إلى الأستاذ جمال البنّا
الزيّاني القرآني
المفكر الكبير الأستاذ جمال البنا سلامات وتحية
أقدر في سيادتكم تقبلكم للآخر مثلما أقدر فيكم انفتاحكم الفكري، مما أعده قاعدة صلبة يمكن أن يرتكز عليها حوارنا الفكري، فكلانا يأمل أن ينهض فكريا بالمسلمين من وهدة التخلف والجمود والتي سقطوا فيها منذ قرون طوال، وبخاصة أهل السنة من أهل الحديث و ذلك منذ أغلقوا باب الإجتهاد الفكري والتزموا بكل مقولة قديمة، وإنحصرت كل حركاتهم الفكرية التالية لذلك الإغلاق، في العودة للقديم أو السلف بدأ بابن تيمية إلى ابن عبد الوهاب وغيرهما، وإنني وإن كنت ولا زلت من أهل القرآن الذين يرفضون أي إجتهاد ويأخذون فقط بظاهر النص القرآني الكريم، إلا أنني أحزن عندما أقرأ تاريخ أهل السنة، لانهم توقفوا في منتصف الطريق، فقد قرروا الإجتهاد ثم أغلقوا بابه، وللأسف أغلقوه في عصر سادت فيه الطغمة العسكرية الساحة السياسية في الشرق الأوسط من أيوبيين ومماليك، فلا هم استمروا في الإجتهاد ليناسب كل عصر، ولا هم تركوا الإجتهاد كلية وعادوا للنص كما هو حال أهل القرآن منذ البدء، وهذا أحد أسباب ازمة العالم الإسلامي، إنه أزمة من يريد العيش بعقلية ومقاييس الماضي في الوقت الحاضر، بل والأخطر يريد أن يقولب الحاضر في قالب الماضي.
لقد نظر أهل القرآن للقرآن، فوجدوا إنه تعالى لم يعطنا إلا خطوطا عامة وإرشادات وتعاليم قليلة بسيطة، فعلموا إنه تعالى أنما أراد أن يترك لنا الحرية والحق في أن ننظم حياتنا بالشكل الذي يترائى لنا، سواء كان هذا التنظيم جمعي في صورة قانون مدني، أو فردي في صورة اختيار المرء لنمط حياته الشخصية، بما يناسب كل مجتمع و فرد و يناسب العصور الزمنية المختلفة، ورأوا إن ذلك رحمة منه تعالى بالبشر، وأدراك منه تعالى لإختلاف الأزمنة بل واختلاف البيئات في الزمن الواحد، بما يجعل القرآن مناسب لكل زمان و مكان حقا.
سيدي المفكر الكبير، إنني عندما أقرأ مقالكم الأخير، أجد أنكم تتفقون مع أهل القرآن أكثر مما تختلفون، رغم إلماح سيادتكم بأن الإختلاف كبير، فسيادتكم ترفضون علم التفسير على الإجمال و ترون ان النص القرآني إنما يفسر نفسه بنفسه، و هذه قاعدة جوهرية سار عليها أهل القرآن منذ البداية، ولا شك إنكم لو تركتم الحديث كليا فسوف يقودكم هذا إلى نفس الأفاق الفقهية لأهل القرآن.
إن ما لاحظته من متابعتي لكتابات سيادتكم و لكتابات الرائد الشجاع، الأستاذ الدكتور أحمد منصور، ان القرآنيين الجدد، أو على الأقل أغلبيتهم، لم ينبذوا الحديث كلية وهذه نقطة خلافنا معكم، ولا أعلم لماذا تعدون التمسك بالحديث بهذه الضرورة، وخاصة أن الأحاديث التي أوردتموها في مقالكم المعنون بعنوان قرآنيون ومحمديون، كلها أحاديث إيمانية، أي لا تستن شريعة أو تأمر بشعيرة، فما أهميتها وفي القرآن نجد ما هو خير منها في هذا الصدد الإيماني، بل إن ضررها يفوق نفعها، لأنها ستكون المدخل الذي سيلج منه أصحاب الحديث بالتدريج ليفسدوا عليكم مذهبكم فتعودون سيرتكم الأولى، ألم يرفض أبو حنيفة النعمان، امام أهل الرأي، مثلكم اغلب الحديث النبوي، بل يقال انه لم يصح عنده إلا أقل من عشرين حديثا بقليل، ولكن هاهم الأحناف اليوم يأخذون بكل كتب الحديث، لقد كان خطأ أبو حنيفة أنه لم يرفض الحديث كلية، وها أنتم اليوم ترون النتيجة، لذا أعتقد ان تاريخ الأحناف هو قراءة لمستقبل القرآنيين الجدد إن لم ينبذوا الحديث كلية، ولكم في الشراة عبرة أيضا.
