"الشيخة خضرا" التي أصبحت حديث المصريين
كتب ـ نبيل شرف الدين: المسافة الفاصلة بين منزلي الجديد الذي هربت إليه مؤخراً من صخب القاهرة وعبثيتها بمدينة "الشروق" على تخوم الصحراء، يمر بالطريق السريع الذي يربط مدينة الإسماعيلية بالقاهرة، ولا يستغرق عادة أكثر من ربع ساعة حتى يصل المرء للقاهرة، لكن حدث بالأمس أنني قضيت ثلاث ساعات وربما أكثر في هذا الطريق، والسبب الذي اكتشفته بعد مرور هذه الساعات، أن هناك "شجرة مبروكة" اكتشف أحدهم أن لفظ الجلالة "الله"، واسم الرسول محمد (ص)، ظهرا فجأة كنقش بارز بوضوح على لحاء تلك الشجرة .
وحيال هذا الانتظار الطويل اضطررت لإلغاء مواعيدي والاعتذار لمن ينتظرونني عبر الهاتف المحمول، واعتزمت أن أخوض المغامرة حتى آخرها، وانضممت إلى الحشود التي تنشد الاقتراب من "الشجرة المبروكة"، وقد اكتشفت أن الأكثر إثارة من رؤيتها هو متابعة ما يدور بين الحشود التي تقدر بالآلاف، رجال شرطة بعصيهم وهراواتهم يحاولون بكل ما أوتوا من قوة إبعاد المتدافعين بعنف للاقتراب من "المبروكة"، وصرخات لا يمكن تمييز مصدرها، وزغاريد تنطلق من كل صوب، ورجل بلحية كثة يهتف بحرقة : "الله أكبر ..
ظهر الحق"، وفتيات منتقبات ومحجبات يجهشن بالبكاء، ومئات من كاميرات أجهزة الموبايل تلتقط صوراً لتلك "الشجرة المعجزة" وتركت جسدي للتدافع والمتدافعين حتى وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام الشجرة، وقعت عيني لبضع ثوان على النقش "المبروك"، كان أقرب إلى تشوهات في لحاء الشجرة، لكن الكتابة أو النقوش كانت ظاهرة بشكل دقيق، حتى أنني تصورت للوهلة الأولى أن هناك من كتبها بعناية، وهو ما أكده لاحقاً أستاذ لعلم النبات، بأن لحاء بعض الأشجار قد يستنفر ليكون طبقة بارزة من الإفرازات إذا عولج بآلة حادة، لتبدو الأمر في النهاية كمعجزة ليس لها تفسير علمي أو منطقي .
الشيخة خضرا
ما علينا ..
لنبقى مع ما حدث في رحاب "الشجرة المبروكة"، فقد تزاحمت في مخيلتي الأفكار والذكريات حين وصلت إليها، وتذكرت قصة "الشيخة خضرا"، وهي حكاية تتكرر كثيراً في شتى أنحاء الريف المصري، وأحداثها جرت حين كنت لم أزل بعد في مرحلة التعليم الابتدائي نهاية الستينات، لكن تفاصيلها لم تزل ماثلة في ذاكرتي بكل تفاصيلها، كأنها حدثت بالأمس .
القصة بدأت حين أعلن مأذون قريتي بصعيد مصر، أن رجالاً حاولوا قطع شجرة تقع بأرض مهملة يمتلكها أحد أبناء العائلات الثرية بالقرية، غير أن هؤلاء الرجال أصيبوا بما يشبه الشلل الجماعي المؤقت كلما حاولوا إعمال الفأس في الشجرة، التي أطلقت صرخة عظيمة كأنها أم تلقت للتو نبأ مصرع وحيدها، وقد سال من الشجرة سائل أحمر يشبه الدم .
انتشرت القصة في القرية والقرى المجاورة، وصارت حديث الناس والمجالس وموضوع خطبة الجمعة وزارها رئيس مجلس المدينة، وأصبحت مزاراً للباحثات عن الولد والحالمين بالرزق الوفير، والمكلومين والمستضعفين من كل حدب وصوب، وكان أن قفز مالك الأرض التي تقع بها الشجرة على القصة، فوضع صندوقاً لجمع التبرعات لبناء مسجد "الشيخة خضرا"، وهو الاسم الذي اقترحه المأذون على مالك الأرض، وكان من زبائنه المعتادين، كونه مزواجاً كثير الزواج والطلاق، وقد أنفق في سبيل هوايته تلك كل ما ورثه عن أبيه، ويبدو ـ والله أعلم ـ أنه حينما ضاقت به سبل الرزق ولفظته عائلته، تفتق ذهنه عن هذه الفكرة فقرر تنفيذها بالاشتراك مع المأذون، الذي كان يجمع بين مظهر رجال الدين الوقور، وسريرة رجل العصابات الذي لا يتورع عن الإقدام على أي فعل، بعد أن يتخذ الاحتياطات التي تكفل عدم انكشاف أمره .
وكاد أهالي القرية أن يفتكوا بالمهندس الزراعي الذي سخر من الهوس بكرامات "الشيخة خضرا" مؤكداً أن ما يحسبونه دماء ليس سوى مادة صمغية تفرزها أشجار الجميز تتخذ اللون الأحمر الداكن عادة، وليس في الأمر ثمة معجزات ولا من يحزنون، غير أن الناس لم يقتنعوا بتفسيره، واتهموه بالتجديف وإنكار إعجاز الله، فآثر الرجل السلامة وصمت .
