(02-07-2012, 02:21 PM)خالد كتب: وهل من الصواب أن يكون مجرد الوجود في بقعة جغرافية ما هو السبب الذي يجمع الإنسان مع الإنسان؟
مجرد التواجد في بقعة جغرافية لا يكفي لجعل الإنسان في علاقة مع إنسان آخر، وإلا لكان من الضروري أن تنشأ العلاقة بين ابن درعا والرمثا المتداخلين جغرافيا وسكانيا، ولا تنشأ بين ابن درعا وحلب النائيين بلدا ودارا، وكان من الضروري أن تنشأ علاقة متينة بين أبناء رفح المصرية ورفح الفلسطينية عن أن تنشأ بين رفح الفلسطينية وابن قلقيلية، أو رفح المصرية وابن القاهرة.
مجرد التساكن في بقعة جغرافية لا يكفي لجعل أفرادها من البشر يرتبطون بغير شيء، لأن الارتباط يحتاج علاقة، والعلاقة سببها اتفاق في الحكم على صحة العلاقة، ورضا بقيمة هذه العلاقة، ونظام يحكم بين الفردين او ينظم شأن هذه العلاقة بينهما.
ما يجمع بين الإنسان والإنسان ليست البقعة الجغرافية التي فيها يقطنون، ولا العرق الذي إليه ينتمون، ولا الروحانيات التي بها يدينون، ما يجمع بين الإنسان والإنسان هي الأفكار التي تشكل تصوراتهم عن العلاقات الدائمة بين هذه الجماعة المعينة، هذا ما يجعلهم أمة، وهوذا الأمة الأمريكية مثال صارخ.
"نحن الأمة الأمريكية"
هم يسكنون في ما يعد خمسين دولة، بينها بعد المشرق والمغرب، ومنها ما هو ناء بعيد، يرجعون لأعراق متباينة، وينطقون لغات أم شتى، لكنهم سياسيا يؤمنون بالفكرة الأمريكية، ويسعون لتحقيق الحلم الأمريكي، جلهم مهاجرون وأبناء مهاجرون.
إن كان الأمر بروحانيات لا علاقة لها بالحياة للزم أن تكون أوروبا دولة واحدة منذ القديم
إن كان الأمر بأمة ذات عرق واحد، فهوذا المجلوسكسون قد توزعوا على أكثر من دولة كلها ناجحة، وهوذا الهند وروسيا والبرازيل والولايات المتحدة قد تشكلت بأكثر من عرق
وإن كان الأمر ببقعة جغرافية ما، فليت شعري أين تبدأ هذه الرقعة وأين تنتهي ومن يحدد حدودها ولماذا هو الذي يحدد ولماذا هذه الحدود تحديدا؟ وما أثر البقعة الجغرافية هذه على نوع العلاقات القائمة بين أفراد المجتمع؟
تأمل بكلامي يا أوبزيرفر وتدبره، ولا تدفعنك خصومتك القديمة للإسلام ومحمد أن ترفض قولا دون أن تقرأه، (ولا يجرمنكم شنـءـان قوم علىٰٓ أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوىٰ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون)
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم !!!
يتحفنا "خالد"، كالعادة، بآراء - "غير نضيجة" - بعبارة الشهرستاني - وعلينا أن نعيد معه "تدوير الدائرة".
يا خالد يا سندي
الاجتماع الإنساني - والعلاقات التي تحكمه - قد يكون مبنياً على "رابطة الدم" (أسرة، عائلة، عشيرة، قبيلة، عرق .. إلخ) أو "اللون" (جنوب افريقيا سابقاً) أو "العقيدة" (الدين، الأيديولوجيا) أو "الجغرفيا" (المكان) أو كل هذه الروابط أو بعضها. ولعل "التاريخ" (الزمان) يدعم هذه الأطر ويقويها ويزيد من تفاعل الناس فيها.
