طيب , قضيتنا هى فى محورين:
1- سلطة الكنيسة المسيحية و سلطة النص
2- إمكانية إختفاء القراءة الأصلية من الشواهد المتوفرة
لا اعرف هل هى مُصادفة ام هى دواعى البحث , فهذين الموضوعين هما محل بحثى حالياً. دعنى اولاً قبل ان اتعرض لهما , أضع بعض التعليقات على بعض عباراتك:
1- يجب التفريق بين النص و شرح النص , و النص يُمثله ظاهره.
2- إيمانى بالثالوث لا يعتمد على شرح النص , ولا على رؤية مُسبقة للنص , بل ولا يعتمد على النص اساساً فى المقام الأول , و انما فى المقام الثانى. و اذا اعتمدت على النص , فلا أعتمد على شرحه , بل على ظاهره.
3- سقوط الفاصلة اليوحناوية , لا يعنى إنتهاء ضرورة تفعيل وجهة النظر المُسبقة فى التعامل مع النص. هذا الإفتراض , يفترض عدم وجود وضوح لأى نص فى العهد الجديد يقطع بحقيقة التعليم المُستقيم حول طبيعة الله الثالوثية.
4- أعرف ان السبب فى تضخيم مشكلة هذا النص هو إستخدام البطريرك القبطى , و شهادته له بأنه من أوضح النصوص فى لاهوت المسيح حتى جعله الدليل الثانى فى ادلته. ولا يتورع فى الدفاع عنه بحيل ساذجة.
5- انا شخصياً حينما إستخدمت لفظ "التدعيم" , فما قصدت ابداً ان عقيدة الثالوث هى عقيدة مُتهالكة لا تصلح للقيام بذاتها. يستحيل ان يكون مُحررى دائرة المعارف الكتابية , قد قصدوا هذا المعنى إطلاقاً ولا أى عالم مسيحى سيستخدم هذا التعبير بهذا المفهوم ابداً. فالقاعدة الراسية الأشهر "لا يُوجد عقيدة تتعلق بقراءة نصية" , و التى يشهد لها الجميع بلا استثناء , لا يُمكن ان تتماشى مع هذا المفهوم عن التدعيم.
6- لا أحبز لفظتى "التحريف" و "التلاعب" , لأنهما يُشيران الى أهداف سيئة من وراء التغيير , الأمر الغير واقعى.
القضية الأولى: سلطة الكنيسة المسيحية و سلطة النص
بدايةً , انا أتكلم من مفهوم أرثوذكسى بحت , لا يعرفه البروتستانتى , و بالتالى فهو طبيعى ان يغيب عن الكتابات النقدية الغربية , التى يعتنق غالبيتها الفكر البروتستانتى.
انا اؤمن , ان الكنيسة المسيحية المقدسة الجامعة الرسولية , هى السلطة المسيحية الأولى فى إقرار ما يُقر فى شتى الفروع و المجالات المعرفية المسيحية. فنحن حينما نقول "كتاب مقدس" , "كنيسة مقدسة" , "تقليد مقدس" , و كل هذه التعبيرات , فنحن لا نقصد الكتاب بحرفه , ولا الكنيسة بمبناها , ولا التقليد بطقوسه. و إنما نقصد رسالة معينة , وُجدت قبل ان يُوجد الحرف , و قبل ان يُوجد المبنى , و قبل ان يُوجد الطقس. الكنيسة المسيحية ببساطة , هى المسيحية نفسها , و الإيمان المسيحى نفسه. دعنى أوضح هذه التعبيرات بشكل عملى:
انا اؤمن ان كتابات أثناسيوس هى وحى من الله , تماماً مثل متى و مرقس و لوقا...إلخ. ما معنى ان أقول بأن هذه الكتب هى وحى و لم أضعها فى الكتاب المقدس؟! معناه ببساطة ان الكتاب المقدس ليس مُقدس لذاته , بل مقدس لما يحتويه. الكتاب المقدس مُقدس لأن الكنيسة المسيحية قدسته , و فى نفس الوقت , لأنه قدس الكنيسة المسيحية. كى أُوجز , نعم للكنيسة المسيحية سلطة فائقة على الكتاب المقدس. نعم , للكنيسة المسيحية السلطان على النص. لا أريد ان ادخل فى تشعبات كثيرة لأن هذا الموضوع سأكتب فيه كثيراً و كثيراً , و لكن سأحاول الإيجاز دون إخلال.
