من شوارع العالم
الحركة الإسلامية: زمن الأسئلة الصعبة
فيصل حوراني
فوزٌ في انتخابات المجلس التشريعي سيق للحركة الإسلامية الفلسطينية (اقرأ: الإخوان المسلمين أو "حماس") فبدا كأنه وقَعَ عليها وليس لها. السيد خالد مشعل أعلى قادة الحركة المعلنين مرتبة وصف ظَفَرَ حركته بأغلبية التشريعي بأنه فوز مفاجئ في حجمه. وهذا إقرار تجلوه وقائع صارت في المتناول، فيصير معناه أن الحركة لم تستهدف أو تتوقع أن تشكل الأغلبية. والواقع أن الحركة استهدفت تشكيل كتلة كبيرة، كتلة مانعة، تحرم "فتح" ولفيفها من الاحتفاظ بأغلبية الثلثين التي كانت لها. ويبدو أن أقصى ما طمحت إليه الحركة الإسلامية هو الحصول على أربعين بالمائة من مقاعد المجلس والهبوط بحصة "فتح" بالذات إلى ما دون ذلك. وبالفوز المفاجئ، وجد الفائزون أنفسهم في ورطةٍ أين منها ورطات "فتح".
ينفي السيد مشعل أنه هو وإخوانه في ورطة. وقد يكون مبعث هذا النفي ثقةً بالنفس، كما قد يكون المكابرة أو تجنب إعطاء الإنطباع الضار بأن الحركة الإسلامية سيقت إلى وضع لم تتهيأ له بعد. إلا أن الصورة التي رسمتها صناديق الاقتراع تظهر أن الورطة مستحكمة سواء أقر الإخوان بأنهم يحسّون بها أو أنكروا، وأن حركتهم تواجه ما لم يتهيأوا له بعد.
وها نحن نشهد تعاقب وجوه قادة الحركة الإسلامية الفلسطينية على شاشة التلفزيون ونسمع هدير أصواتهم أو هسيسها في الإذاعة ونقرأ كلامهم في الصحف، فلا نملك إلا أن نندهش: الفائز محشور في زوايا محرجة، يقدم التطمينات لمنافسيه الفلسطينيين ولأعداء شعبه بأقل مما يقدم بشائر للذين انتخبوه. نرى، ونقرأ، ونسمع، فنحس بالشفقة على الفائز أكثر مما نحس بالحاجة إلى مواساة الخاسر. وأكثر ما يثير الشفقة هو مشهد قادة الحركة وهم يتلجلجون في خطابهم العقائدي والسياسي والاجتماعي ويتجنبون الإفصاح عما يوجب حصولهم على الأغلبية أن يفصحوا عنه.
وإزاء ما هو معاين ومسموع ومحسوس، أي إزاء الإبهام وبث الشيء وعكسه دون يقين، نسأل هذا السؤال: لو أن الإخوان ليسوا في ورطة، فلماذ يقفون في موقع الدفاع وهم الفائزون، ولماذا لا يستطيعون أن يجهروا بما يريدون أن يصلوا أو يوصلوا الآخرين إليه؟ وتنداح الأسئلة الصغيرة والكبيرة فيما يرى الجميع أن خطاب الإخوان لا يقدم إجابات مستقيمة وخالية من الإبهام على أي سؤال.