أعتقد أن تمسكنا، نحن أهل القرآن، بالقرآن وحده وبشدة، كان العامل الأول في الحفاظ على أهل القرآن طوال هذه المدة الطويلة، رغم قلة عددنا و ضعفنا وتشتتنا بين بلدان شمال افريقيا وبعض بلاد الصحراء الكبرى، ورغم عسف و جور السلطات الحاكمة وتقليب فقهاء السوء من أهل الحديث للحكام ليوقعوا بنا من فترة لأخرى.
نحن يا سيدي لسنا تنظيما كما دعيتنا في مقالكم الأخير، بل نحن مذهب من المذاهب الإسلامية و طائفة من طوائف الإسلام، صمدت في السر إتقاء للقمع، والقرآن كما تعلمون يحل التقية لمن يخشى العسف، وإن كنا قد خرجنا عن حال التقية في بعض الأحيان وكان آخرها مع قيام أحد أجدادي، الشيخ ابو زيان، أو الزياني الكبير، والذي ولد ببلاد المغرب الأقصى، المملكة المغربية اليوم، والتي إليها هاجر أجدادنا من مصر هربا من القمع، والمتوفي بالمغرب في عام 1145 للهجرة. وكان نتيجة جهرة بالدعوة لمذهب أهل القرآن، الذي ورثه عن أجدادنا، أن نفاه سلطان مراكش و لفق له فقهاء المالكية الكثير من التهم فأتهم بالكفر والشعوذة والسحر والتصوف معا، ونفي من حاضرة الدولة، من مدينة مراكش فساح في البلاد ينشر حقيقة الإسلام، ونحن نحفظ الكثير من فقهه، وإن كان بعض أهل القرآن يرفض ما قال به لكونه في رأيهم شديد التحفظ، وربما كان ذلك لأنه قرر الجهر بالدعوة فأراد ألا يصدم الجمهور من أهل الحديث، ويأخذ اليوم الكثير، وليس كل، أهل القرآن اليوم بفقه أحد أحفاده، الذي يعد أكثر أنفتاحا و هو صاحب القول بحلية الخمر ولحم الخنزير والقول بعدم قطع يد السارق، وسقوط الحج، و سقوط الزنا، والحق لقد أخذ الشيخ أبراهيم الزياني كل هذا من أقوال علماء أهل القرآن القدامى الذين سبقوا جده الأكبر الشيخ محمد بن عبد الرحمن الزياني، وإن كان فضله أنه جمعها و شذبها.
سيدي إنني و مع عدم اهتمامي بعلم الأنساب بل وأنظر لهذا العلم نظرة احتقار كعادة اهل القرآن ومن أنبثق عنهم من الشراة، أستطيع أن أتتبع اسم بعد اسم، اسماء مشايخ عائلتي من القرآنيين لمدة ثلاثة قرون و نصف، و تاريخ وفقه من عرف منهم بالبحث والتجديد، وهناك في العائلة من يعلم لأبعد من هذا بكثير منذ كنا ننتمي لطبقة الموالي المصريين، قبل رحيلنا للمغرب الأقصى، و الموالي لمن لا يعلم من القراء، هم من أسلم من سكان البلاد الأصليين، الذين لا ينتمون للعرب بأي صلة، و كما تعلمون فإن طبقة الموالي في في مصر و شمال افريقيا، كانت الأرض الخصبة التي إحتضنت أهل القرآن و من إنبثق عنهم من الشراة أي الخوارج، مثلما كانت طبقة الموالي هي الأرض الخصبة للتشيع في المشرق الإسلامي، لأنها في الحالين كانت الطبقة الباحثة عن العدالة و عن مكان تحت الشمس.
لقد أردت بتلك الفقرة التاريخية، أن أدلل على قدم المذهب القرآني فلسنا تنظيما سريا كما دعيتنا سيادتكم، بل طائفة إسلامية لها تاريخها وتراثها، الذي نعتز به، و نود أن يشاركنا الجميع فيه، فبابنا مفتوح للجميع.