الكتاب المقدس هو الذى خرج من الكنيسة المسيحية , و ليس العكس. الكتاب المقدس ما هو الا وسيلة لتدوين رسالة الكنيسة المسيحية خشية النسيان. لا نقول بأن إيمان الكنيسة بُنى على الكتاب المقدس , لأن الإيمان موجود قبل ان يُوجد الكتاب المقدس. نعم , انا لا انكر هذا , بل انا اؤمن كل الإيمان بأن للكنيسة المسيحية السلطة على نص الكتاب المقدس. لا ننسى اننا فى البداية و النهاية , نتكلم عن كتاب , الذى أقر بصحته و بوحيه و بعصمته و صحيح ما ورد به من تعليم , الكنيسة المسيحية نفسها!!!
الأمر الذى يجب ان نعيه تماماً , هو ان هذه السلطة كانت مُتماشية تماماً مع حقائق مُعلنة فى الكنيسة و فى النص. بمعنى , أننا لا نجد تغييراً جوهرياً فى التعليم المسيحى الأساسى فى النص , لصالح عقيدة تؤمن بها الكنيسة و غير مُعلنة فى النص. بل إننا فى النهاية نتحدث عن رسالة واحدة , لها عدة طرق فى حفظها:"الكتاب المقدس" , "التقليد الرسولى" , "الكنيسة المسيحية" , "المجامع المقدسة"...إلخ. مصادر حفظ الرسالة المسيحية شرحتهم بالتفصيل فى الفصل الأول من كتابى.
إن ما تود إقناعى به فى قولك:"الكتاب جُعل للكنيسة و ليست الكنيسة جُعلت للكتاب" , انا مقتنع به فعلاً , بل و مؤمن به. إن كان هذا التعليم غير ثابت و راسى فى الكنيسة القبطية , و عند غالبية المسيحيين العرب , فإنه ثابت فى دساتير الإيمان لكافة الكنائس المسيحية على وجه الأرض , عدا الكنيسة القبطية. حتى الكنيسة القبطية , فإن تراثها الفكرى يشهد لهذا الإيمان!!!
هذه الحقائق , اؤمن بها بعيداً عن دور الفاصلة اليوحناوية الذى تراه يُساهم فى تثبيته. غير ان هناك بعض الإستفهامات حول تبينك للفاصلة اليوحناوية , كالأساس الذى يُظهر هذا الإيمان:
1- انا لا أعرف اى آباء نتحدث عنهم فى الفاصلة اليوحناوية , و كيف تستطيع ان تبنى كل هذا البناء على قلة محدودة جدا جدا , لنتحدث عنهم بأنهم "الكنيسة المسيحية". فالكنيسة المسيحية تتمثل فى الإجماع الآبائى فقط!!
2- الكنيسة اليوم , غير الكنيسة الأمس. فالذى غفل عن خاتمة مرقس و قصة الزانية , لما نستكثر عليه غفلته للفاصلة اليوحناوية؟! كنيسة اليوم لديها الآليات الضخمة التى تستطيع بها السيطرة على اى تصرف مُخالف , و لكن كنيسة الأمس هذه لم يكن بها مخطوطتين متطابقتين!! فبرأيك , كيف نُهول دور الفاصلة اليوحناوية لهذا الحجم فى ظل كنيسة لم تعرف التطابق الحرفى بين مخطوطتين؟!
3- كنيسة جيل كبريانوس , ليست هى كنيسة جيل توما الأكوينى. لم يكن احداً من مُعاصرى توما الأكوينى يحيا فى كنيسة كبريانوس , ليرى هل لديه فاصلة ام لا!! نعم هناك تسليم من جيل الى جيل , و لكن التسليم فى الرسالة نفسها و ليس حرفياً. و بالتالى لا نستطيع ان نقول ان الكنيسة المسيحية الأمس كانت تعرف عدم وجود الفاصلة , و اليوم تعرف بوجودها و انها مُزيفة , و مر الأمر عليها مرور الكرام و انها باركت هذا الفعل!!!
4- يجب الإشارة , الى ان المُجتمعات المسيحية الشرقية بأكملها , لم تعرف هذا النص , حتى الترجمات العربية منها ( UBS3 , p.824) , فكيف نقول بأن الكنيسة المسيحية هى مصدر هذا التدخل؟! و إن تماشيت مع هذا المنطق , فهل أفهم من هذا انك توجه هذا الإتهام للكنيسة الغربية فقط , و تُبرأ الكنيسة الشرقية من هذا الإتهام؟!
