يحدث في مصر
لعل الأمر لا يحتاج لراصد خبير كي نتيقن بأن مصر - أكثر من غيرها - تمر بواقع أليم. دعنا من المبررات الآن و لندع التنظير جانبا و لنرى من وجهة نظر الشارع المصري على أطيافه ما يحدث بمصر الآن.
على الراصد أن ينزل يوما منذ صباحه الباكر لشوارع مدينة يختارها و لتكن العاصمة - حيث التنوع - القاهرة. عليه أن يتنقل بوسائل مواصلاتها من حافلات و سيارات أجرة. عليه أن يشتري أطيافا من الصحف اليومية و الإسبوعية - حكومية و معارضة و مستقلة - و أن يجلس على أي مقهى يختاره - شعبي كان أم سياحي - لتناول إفطاره. ثم عليه أن يقصد عدة مصالح و مؤسسات حكومية لقضاء بعض مصالحه. عليه أن يتجول ليخالط عينات عشوائية من الشعب في أحياء الفقر المدقع و الثراء الفاحش. ثم و بعد عناء يوم طويل عليه أن يجلس في أي مكان يختاره ليتابع قنوات و برامج التلفاز التي يتابعها الشعب. و ياليته بعدها يعد نفسه لدخول دار عرض سينمائي أو مسرحي.
لا أظن أن الراصد - مصريا كان أم عربيا أم أجنبيا - سيحتاج لأكثر من هذا اليوم الواحد ليتأكد أنه بين ظهراني شعب تعيس.
سيرصد الرجل المحايد أول ما يرصد منذ أن يطأ أرض الشارع إلى ركوبه الحافلات ثم سيارات الأجرة ثم المقاهي ظاهرة هي الأغرب و هي كره الشعب المصري لذاته. لا نقصد كره الحكومة بل كره الذات بكل ما في الجملة من معنى. سوف يرصد ذلك في حواراته مع كافة الأطياف غنيها و فقيرها, مثقفها و جاهلها... إلخ. إنه الكفر بالذات لا محالة. عدم الثقة بالحكومة و الأمن و الخدمات و النوايا و المنتجات و التعليم و الإعلام و الصحف. إنتشار تفاسير المؤامرات و التأويلات. سوف يسمع جملة مثل (شعب وسخ) أكثر مما يسمع عبارات الترحاب و السلام. و هذا في ظاهرة لا أعلم إن كان يشاركهم فيها أي شعب آخر.
سوف يستزيد الراصد بقراءة الصحف رصده حالة من السخط العام و الهائل على كل شئ و أي شئ. سوف يجد كوارث سابقة لم يتم إتخاذ أي إجراءات بشأنها و إن كانت ببلد آخر كفيلة بنهاية الحومات و ثورات الشعوب. و سوف يرصد مع الصحف كوارث آتية لا يحرك لها أحدا ساكنا مهما زاد العويل و الصراخ. سوف يرصد إحتقانا سياسيا - إحتقانا إقتصاديا - إحتقانا طائفيا. و كلها على وشك الإنفجار.
سيجد كل هذا بالطبع بجرائد المعارضة و الأخرى المستقلة و على إستحياء ببعض الصحف المستقلة التي مازالت تحتفظ ببعض من قراء. و لدهشته سوف يجد جرائد حكومية أصبح قراءها محدودين - بل و الأدهى أنه توجد جرائد نسب توزيعها تكاد تقترب من الصفر لكنه سيجد أكواما منها عند بائعي الجرائد يتم تخصيصها في خامة المرتجع بمجرد ورودها - لدهشته سيجد راصدنا صحفنا تلك لا تتحدث عن أي من هذا و لا ذاك و كأن كهنتها و مريديها من بلد آخر.
قبل هذا و بعدها حين يتوجه صاحبنا لقضاء مصالحه سوف يرصد فوضى عارمة في الشوارع و المرور و البيع و الشراء - في المواصلات و الطوابير - عشوائية تامة تحكم نظام الحياة - إن صح هذا التعبير. بين هذا و ذاك سوف يكتشف و بالتأكيد أن الفوضى الأوضح هي فوضى أخلاقية في المقام الأول. غابة لا أخلاقية لا يحكمها قانون.
حسنا سيتغاضى الراصد و سيبتلع إهانات المشاه و السائقين و محاولات الإبتزاز - بخاصة لو لم يكن مصريا - و سوف يتوجه لقضاء مصالحه بعدة هيئات حكومية. و بغض النظر عما هو معروف بالضرورة من أن الرجل لن يقضى أية مصلحة إلا بعد دفع المعلوم - بالضرورة أيضا و بعد فوات الأوان عادة - بغض النظر فالرجل لن يعلم أبدا كيف أن النظام بعامة في تلك المصالح الحكومية لا يهدف لما هو مقدر له إطلاقا بل الأصح سيكتشف صاحبنا أن الأمر ليس فقط في الرشاوي و الفساد بل إن تلك الأنظمة و هؤلاء الموظفون لا يهدف لشئ على وجه الإطلاق. حيث لا هدف و تباعا لا إستراتيجيات لتنفيذها.