فإلى متى يستطيع إخوان فلسطين أن يتفلتوا من تقديم الإجابات، وهل يمكن لخطابهم الملتوي إلا أن يزيد ورطتهم استحكاماً. وما ذنب الجمهور، وبأي حق يُدفع الجمهور إلى مكابدة مزيد من الأذى، لا لشيء إلاّ لأن في حلوق إخوانه ما يمنعهم من مواجهته بعيون غير زائغة ومصارحته بما ستؤول إليه مواقفهم؟
يقول السيد مشعل: أعطونا وقتاً، ويكرر هذا القول بنبرة مترجية. ولكن القائد الإخواني لا يحدد الوقت المطلوب ولا يبين لماذا يريده. وبهذا، لا يفعل المتأنق في الهندام والقول سوى أنه يستثير مزيداً من الأسئلة. فهل تحتاج قيادة الإخوان الفلسطينيين إلى الوقت لأن في داخلها من يعارضون التحول بحركتهم إلى الانخراط في العملية السياسية. هل تحتاج القيادة هذا الوقت كي تعالج الخلافات التي في داخلها، أو أنها تحتاج الوقت كي تتمكن من تهيئة أعضاء الحركة لتقبل ما يصعب تقبله من تحول في المواقف الأساسية، التحول الجاري والذي لا مناص من استكماله؟ هل تريد قيادة الحركة الفلسطينية أن تتبين حصتها من الغرم والغنم كليهما في إطار التفاهمات التي تعقدها القيادة الدولية للإخوان المسلمين مع الولايات المتحدة ولفيفها. وهل يتوجب على الشعب الفلسطيني أن يتحمل الإبهام وعواقبه المؤذية لا لشيء إلاّ لأن قادة إخوانه لم ينهوا تحديد موقفهم بين جمهرة الإخوان المسلمين المتجهة حثيثاً إلى التفاهم مع الولايات المتحدة؟
ويدعو السيد مشعل "فتح" وفرقاء العمل الوطني الفلسطيني الاخرين إلى ما يسميه هو المشاركة السياسية وما يطلق عليه إخوانه أسماء أقل رومانسية. ويلح السيد مشعل وإخوانه على الآخرين كي يستجيبوا لدعوتهم ويعرضوا شتى المغويات. فيُظهر الإلحاح والعروض أن الفائز بأغلبية التشريعي عاجز عن التفرد بالحكومة لأن تفرده بها سيجعل ورطته الراهنة ورطات عدة. ومع الإلحاح والعروض، يتجاهل السيد مشعل وإخوانه ما فعلوه هم إزاء دعوة الاخرين لهم إلى المشاركة السياسية وغير السياسية، وكيف أبت الحركة الإسلامية بمسمياتها المتعاقبة أن يشتركوا مع الآخرين في أي محفل وطني، وكيف أنهم لم يعقدوا تحالفاً ثابتا ودائماًً مع أي قوة وطنية منذ نشأتهم إلى يوم الناس هذا.
فلماذا يراد لنا أن ننسى كيف ناوأ إخوان فلسطين منظمة التحرير منذ نشأتها وساندوا النظام الأردني الذي تقدم المعترضين على إنشائها، وكيف صبّوا على المنظمة أقذع الأوصاف وأشنع التهم. ومنذ نشأت السلطة في الأرض المحتلة، وهي ذراع من أذرع م.ت.ف. ناوأها الإخوان وعملوا كل ما هو مشروع وغير مشروع لإضعافها. ولو أن الإخوان ناوأوا السلطة من موقع الاختلاف معها في الرأي، في السياسة، دون أن يعملوا على إضعافها حتى في مواجهة العدو، لاستفادوا وأفادوا. لكنهم، فيما يرى كاتب هذه السطور وكثيرون سواه ممن اشتدوا في نقد "فتح" من موقع الحرص على تصويب سياستها وتجويد أدائها، لم يناوئوا "فتح" والسلطة من هذا الموقع، بل تشددوا في العمل على إضعافهما وحتى تفسيخهما. ويعرف الجمهور أيضاً، وفي عداده الذين صوتوا لصالح الحركة الإسلامية أن "فتح" على عجرها وبجرها الكثيرين فعلت العكس، فتشبثت ببقاء الحركة الإسلامية فعالة في الساحة، ودفعت ثمناً غالياً وهي تعارض الضغوط التي استهدفت إخلاء الساحة من هذه الحركة.