القضية الثانية إمكانية اختفاء القراءة الأصلية من الشواهد المتوفرة
قبل ان ابدأ فى هذه النقطة , يجب ان أُشير الى ان التنقيح الحدسى موجود فى مكانين فقط فى نص العهد الجديد باكمله. و تفعيل التنقيح الحدسى , لا يعنى ان القراءة الأصلية غير موجودة فى الشواهد المتوفرة , فكرت و بربارا آلاند نراهم يقولان:" أن اى قراءة وردت فى التقليد النصي للعهد الجديد , بدايةً من الأصول و ما يليها , حُفظت فى فى التقليد (النصي) و فقط تحتاج الى تحديدها" (نص العهد الجديد , ص 296). انما التنقيح الحدسى – الذى يقول عنه والاس انه "مُحرم" على الناقد النصى – يقترح عدم إمكانية تصحيح اى قراءة متوفرة.
انا استطيع الجزم بأن نصوص الأقلية – و التى كانت فى زمن ما هى الأغلبية – تُثبت و تُؤكد العقائد المسيحية الراسية فى الأصول نفسها عن طريقين. و لكن قبل ان اسردهما , يجب ان أُشير الى عدم وجود دليل نصى واحد يُبطل العقائد المسيحية , و أن إفتراض مُغايرة واقع الأصول بواقع المخطوطات المتوفرة عقيدياً , هو مجرد تخمين لا يرقى لمستوى النقاش.
فكرة إمكانية غياب القراءة الأصلية , أستطيع الإستدلال ضدها بطريقتين:
1- الطريقة الأولى عن طريق عمل ويستكوت و هورت.
2- الطريقة الثانية عن طريق دراسة تطبيقية لموريس روبينسون.
فعن الطريقة الأولى , جميعنا يعلم ان ويستكوت و هورت بإعتمادهما على نص الأقلية , أنتجا اول نص نقدى (و إن كان ليس نقدياً خالصاً) بشكل مُتكامل. إعتمدا بشكل رئيسى على السينائية و الفاتيكانية و الترجمة القبطية و شواهد قليلة أخرى. الذى نُلاحظه فى عصر ويستكوت و هورت أنهم لم يمتلكا أى نصوص قبل القرن الرابع , ولا أى شواهد ترجع عملياً الى ما قبل القرن الرابع. المفاجآة تظهر فى القرن العشرين , بإكتشاف نصوص ترجع الى ما قبل القرن الرابع , فإن صحت الفكرة التى تعتمدها , بخلاف المخطوطات التى لم تُكتشف بعد عما هو متوفر حالياً , فبالتأكيد كانت هذه النصوص ستشهد لهذا الخلاف. على العكس , فقد قدمت البرديات شهادة لنص هذه الاقلية بنسبة لم أحسبها بالضبط و لكنها لا تقل عن 95 % , مما ينفى تماماً إحتمالية خلاف النصوص التى لم تُكتشف لما هو ثابت. الأمر نفسه يستحق ان يسترعى الإنتباه , فيما حدث مع تشيندورف بإكتشاف السينائية , و مُقارنتها مع نص لاشمان الذى صدر قبل إكتشافها. لفيليب كومفورت كتاب كامل , خصصه لأجل مُقارنة النص النقدى قبل البرديات و بعد البرديات , و تأثيره على الترجمات الإنجليزية فى القرن العشرين "المخطوطات القديمة و الترجمات الحديثة للعهد الجديد" , و يكفى مُلخص دراسته المُقتبس فى توقيعى للإشارة الى النتيجة التى خلص لها.
بشكل عام , فكرة إكتشاف ما هو أقدم لم تؤثر على الإطلاق , على القضايا المسيحية الرئيسية. بل أذهب الى ابعد من ذلك و أقول , انه حتى إكتشاف نص الاقلية بأكمله , لم يُؤثر على العقيدة المسيحية و ثوابتها فى شىء على الإطلاق , و التغيير من النص المُستلم الى النص النقدى , لم يُؤثر على عقائدنا على الإطلاق!!
أما عن الطريقة الثانية , فموريس روبينسون هو عالم نقدى للنص البيزنطى. هذا الرجل قام بعد صدور شفرة دافينشى بعمل دراسو تطبيقية رائعة لمُقارنة مدى الخلاف الذى نتج بين مخطوطتين يفصل بينهما ألف عام كاملة!!! أهمية هذه الدراسة ترجع لعدة عوامل:
1- العامل الزمنى المُستخدم فى المقارنة , هو بين نص بردية من القرن الثانى او الثالث , و بين نص مخطوطات الحروف الصغيرة التى تعدوها بألف عام , أى أضعاف الفاصل الزمنى بين الأصول و أقدم المخطوطات.