بل إنني شخصيا يشرفني التعاون مع كل قرآني، توصل للقرآن نتيجة قناعة شخصية، بل و أرى إنه دون التعاون و التخطيط فسوف تظل الساحة الإسلامية مرتعا تنفرد به السلفية الوهابية القميئة
إن دور أهل القرآن الجدد و القدامى، في عملية تغيير الشرق الأوسط لا يقل أهمية عن دور السياسيين وما يجلبونه من حريات سياسية واجتماعية وثقافية وإقتصادية، ولا يقل عن دور الإقتصاديين وما يجلبونه من إزدهار. لان التجارب السياسية الليبرالية النادرة في الشرق الأوسط، كالتجربة المصرية بين عامي 1923 و 1952، لم تنجح في الإستمرار ولم تجد من يدافع عنها يوم خرج العسكر من ثكناتهم، بل كان المهللين للعسكر من كل الطبقات أكثر من المعترضين، ذلك ان الشعب المصري، و إن عاش في ظل الحرية السياسية لمدة ثلاثة عقود إلا أنه لم يكن في مجموعه ليبرالي العقل و الهوى. كذلك فإن الإزدهار الإقتصادي الذي يعده البعض الترياق الشافي لمشكلة السلفية وإرهابها المتسربل باسم الدين، لا يعد كافيا، و يكفي أن ننظر لتاريخ نتائج الإنتخابات في دولة الكويت على سبيل المثال، أو للتيارات السياسية الغالبة في دول الخليج الفارسي.
الشرق الأوسط بحاجة لتغيير فكري ليهيئه لتقبل الحريات السياسية والإجتماعية والثقافية والإقتصادية. فبدون ذلك سيكون الشرق الأوسط الجديد، كحال مصر قبل 1952، بناء جميل يحوي عفونه وجمود وتخلف الماضي بداخله، أي يحوي عوامل فنائه.
يجب تحطيم وثن التقليد و الموروث أولا، وإلا فسوف تظل أنظار الناس وعقولهم ترنوا إليه وتحن، إلم تأت إنتخابات العراق بالقائمة الدينية المتكلة على تأييد المرجعيات الدينية التقليدية، ولم يتعظ الشعب هناك من التجربة الإيرانية و ولاية الفقيه. لماذا، لان الوثن لا زال قائماً.
ألم تنهض اوروبا الشمالية الغربية بعد تحطيم أوثان التقليد و الموروث على يد لوثر و كلفن وغيرهما؟ حتى البلدان الكاثوليكية الأوروبية، لم تنهض إلا بعد تحطيم تلك الأوثان و إن بطريقة أخرى، طريقة الثورة الفرنسية و حركة الوحدة الإيطالية.
لذا فإن دورنا كقرآنيين، من جدد وقدامى، في تحديث الشرق الأوسط، لا يقل أهمية عن السياسيين و الإقتصاديين، إن لم يفقهم. ذلك إنه لو ساد المذهب القرآني، فالحرية لا ريب قادمة. أما الحرية بلا تغيير فكري، فهي بناء مزعزع بني على أرض رخوة، حيث سيواجه بناة الشرق الأوسط الجديد، مقاومة شديدة في مسائل تحرير المرأة، وتقنيين الحريات المدنية، وسيادة القانون المدني، وحماية حقوق الأقليات الدينية، حيث سيظل المواطن البسيط يشعر بالإثم عندما يقر للمرأة بحقوقها، ولغير المسلم بمواطنته كاملة، بل وسيظل البناء الذي يبنونه عرضة للتقوض في أي لحظة، والتجارب السابقة تشهد. وأعتقد إن في ذلك إجابة ولو جزئية على سؤال المفكر اللامع طارق حجي، في أحد مقالاته عن أسباب إختفاء صوت التيار الليبرالي من الساحة السياسية في مصر.
إنني أتمنى لو نسقت جهود القرآنيين حقا، واستفدنا من آليات العمل الحر في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، والتي بأحد بلدانها الصغيرة أقيم، وشرعنا في وضع مخطط عمل و بناء هيكل اداري حديث للدعوة القرآنية، ومن خلاله نستطيع اختراق جدران السلفية الوهابية التي تطوق شرقنا الأوسط. اما دون ذلك فالمصير المحتوم واضح، فسيظل اهل القرآن في تقيتهم، أما القرآنيون الجدد فسيظهرون ويختفون كالشهب، كما ذكرتم عن حركة الدكتور مشتهري، التي لم أعلم بها سوى من سيادتكم.