وفي اليقين أن السيد مشعل وإخوانه في قيادته يعرفون أن حركتهم ستصل إلى ما وصلت إليه "فتح" منذ سبعينيات القرن المنصرم وثمانينياته، فتنخرط مثل سواها في مجهودات التسوية السياسية وتكفّ عن ممارسة ما يُعدّ معارضاً لها. ويعرف السيد مشعل بالطبع ما أبلغ إليه سراً وعلناً أيضاً من أن "فتح" لن تقبل المشاركة التي يدعو هو وبعض لفيفه إليها ما لم تقبل الحركة الإسلامية توفير الثقة اللازمة بأنها لن تعود إلى سيرتها الأولى ولن تواصل نهج التمتع بما ترى هي أنه حُسنيان معاً: حماية الآخرين لها؛ والاحتفاظ بنظافة اليد من عقابيل التنازلات التي فرض الواقع على م.ت.ف. وفرقائها جميعاً أن يقدّموها.
لقد انقضى أكثر من عشر سنوات على وجود السلطة. وقد دفع الرئيس ياسر عرفات حريته ثم حياته ذاتها ثمناً لمواقف كان من بينها رفضه أن يخلي الساحة من الإخوان. ثم واصل الرئيس محمود عباس النهج ذاته، النهج الذي كان عباس شريكاً لعرفات في رسمه، وجازف بأن يتعرض لما تعرض له رفيق عمره الراحل. فهل يريد قادة إخوان فلسطين للجمهور أن ينسى سلوكهم هم مقابل هذا. ولماذا ينسى الجمهور أن الحركة الإسلامية تمتعت بمغنم دفاع الاخرين عنها وأبت أن تشاركهم في الغرم أو أن تعينهم ليخرجوا من ورطتهم ومن الذي ينسى مسلك "حماس" في لجنة المتابعة العليا؛ ألم تدأب "حماس" دون أن تملك الأغلبية على التفلت من التزام قرارات اللجنة بما فيها القرارات التي توافق عليها. فبأي حق تطالب الحركة الإسلامية الآخرين الآن بأن يشاركوها في الحكومة فيما هي تملك أغلبية التشريعي ما لم تبدل موقفها وتوفر الثقة بأن سلوكها المغرد دائما خارج أي سرب سوف يتبدل هو الآخر.
يقال هذا ليس من أجل أن تكون واحدة بواحدة، ولكن من أجل المساعدة في وضع اليد على ما هو ضروري ومفيد في توفير الأرضية التي يمكن لتحالف وطني أن يستقر عليها. والضروري الذي هو مفيد يوجب على الحركة الإسلامية أن تتواضع فتبدل برنامجها، برنامج الحدود القصوى، وتقبل برنامج الإجماع الوطني، برنامج م.ت.ف.
وإذا أريد للقول أن لا يستر أي حقيقة، فلا بد من المصارحة. فكل من يعنيهم الأمر يعرفون أن الحركة الإسلامية ستأتي إلى برنامج التسوية، إما بإرادة نابعة من داخلها وإما بتأثير ضغوط الذين يخيّرونها بين المجيء إلى التسوية أو إخلاء الساحة. وها نحن نشهد كيف ينهي الإخوان المسلمون في المحيط الواسع إبرام التفاهمات مع الولايات المتحدة ونعرف ما هي الإستحقاقات العقائدية والسياسية والاجتماعية المطلوبة منهم لكي يتمتعوا بما يتصورون أنه ثمرة هذه التفاهمات.
وأيا ما كان عليه الخيار الذي ستختاره الحركة الإسلامية الفلسطينية فإن قادتها يحسنون صنعاً إذا لم يتأخروا في صياغة مواقفهم وعرضها بشفافية. والذين يصارحون إخوان فلسطين بالحقيقة هم وحدهم الذين يصدقونهم النصح: الابهام لا ينفعهم ولا التلكؤ، والخطاب المزدوج ضار، وحجب المعلومات عن الجمهور حول ما يجري في المحيط الإخواني الواسع لا يلائم زمننا الذي لا أسرار فيه. ولا عذر لقادة الحركة إذا تهيبوا إزاء الجهر بما هم مدفوعون إلى التنازل عنه، الجهر به بلغة مستقيمة لا يشوبها أي التواء. والهيّاب لا يصلح للقيادة.