2- ان المُقارنة هى بين نوعين من المخطوطات , لا يُوجد أى درجة من الصلة بينهما على الإطلاق: البرديات , الحرف الصغير.
3- ان المُقارنة تشمل كل أنواع الخطأ , بما فى ذلك الأخطاء النسخية العادية.
دراسة موريس روبينسون:
http://www.sebts.edu/DaVinci/Resources/dow...s/integrity.pdf
و قد خلص الى إستنتاج مفاده , ان متوسط الخلاف بين أقدم البرديات المتوفرة , و بين أكثر المخطوطات تأخراً , هى نسبة تتراوح بين 8 – 10 %!!!! على مدى ألف عام , فإن مواضع الخلاف لم تزد عن هذه النسبة ابداً!! فكم يكون اذا قلصنا هذا الفاصل الزمنى الى قرنين فقط؟!!!
فى حوار مع ديفيد بلاك , يقول موريس روبينسون:" أى زعم يُوحى ان غياب الأصول المادية يُساوى غياب الموثوقية النصية او السلطة الكتابية هو زائف. نُسخ المخطوطات التى نمتلكها تبقى مُتطابقة مع الأصول , بشكل جوهرى. كما برهنت فى بحثى , أقدم بردية موجودة (ليست بيزنطية) , قُورنت مع نص مخطوطات الحروف الصغيرة البيزنطية التى نُسخت بعدها بألف عام , يحتويان على تطابق حرفى بنسبة 92 % , بإحتواء المقارنة على الأخطاء النسخية و الخلافات التى لا يُمكن ترجمتها. بوجود نسبة ضخمة من النص المُشترك , حتى بعد مرور ألفية من الإنتقال , انه من الواضح ان نص الأصول محفوظ جوهرياً , حتى بداخل النُسخ المتفاوتة التى تُمثل تقاليد نصية مختلفة قليلاً. بنفص القاعدة , فإن الشك ينبع بصعوبة حول هل نص الأصول قد حُفظ بشكل مُماثل خلال الفترة القصيرة جدا بين كتابة الأصول و أقدم المخطوطات المتوفرة. المُلاحظات التناقلية تُوحى بموثوقية تاريخ الإنتقال خلال الفترة القصيرة التى لا يتوفر بها دليل. بالإضافة الى ذلك , كل المبادىء العقيدية موجودة بشكل واضح فى نسبة متوسط النص الأساسى 92 %. لا يُوجد عقيدة أُثبتت او أُبطلت فى النسبة المُتبقية 8 % , حيث تُوجد الإختلافات. ايضاً , غالبية القراءات هى صغرى و بشكل عام هى إسلوبية فى طبيعتها. اذا أستبعدنا الأخطاء النسخية , الغير المُترجمة , و الإسلوبية الصغرى , الإتفاق الكامل بين أقدم المخطوطات و أكثرها تأخراً سيتضح جوهرياً. الوثائق المتوفرة تُمثل الأصول فى كل النقاط المبدئية بدقة. النص الذى نمتلكه الآن كافى و واقعى لإثبات و تأكيد كل المواقف العقيدية التى قامت بها المسيحية المُستقيمة".
http://www.daveblackonline.com/interview_w...e_robinson2.htm
كل هذه العوامل , تجعلنا نُردد معه:"ليتبارك الله , على حفظ كلمته الممتازة جداً"!
و قد عرضت سابقاً فى مقالى "التحريف و العصمة فى ضوء النقد النصى" , كيفية إستحالة عدم ورود القراءة الأصلية فى الشواهد المتوفرة بطريقة حسابية. و أُكرر , الإكتشاف دائماً يكون لصلب العقيدة المسيحية , الإكتشاف فى عصر مُبكر , يكون دائماً لصالح النص النقدى. من الظريف ان القصاصات من مرقس و رومية و غيرهم التى أكتشفها والاس منذ اسابيع قليلة فقط , تشهد ايضاً للنص النقدى , و هى من القرن الرابع!! نشر نصها و دراسة حولها بيتر هيد.
هذين الطريقين , هما فقط وسيلتين ضمن الوسائل العلمية , التى جعلت العلماء يجتمعون على القاعدة التى تقول بأن نص العهد الجديد موجود بكل تأكيد فى نص مخطوطات العهد الجديد , ناهيك عن تأكيد الآلاندز بأنه ليست فقط القراءة الأصلية , بل ايضاً كل قراءة وردت عبر التقليد النصى بأكمله للعهد الجديد , هى محفوظة...
تحياتى