فليكن للقرآنيين إتحاد يجمعهم له نفس بنية الإتحادات البروتستانتية في بعض بلاد الشرق الأوسط، التي تستظل تحت مظلتها كنائس مختلفة يجمعها تمسكها بالكتاب المقدس وحده و إن إختلفت في الرؤيا و التفسير والتطبيق إختلافا كبيرا، كذلك فليكن الإتحاد القرآني الدولي.
إتحاد يجمع كل القرآنيين، على إختلاف مشاربهم، مادام التمسك بالقرآن فقط هو هدفهم، و لا يحجر على أراء أي منتسب له، إتحاد يوفر للقرآنيين الحماية والدعم المعنوي و المادي، إتحاد يعرف القائمون على أمره كيف يستفيدوا بآليات العمل في العالم الحر، يعرفون كيف يحركون الرأي العام هناك للدفاع عن الحريات الدينية في الشرق الأوسط، تماما كما يفعل الإخوة من المسيحيين اللبنانيين والمصريين في الولايات المتحدة. إتحاد يعرف القائمون على أمره كيف يحصلون على الدعم المعنوي و المادي، فأنا شخصيا و جدت أن تكون سلفي أسهل لك في العمل في البلد الأوروبي الذي أقيم به من أن تكون قرآني. فللسلفيين هناك سفارات تدعمهم معنويا و ماديا، بما يسهل لهم الحصول على التراخيص المطلوبة، بل و توفر لهم الإتصالات الدبلوماسية الضغط السياسي اللازم لحل كل مشكلة، أما أنا و زوجتي و من معنا، فإن التعنت من السلطات الرسمية في هذا البلد الأوروبي هو ما نلقاه، ومراقبة سفارة بلادنا لإتصالتنا الهاتفية هو ما نعانيه.
أن الدعوة يجب ان تكون هي الهدف الأول لهذا الإتحاد القرآني. فبدونها الفناء هو المصير. فاليوم ليس هناك جبال تعصم و لا واحات يمكن الإنعزال فيها، ولا قرى في أعماق الريف يمكن التقوقع بها. فالتيار الوهابي السلفي يكتسح من أمامه، مستفيدا من الدعم وموظفا كل الوسائل بما فيها التقنيات الحديثة لترويج رؤيته، ومطوعا كل الضمانات القانونية لخدمته.
لكن ليتأكد الجميع إن النجاح هو حليفنا. فقد رأيت مدى تعطش الأجيال الجديدة للفكر الديني القرآني المنفتح، ومدى تقبلهم له، لذا فإن قولي في مقالي السابق "قرآنيون فقط"، بأن المستقبل لنا، كقرآنيين، لم يكن يجافي الحقيقة. المهم هو توحيد الجهود وتفعيل الدعوة ومعرفة لمن تقدم الدعوة و كيف تقدم.
أنني أتقدم من خلال هذا المنتدى الفكري المستنير، بنداء للقرآنيين الجدد بتوحيد الجهود، والسير قدما في طريق الفعل بلا نبش في الإختلافات. وإنني شخصيا أقبل الإنضواء تحت قيادتهم إن هم بادروا بالسير في طريق الدعوة بنشاط و تحت هيكل إداري حقيقي يستفيد بآليات العمل الثقافي في العالم الحر. والأهم إن هم إحترموا الإختلاف الفقهي بيننا و بينهم ولم يحاولوا الحجر على الاراء ووافقوا على المبدأ القائل بأن للمسألة الواحدة أكثر من رأي كلها تحتمل الصواب، و كل شخص له الحرية في أن يأخذ بالرأي الذي يوافق عقله وضميره دون حجر أو ضغط فلننح الخلافات الفقهية جانبا، ولنترك الإختيار للحكم، بفتح الحاء، الحقيقي وأقصد عقل الفرد و ضميره، ولنسير قدما في طريق الدعوة يدا بيد.
مواضيع ذات صلة:
الشيخ بوزيان
قرآنيون فقط: ردّ على جمال البنا
قرآنيون.. ومحمديون أيضاً
http://www.metransparent.com/texts/zayyani...al_el_banna.htm