ولكي يمكن أن ينشأ تحالف وطني شامل يجنب الشعب الفلسطيني مزيداً من الكوارث، لا بد من حوار ينطلق من الحقائق الباردة، وليس من الرغبات والعنجهيات. والمأمول في هذا السياق أن لا تخطئ قيادة الحركة الإسلامية في قراءة مدلول الفوز الانتخابي الذي وقع لها أو عليها للتو. ففلسطينيو الأرض المحتلة يشكلون ثلث الشعب الفلسطيني فقط، والذين سجلوا أسماءهم في السجل الانتخابي لا يزيدون إلاّ قليلاً عن نصف الذين لهم حق الاقتراع. والذين أدلوا بأصواتهم لم يزيدوا إلاّ قليلاً جداً عن ثلاثة أرباع المسجلين. ومن هؤلاء صوّت لصالح الحركة الإسلامية بعضهم وليس كلهم. واذن، فإن من وفروا للحركة أغلبية التشريعي لا يشكلون سوى نسبة متواضعة من ابناء الشعب كله، فلا يبيح هذا لقادة الحركة أن يزعموا أن غالبية الشعب تقف وراءهم مثلما أنه لا يبيح لهم أن يسلكوا على هذا الأساس.
بكلمات أخرى: التواضع مطلوب حتى لا يبقى أحد على شجرة يتعذر عليه النزول عنها إلاّ إذا جازف بأن يتحطم. والقاعدة الاجتماعية التي تستند الحركة إليها اصغر ربما بكثير من حجم الذين صوتوا لها. في حين أن القاعدة الاجتماعية للآخرين أكبر من حجم الذين صوتوا لهم. ولقد تعددت مصادر التصويت للإسلاميين: الضيق بأداء السلطة حتى من قبل كثيرين من أنصارها، الفساد، الإحساس بالتأذي إزاء صراعات كتل "فتح" المتعددة وأثقالها على الجمهور. وهذه عوامل كان من الممكن أن لا توجد، وليس من الضروري أن تستمر. والقاعدة الاجتماعية الثابتة التي تستند إليها الحركة الإسلامية معرضة للتآكل عند كل تحول في مواقفها السياسية، وهي معرضة للتآكل بالفعل حين سيحل بالحركة الإسلامية المهيمنة على التشريعي ما حل بفتح التي كانت مهيمنة عليه.
وإذن، فإن الحركة الإسلامية ليست وفق الحسابات الباردة سوى فريق من فرقاء عدّة، وهي بالقطع ليست الفريق المتمتع بقوة غالبة ثابتة. وأمام الحركة خياران: أن ترجئ الجهر بمواقفها المقبلة إلى أن ينجلي حال إخوان المحيط الجديد فتبهظها عقابيله فتخسر الكثير مما توفر لها؛ أو أن تقبل من تلقاء نفسها برنامج م.ت.ف. الوطني وتتشارك مع الجميع، فيبقى لها ما تستحقه من تأييد وما يمكن أن تجنيه إن أحسنت السلوك.
ويُحسن قادة الحركة الإسلامية الفلسطينية صنعاً إن لبسوا القبع ولحقوا بالربع الوطني الذي سبقهم على طريق الواقعية السياسية وتفاهموا معهم على المشاركة في الغرم كما في الغنم. أما إذا أبى هؤلاء التواضع فمن المنطقي تماماً أن يقال لهم: احملوا وحدكم ما وقع لكم أو عليكم ولنتحاسب وإياكم وفق قواعد الديمقراطية التي أرسيناها نحن!
http://www.attareek.org/details.php?id=&aid=751&eid=24