كرامات الأمن المركزي
وهاهو السيناريو يتكرر مرة أخرى، لكن الجديد والأكثر إثارة هذه المرة، أن "الشيخة خضرا" تقع بجوار معسكر للأمن المركزي، عند مدخل "مدينة السلام" وفي موضع ملاصق لموقف سيارات الأجرة، وهو اختيار لا يخلو من دلالات، فإطلاق الشائعات في مواقف سيارات الأقاليم أمر يكفل انتشارها في كل مكان، وهذا هو ما حدث، إذ أن "مجنداً ما" في هذا المعسكر تحدث لسائقي السيارات والركاب عن اكتشافه "المبروك"، مؤكداً أنه شم "رائحة المسك" يفوح من الشجرة، وعلى الفور تدفق الناس أفراداً وجماعات لإشباع فضولهم، وكان لافتاً أن أرى سيارات فارهة يقودها سائقون لرجال تبدو على سيماهم أنهم من علية القوم، وقد انضموا إلى "مزار الشجرة".
وفي الوقت نفسه توقفت أيضاً حافلات نقل عمال قادمين من مصانعهم أو شركاتهم، فضلاً عن مراهقين يتصايحون ويتقافزون لتسلق "الشجرة المبروكة"، وآخرون حالت أعمارهم المتقدمة دون ذلك، فاكتفوا بالتمسح في الشجرة ومناقشات جانبية بين الزوار، تتمحور معظمها حول "المعجزة"، وبعضهم يقترح إنشاء مزار عالمي للشجرة، مؤكداً أنها ستكون سبباً لدخول الناس في الإسلام أفواجا، وقد تابعت مناقشة مثيرة بين شابين كان أحدهما يسخر من الجهل الذي جعل الناس يتصورون أن عظمة الخالق في حاجة إلى دليل ساذج من هذا النوع، كان يتحدث بحرقة ممزوجة بسخرية مريرة مما أسماه "المجتمع الضال" الذي يلهث خلف الخرافات، ويلتمس المعجزات في زمن معجزته الحقيقية هي العلم، بينما يرد صديقه بانفعال مؤكداً أن هذه "آية لله في خلقه"، وأنها "دليل دامغ على عظمة الخالق"، بينما يستنكر صديقه أن تكون عظمة الخالق في حاجة لأدلة من هذا النوع في ما كان الناس ينظرون إليه شذرا ويمنعون أنفسهم بالكاد من الفتك به، ويبدو أنه شعر بذلك فقرر إيثار السلامة مكتفياً بابتسامة مريرة .
ثقافة الخرافات
يكاد يسود اتفاق بين خبراء الاجتماع السياسي بأن الخرافة تنتشر في المجتمعات في أزمنة الشدائد والمحن، حين تحاصرها الأزمات وتستفحل مشكلاتها إلى حد لا يحتمل، وتتعاظم أساليب القمع السياسي والقهر الاجتماعي، وقتها يلوذ الناس بالخرافات التي تتفشى على نحو وبائي، وهو ما خلصت إليه دراسة علمية أعدها المركز القومي المصري للبحوث الاجتماعية والجنائية قبل أعوام، وأكد فيها أن المصريين الذين يؤمنون بالخرافات، أنفقوا قرابة 10 مليارات جنيه في العام 2003 على الدجالين والمشعوذين، الذين يلجئون إليهم بهدف إخراج "جن"، أو "فك عمل"، أو عمل "حجاب"، يقي صاحبه شرا ما، وهو ما يشير بدوره لارتفاع هذا الرقم في السنوات اللاحقة .
وأشارت الدراسة إلى أن هناك قرابة 300 ألف شخص، يعملون بالدجل والشعوذة، نتيجة انتشار اعتقاد الملايين بدور الدجالين في حل المشكلات المستعصية، كتأخر سن الزواج، أو عدم الإنجاب، والعقم، أو فك السحر، موضحة أن حجم ما رصدته الدراسة من الخرافات والخزعبلات التي تتحكم في سلوك المصريين، يصل إلى 274 خرافة .
وأخيراً تبقى الإشارة إلى تعليق قطب التنوير والعقلانية في مصر الدكتور فؤاد زكريا، الذي رويت له شهادتي على تلك الواقعة، وبصيغة تقريرية حرصت فيها ألا تحمل أي انطباع، ليؤكد بثقة المؤمن بقيمة العلم في الارتقاء بحياة الأمم والشعوب، أن هناك من يسخر الخرافات لإحكام القبضة على الشعوب المقهورة ووضع القيود على حرية التفكير، ولم يستبعد أن تكون هذه الخرافات مدبرة، لافتاً إلى أنها وثيقة الصلة بظواهر أخرى تشكل متاجرة فجة بالدين، كعلاج الأمراض العضوية المستعصية بالقرآن الكريم، وانتشار مظاهر التزمت، وإيمان قطاعات واسعة من الناس بادعاءات ساذجة وتجافي أبسط قواعد العلم والمنطق، كالتداوي ببول الإبل وبراز الحمام، وفي المقابل أيضاً ووسط أجواء تفشي مثل هذه الخرافات، فقد لجأ المسيحيون إلى خرافات تنبع من موروثهم الديني، كالإلحاح على قصص ظهور العذراء، والأيقونات والتماثيل التي تدمع دما، وغيرها مما يؤكد في مجمله أن مجتمعنا يمر بمحنة لن يجدي تجاهلها وإنكارها .