روابط الدم واللون هي روابط "عنصرية" ضيقة نبذتها الدول والمجتمعات الحديثة. رابطة "العقيدة" (الدين والأيديولوجيا) مثل "دولة النبي في المدينة بعد ذبح اليهود وطردهم" و"المنظومة الشيوعية قبل سقوط الاتحاد السوفياتي" ، هي روابط "متغيرة متقلبة غير ثابتة" لأنها مبنية على "أفكار ووجدانيات وقناعات متقلبة" أثبتت عقمها في كثير من المرات.
الرابط الوحيد الذي لجأت اليه الدول الحديثة كي تنضد عليه "نظمها السياسية" هو الرابط الجغرافي (رابط المكان) والذي عرفت فيه الشعوب الحديثة "أوطاناً لها". فصار من يولد على ارض "دولة ما" يتمتع - بشكل عام - بمواطنة تلك الدولة.
"الأرض \ الجغرافيا \ المكان" الذي يبدو لك، وقد يبدو لغيرك، أنه غير مهم كثيراً هو عامل رئيسي في تشكل الكثير من مميزات الإنسان. أضف إلى ذلك "حيادية" هذا العامل الذي يستطيع أن يتسع "لجميع اصناف البشر" فوق رقعة معينة دون تدخل في "قناعاتهم وافكارهم" وبالتالي دون "قمع" لهم من مخالفيهم.
"للمكان" (الجغرفيا) تأثير واضح على "اللون والفيزيولوجيا البشرية". وليس وليد المصادفة أن يكون "النرويجي" أشقر و"الأفريقي" أسمر. وعلى "المأكل والمشرب" الذي يختلف من مناخ لآخر، وعلى "الأطباع والعادات والتقاليد" (الكرم والشجاعة عند بدو الجاهلية مثلاً كانت أيضاً وليدة المناخ ومكان السكن). وأعتقد بأننا نستطيع - ببساطة - أن نقارن بين "هدوء النيل وعظمته" وبين "الحضارة " التي أنتجها "وادي النيل" على مر عصوره.
الجغرافيا تؤثر في "اللغة وآدابها" وفي "الفنون" جميعها. ولو بقينا في حيز اللغة العربية فلسوف نشهد سيلاً من الكلمات والمرادفات "للجمل والأسد وحيوانات الصحراء" ولن نجد إلا كلمة واحدة "للفيل" أو "للثلج" إلخ . بل ان المطالع للشعر الجاهلي مثلاً سوف يجد ان لغة الجاهليين ألفاظها وحشية غريبة بالقياس إلى "لغة المولدين" السهلة الخفيفة البسيطة (قارن "لامية الشنفرى" مثلاً بقصائد "ابن المعتز" أو بالموشحات الاندلسية ولسوف تلحظ الفرق واضحاً). بل انه كان يحلو لي منذ سنوات خلت أن أقارن "الموسيقى اللبنانية" التي أحسها مثل "شلال حطه السيل من عل" في مواويل وديع الصافي وصباح مثلاً و"الموسيقى المصرية" السلسة العذبة ذات النغمة "الصبورة" في موسيقى "الست" مثلاً. وأنت لو كنت محباً لفنون "الرحابنة" مثلاً فإنك سوف تعلم أن "وعي منصور وعاصي" تشكلا من خلال "الضيعة اللبنانية" بجغرافيتها، وأنت لو وضعت أغنية "يا طير" (فيروز في "سفر برلك") خارج إطار "الثلج والجرد" فإن نصف "المتعة" سوف تضيع وتتلاشى.
الجغرافيا إذا عامل أساسي في "هيئة الإنسان" و"تشكل وعيه" وعلاقاته بمحيطه وبأشباهه من البشر. لذلك أوصى "رسولك" "بسابع جار"، وقال مثلنا الشعبي: "فتش على الجار قبل الدار"، بل وقدّم "الجيرة" (المكان) على رابطة الدم عندما قال: "جارك القريب ولا أخوك البعيد".