بعد أن يكتشف صاحبنا سبب أن النسبة الغالبة من إقتصاد و أنشطة المصريين تخضع للإقتصاد الأسود - حيث لا يوجد هدف إستراتيجي إقتصادي لحكومات مصر أصلا - و تباعا فاإعاقة قد تكون هدف جيش موظفيها و بعد أن يصاب بتلك الغصة في حلقة من سوء المعاملة. سوف يتجول كما هو مقرر بين أحياء مصر الفقيرة العشوائية و بين الأخرى المتخمة ذات القصور. و حيث أن راصدنا عميق النظرة سوف يكتشف أنه على تلك الفروق الهائلة التي تكاد تجعل من هذه و تلك بلدانا مختلفة إلا أن العشوائية و إفتقار الأخلاق و سلوكيات الغابة هي عوامل مشتركة بين الجميع.
متعبا سقرر رجلنا أن يستريح على أحدى المقاهي ليتابع الميديا المصرية لعله يرى في أخبارها - أو يستشف من برامجها الحوارية - أو يحس من فنها ما قد خفي عن عقله. سوف ينتقل على إرهاقه من مقهى إلى آخر - من كافي شوب إلى نادي نيلي و باخرة و صالة و فنادق بل و سيدخل البيوت المصرية ذاتها حتى و لو بالعنوة فالرجل يكاد يجن و بعد أن يساق لقسم الشرطة القريب بواسطة أصحاب المنازل و بعد فاصل قصير من الإهانات سوف يسأله الضابط (الباشا) عن سر إصراره دخول البيوت و التفتيش عن أجهزة التلفاز و إجابته ببراءة أنه أراد أن يرى الميديا المصرية الرائدة لعله يفهم ما قد خفي عنه - سيجيبه الضابط ببلادة (لا يوجد مصري يشاهد قنوات التليفيزيون المصرية!!) فالأخبار يشاهدها المصريون على قناة الجزيرة القطرية و قنوات الترفيه و الحوار على أخرى سعودية و قنوات الرياضة و الأطفال على ما تيسر من هذا و ذاك.
سيخرج صاحبنا من القسم فاقدا ما قد تبقى له من عقل - و كرامة - و سيذهب لدار سينما تعرض فيلما مصريا و يخرج بعد مشادة ليدخل أخرى متخمة ثم مسرح و آخر ليفاجأ بأنه يشاهد ذات الموضوع عن فتى جاهل جهول متخلف - و يا حبذا لو كان قصيرا أو سمينا يحمل سمات التخلف العقلي - ينجح بفهلوته في إيقاع النساء و تكوين الملايين و تركيع شعوب الغرب المنحل لأنه بالأول أو الآخر مصري أصيل مؤمن و موحد بالله بالرغم من عتهه و تخلفه و إنحطاط أخلاقه الظاهر. لكنه و بالصدفة و في أحد مسارح الدولة سيجد مسرحا من نوع آخر يدخله بعد أن يسمع عن جديته و أهدافه السامية - سوف يجد موضوعا عن الإستعمار و كيف أن الإنجليز قساة القلب. و آخر عن الوحدة العربية و أخوة الأشقاء و ثالث عن أصالة الفلاح المصري الذي لن يبيع أرضه بالمليارات على الرغم من أنه لا يجد قوت يومه.
بعد كل هذا العناء سوف يذهب راصدنا فجرا لأحد مقاهي المثقفين لعله يجد الإجابة الشافية لهذا الإنحدار العام. و سوف يسمع ألف إجابة فورية:
"بسبب البعد عن الدين"
"بسبب الحكم الديكتاتوري الفاسد"
"بسبب إنحدار الأخلاق"
"بسبب مؤامرات الغرب"
"بسبب المؤامرة الصهيونية الكبرى"
حسنا قد يكون أحد تلك الإجابات - على تباعدها - صحيحا أو كلها مجتمعة - قد لا يهم الآن البكاء على اللبن المسكوب.
لكنه لن يسمع قط إجابة شافية للسؤال "و ماذا بعد؟ ماذا تريدون؟؟"
في الصباح الباكر:
- سيغادر صاحبنا مصر بلا عودة لو كان أجنبيا.
- سوف يحاول إسعاد وقته بأي وسيلة لو كان عربيا.
- سوف يواصل حياته و كأن شيئا لم يكن لو كان مصريا مع ترديد (شعب وسخ) بين كل لحظة و أخرى.
حسنا و الآن قد تتفق مع صاحبنا أو تختلف في درجة تشاؤمه. قد تصفه بالمبالغة في هذه أو تلك. لكنك لن تستطيع سوى أن تسلم معه بأن في الأمر خطأ ما ينذر بإنهيار جسيم.
دعنا نترك صاحبنا لمصيره و نعود لقليل من التنظير لكي نجتهد في محاولة تأطير و دراسة و تفسير بعضا من هذا الإنهيار.
يتبع ,,,