مرحبا أستاذنا العلماني
اقتباس: فلقد وقعت على "جملة لمعاوية" جعلتني أتعجب من هذه "الميكافيلية والبراغماتية" التي كان عليها هذا الرجل. "فالمبرد" يروي أنه عندما دفع معاوية ولده للخلافة، جاءت الناس زرافات ووحداناً كي تبايعه وتمدحه وتتملقه مما أثار تعجب "يزيد" فقال لأبيه: أترانا نخدع الناس أم أن الناس يخدعوننا؟ فأجاب معاوية: "إذا تخادع لك أحدهم حتى تنال أربك منه، فلقد خدعته".
صعقتني بجد هذه الجملة وما فيها من براغماتية والتصاق بالهدف النهائي، وبت ليلي وأنا أعجب لهذا الرجل ومقدار رؤيته النافذة، وقلت لنفسي أن إنساناً مستقيماً مثل "علي بن أبي طالب" لن يفكر يوماً هكذا، ولذلك فالنوائب والخطوب والدواهي يلزمها "معاوية" أكثر مما يلزمها "علي" الشريف الأبي العفيف حتى لو أسرف أخوتنا الشيعة في هجاء "ابن هند" ورهطه.
أنا أقدر علمك, ورؤيتك أحترمها كثيراً .. لكن هذا لا يمنع أن أختلف معك , والخلاف أمر طبيعي لا يفسد للود قضية ..
برأيي أن الإمام علي كان أوفر حظاً من معاوية بمراحل من حيث الذكاء السياسي, ولكنه لم يكن يستخدم معطياته لأبعد حد ولآخر قطرة كما كان يفعل معاوية, وكانت أخلاقه تحجزه عن هذا.. وهذا لا يعني أنه لم يكن رجل دولة كمعاوية, لأن الفرق بين الفقر وبين الادخار أو الامتناع - سمه ما شئت -واضح ..
وأنا لي وجهة نظر ربما أخذتها في اعتبارك وأنت تقرأ في سيرة علي ومعاوية مستقبلاً , وأنا متأكد أنها ستعجبك , وهي : أن معاوية كان يريد الحكم بأي ثمن ولو بفرض نفسه على الناس كما في القصة التي تفضلت بذكرها عن أبي العباس المبرد, وأما الإمام علي فكان يريد الناس لا الحكم بالضرورة .. أي أنه يريد "قاعدة شعبية" ذات حد أدنى كما وكيفاً , تستطيع أن تثبت معه في عمليات الإصلاح التي سيقوم بها .. وكان يرى أن الشعب الذي لا يدرك قيمة "علي" ويمكن أن يضحي به في سبيل مال معاوية وطعامه : فهو شعب لا يستحق نجدة علي .
قد تختلف معه في هذه الرؤية, ولكن هذه هي الديمقراطية الحقيقية, وقد أخطأ الشيعة حين ظنوا أن النبي ص نص على الإمام علي كخليفة من بعده. وإنما كان النص عليه كإمام وقائد ديني إصلاحي يشوره الحاكم المنتخب بإرادة الأمة, لا حاكم مباشر ولو ضد إرادة الأمة.
قد تقول : وما الفرق بينه وبين إصلاحات معاوية ؟
أقول لك : أن بيت المال لم يكن للفقراء زمن معاوية وكل بني أمية, وإنما كان للطبقة الحاكمة وحاشيتها ( الأغنياء ) ومن هنا كانت ثورة أبي ذر الغفاري وشيعة علي على عثمان الذي فتح هذا الباب, وكان الإمام علي يريد أن يقفله, لأن الدولة لن تكون للشعب ولا لإرادة الأمة وإنما على العكس ..
وقد كان !
فقد اشترى معاوية ذمم الناس بماله وكثر الناس حوله, ومنهم صحابة كعمرو بن العاص وأبي هريرة صاحب المقولة الميكيافيللية الشهيرة يوم الجمل ( الصلاة عند علي والطعام عند معاوية ), وكان أبو هريرة ( رضي الله عنه ) ميكيافيلياً أنموذجياً ومن رؤوس النفاق , لدرجة أن "جارية بن قدامة" حين أرسله علياً إلى المدينة لإنقاذها من ذباح معاوية بسر بن أرطأة قال : لو رأيتُ "أبا هر" لضربت عنقه. وكان قد فر من المدينة لما علم بقدومه. وكان إذا قطع عنه معاوية العطاء تكلم عليه , وإذا أعطاه سكت.
إذن معاوية لم يكن رجل دولة , وإنما كان - ولا حتى ديكتاتور بالمعنى المحترم البناء كعبد الناصر - وإنما كان اناني من نوع حسني مبارك وبقية الشلة المعروفة.
إن معاوية هو من أسس للحكام العرب المعاصرين تلك السياسات الاحتكارية, وتجاهل الناس, والجمع بين المال والسلطة .. وكان الإمام علي على العكس من هذا , كان يريد الحكم لإصلاح ما أفسده عثمان سامحه الله وغفر له, وكانت مهمة صعبة لها عدة أوجه ليس الوجه الاقتصادي هو أوحدها, ومع إجلالنا لما فعله عمر بن عبد العزيز من اصلاحات لما أفسده حكام بني أمية, إلا أن إصلاحاته كانت اقتصادية لا فكرية, وقد اقتصر جانبها الفكري على منع سب الإمام علي على المنابر (فضائيات هذا العصر).
وأما ما كان يريده الغمام علي فقد كان أكبر من قدرات رجال هذه المرحلة, ومن كان مؤهلاً للقيام بها والثبات مع الإمام, فقد كان أقل من القليل .. وكانت الاغلبية تتطلع إلى مال ورشاوى معاوية وبيت المال المستباح .. و ( كرم معاوية ).
الإمام علي فعلاً قال أنه لم يكن يستخدم كل إمكاناته مثل معاوية ( ولكن معاوية يكذب ويفجر ) .. منطق الميكيافيللية منطق سياسي أصيل في التعامل مع الخصوم , ولكن لا تنس أن في الإسلام مبدأ يبيح استخدام ما أمكن وما تيسر من ذلك , هذا المبدأ هو : الحرب الخدعة .
وعلى أي حال لا نريد أن نبحث هل هذا المبدأ هو مبدأ رحيم أم حكيم , وهل الأفضل أن يكون الإسلام ( مثالي ) ليس فيه خداع, ام أن السياسة تحتاج إلى شئ من نكهة ميكيافيللي , وإنما يكفي أن نعلم أن علياً كان يمتلك مقومات ( رجل الدولة ) و ( رجل المرحلة ) , ومعاوية كان داهية ولكن في سبيل نفسه هو لا لأجل رسالة مدنية نبيلة ..
هذا هو مفتاح شخصية الإمام علي
ومفتاح شخصية معاوية
ولا يمكن ان نفهم الأحداث جيداً وإلا ونحن نحمل هذا المصباح.
وتصبح على خير
وفي امان الله