الجغرافيا تلعب أيضاً دوراً رئيسياً في "التاريخ"، وكم من حوادث إقليمية كانت سبباً لتغيير عجلة التاريخ، "فانهيار سد مأرب" مثلاً غيّر خارطة الجزيرة العربية و"ممر جبلي ضيق بجانب أثينا" كان قد غيّر التاريخ قبلها أيضاً أعطى للإغريق الغلبة على العالم القديم مع جميع تداعياته العظيمة.
"البقعة الجغرافية" إذاً ليست كلمة بسيطة لا تأثير لها على الناس وعلاقاتهم، فهي - كما أوضحنا - مؤثرة في الزمان والبشر بشكل مهم جداً. وهي "وعاء الوطن"، فلا "وطن" دون "مساحة جغرافية" تحدده (حتى لو كانت الأرض كلها وطنك فأنت مرتبط بمساحة جغرافية).
بالإضافة إلى هذا كله فإن "الجغرافيا" (المكان) لها طابع مؤات لبناء الدول والتنظيمات السياسية. إنه طابع "الحياد". فالأرض (المكان) محايدة بما يتعلق بالبشر، فهي تتسع لهم جميعاً. منها يأتون وإليها يعودون (حسب التعبير الديني) ولا تفرق بين أسودهم وابيضهم ومسيحيهم ويهوديهم ومسلمهم إلخ. لهذا ذهبت "الدول الحديثة" إلى ربط "نفسها بالجغرافيا". "فالجغرافيا" هي "وعاء الوطن"، وإن اختلفت كثيراً الظروف والعوامل والأيديولوجيات والأعراق والألوان التي رسمت حدود الوطن فإن الوطن "جغرافياً" واحد. "فمصر" هي "مصر" لجميع سكانها بجميع ألوانهم وعقائدهم ومذاهبهم. "والأرض المصرية" - مثلاً - لا تفرق بين الفلاح المسيحي والفلاح المسلم، والشمس في القاهرة تدخل من نافذة المؤمن ولا تستثني نافذة الكافر. لذلك "فالجغرافيا" بتأثيرها العميق في تكوين المجتمعات البشرية وحياديتها المطلقة هي الأصلح لأن تكون "وعاء للوطن الحديث" من ناحية، وهي الأفضل لبناء "كيان سياسي" نستطيع أن نطبق فوقه جميع قواعد اللعبة الديمقراطية دون حرج.
أخيراً يا سندي، قل لي بربك ما هي "فلسطين" دون "المساحة الممتدة بين راس الناقوة شمالاً وأم الرشراش جنوباً"؟ وما الذي يجمع بينك أنت المسلم الأصولي وبيني أنا الكافر من أصول مسيحية غير هذه البقعة الجغرافية "اللي مش عاجبتك"؟ هل تجمع بيننا أفكارنا ونحن "لا نطيق بعض فكرياً"؟ وما هي "مأساتنا كفلسطينيين" إن لم تكن "مأساة جغرافية" أولاً (يعني لو أخذ اليهود "أوغندا" مثلاً فهل سيكون لدينا قضية "فلسطينية" ؟ أكيد لأ).
ملاحظة أخيرة: مثالك عن "أمريكا" "فاسد" يا سندي، فالجغرافيا هي التي شكّلت أمريكا قبل هذه الروح الأمريكية التي تتحدث عنها والتي لم تبرز للعيان إلا بعد سنين عديدة من رسو السفينة "مايا فلاور" في إحد مواني "خليج ماساتشوستس" الضيقة سنة 1649. ولو لم تكن هذه "البقعة الجغرافية" بعيدة جداً وواسعة جداً وغنية جداً لما صارت الولايات المتحدة اليوم إلى ما صارت إليه (طبعاً، هناك جهود بشرية واضحة المعالم، ولكن "البقعة الجغرافية" لها دائماً أثر واضح في جميع هذا، وهي الأصل وعليها نستطيع أن نبني بشكل افضل من ا لبناء على "الافكار المتغيرة" التي كثيراً ما تلازمت مع العفن والنتن ولو بعد حين").
واسلم لي
العلماني