه خلال السنوات القليلة السابقة.
في 4 يناير 1976، اعترضت ميليشيا الكتائب قافلة الطعام في طريقها لتل الزعتر ليبدأ بذلك حصار المخيم، ذلك الحصار الذي صار شديد الإحكام منذ النصف الثاني لفبراير. ورغم خضوع تل الزعتر لحصار تجويعي بالغ القسوة منذ أواخر فبراير حتى أواخر يونيو، فقد حال عامل عسكري هام دون قصف المخيم طوال هذه الشهور الأربعة. ففي محاولة لإنقاذ تل الزعتر قامت قوات الحركة الوطنية بحصار بلدة زحلة المارونية وأعلنت الحركة اتخاذ سكان زحلة رهينة لمنع ضرب تل الزعتر. وبالطبع غير التدخل السوري هذه المعادلة، حيث رفع السوريون الحصار حول زحلة وقاموا أيضًا بتشتيت جميع القوات الفلسطينية والتقدمية القادرة على الوصول لمنطقة المخيم وبذلك فتحوا الباب على مصراعيه أمام الهجوم اليميني على تل الزعتر.
بدأ قصف تل الزعتر في 21 يونيو بواسطة ميليشيا النمور بزعامة كميل شمعون التي سرعان ما انضمت إليها الكتائب، وفي ظل إشراف القوات السورية. وعلى الرغم من أن سكان المخيم كانوا قد عاشوا في ظل حصار شامل لمدة أربعة شهور اعتمد بقاؤهم خلالها على تناول كميات غاية في الضآلة من المياه والعدس، ورغم ضراوة القصف الذي اشتركت فيه أحيانًا المدفعية السورية مباشرة، فقد صمد أهالي تل الزعتر صمودًا فاق كل تصور. كان مخيم جسر الباشا القريب من تل الزعتر والذي كان يضم حوالي ألفين من الفلسطينيين أغلبهم من المسيحيين قد سقط في 30 يونيو، وتوقعت أكثر تقديرات اليمينيين تشاؤمًا أن يسقط تل الزعتر
خلال عشرة أيام. إلا أن أهالي المخيم استطاعوا الصمود في ظروف يصعب وصفها بالكلمات حتى 12 أغسطس.
وعلى مدى 52 يومًا قصف المدفعية، كان عدد القتلى يوميًا في المتوسط 25 شخصًا إلى جانب حوالي مائة جريح. وخلال الشهر الأول للقصف، منعت الميليشيات اليمينية والقوات السورية دخول الصليب الأحمر الدولي إلى المخيم كما حالت دون وصول أية إسعافات حتى أن أي إصابة بسيطة كانت تتحول إلى غرغينا. وعندما تم السماح أخيرًا في 23 يوليو لبعض مسئولي الصليب الأحمر بدخول المخيم، فإنهم وجودا حوالي 700 مصاب في احتياج ماس للإجلاء بينهم أطفال كثيرون كانوا يموتون بأمراض مثل الإسهال والجفاف.
وعندما سقط المخيم أخيرًا في 12 أغسطس وتمكنت الميليشيات اليمينية من دخوله كان عدد القتلى من جراء القصف اليومي على مدى 52 يومًا قد تجاوز الألف. إلا أن دخول القوات اليمينية للمخيم كان بداية لحمام دم جديد أشد قسوة من كل ما سبق. فقد راحت الميليشيات تنظم كمائن جبانة للسكان العزل حيث تدعوهم بالميكروفونات للخروج من المخابئ بدعوى إجلائهم ثم تطلق النار عليهم. وراحت المليشيات المختلفة تتنافس على ذبح أكبر عدد من الفلسطينيين بطرق لا تخطر ببال. تعرضت عائلات بأكملها للذبح. ورفضت الميليشيات بإصرار السماح بإجلاء أي رجل إلى بيروت الغربية، وكان تعريفهم للرجل هو "الذكر الذي يتراوح عمره بين عشرة أعوام وخمسين عامًا! وتعرضت أعداد غفيرة من النساء للاغتصاب قبل ذبحهن، بينهن فتيات كثيرات يقل عمرهن عن عشرة سنوات. بل إن الخسة بلغت بالقوات التي اقتحمت المخيم، تحت أشراف الضباط السوريين، أنهم قاموا بصف 60 من ممرضي المخيم في صفين وأطلقوا عليهم الرصاص في واحدة من أسوأ المذابح.
(...) إن ملحمة تل الزعتر مليئة بالدروس التي ينبغي على الثوريين وضعها نصب أعينهم. إنها تؤكد لنا قبل كل شيء وبشكل ملموس
الأساس الاجتماعي لتهادن البرجوازيات العربية مع إسرائيل. فهذه البرجوازيات تخشى الجماهير أكثر بآلاف المرات من كراهيتها للإمبريالية. كما أن هذه البرجوازيات قد بلغت من الانحطاط والعفونة حدًا لا يستحق معه مزيدًا من البقاء. إن بقاءها يعني الشقاء الذي يفوق التصور لمئات الملايين من البشر.
http://www.e-socialists.net/node/4720