" إن تضليل عقول البشر هو نوع من القهر" باولو فيرير
..............................
هل المصريون من أصول عربية ؟.
عندما طرحت موضوع " الوعي الزائف" كتبت في المقدمة أن " من أعمق ما قرأت عن آليات تزييف الوعي عبارة باولو فرير " إن تضليل عقول البشر هو نوع من القهر" ، فهذا التضليل بالفعل هو الأداة الرئيسية التي تلجأ إليها المذاهب الشمولية لتطويع الجماهير من أجل خدمة أهدافها ، و لتحقيق تلك الغاية الشريرة تلجأ الشموليات على اختلافها من دينية و قومية و ماركسية إلى صنع الأساطير و تسويقها و الإلحاح بها على الجماهير لتفسير حقائق العالم من وجهة نظر أحادية و من ثم تبرير الطغيان و تغييب الحريات الثقافية و السياسية كضرورة للحفاظ على نقاء العقيدة و منع المرجفين من العبث بها ! " .
تبقى تلك المقدمة موحية عندما نتحدث عن أسطورة واضحة التهافت ، و لكنها شائعة بشكل يؤكد ارتباك الوعي و المعايير في العقل الجمعي العربي ، هي أسطورة أن المصريين و غيرهم من شعوب الشرق الأوسط نتاج هجرات عربية موغلة في القدم ،و هم بالتالي من العرب العاربة !. قرأت لكاتب مصري في صحيفة قومية كبرى يقول فيها " فحقائق التاريخ أن أصل سكان مصر منذ العصر الحجري هم العرب الساميون الذين قدموا إليها من شبه جزيرة العرب، ذلك المورد البشري المتجدد الذي صار ينبض على توالي الأزمان بالموجات المتتالية من الهجرات البشرية إلى منطقة الهلال الخصيب ووادي النيل قبل التاريخ المكتوب بمئات السنين.وأثبتت الدراسات الحديثة أن عصر بداية استخدام المعادن بمصر يبدأ مع دخول الساميين إليها ومعهم حضارة راقية ممثلة في دياناتهم وكتاباهم وفنونهم ونظمهم الاجتماعية كبداية لتاريخ طويل كان مسك ختامه اتحاد مصر كلها تحت راية واحدة حملها مينا موحد القطرين حوالي 3200 ق م.... ولم ينقطع هذا الطوفان العربي الهادر على مدى التاريخ المصري القديم، من هجرة قبائل عربية بأكملها من قلب الجزيرة العربية إلى وادي النيل والهلال الخصيب
ومن أشهر الهجرات العربية السامية هجرة أبي الأنبياء ابراهيم (الخليل) إلى مصر!." . أما الهدف من ترويج مثل هذه الأساطير ، تعبر عنه هذه المقتطفات من مقال لمؤدلج آخر " ".. ظاهرة غريبة هذه الأيام وهي الحديث عن تقزيم الوطن العربي من خلال الحديث عن الأصول العرقية للمنطقة العربية. فهناك من يصنف دول الخليج على أنها مجموعة هجرات أعجمية للمنطقة ، ثم يتحدث عن الأشورية العراقية والفينيقية اللبنانية والفرعونية المصرية والأمازيجية المغاربية والأفريقية السودانية والبربرية الجزائرية ، وكأن العرب هم مجموعة من المرتزقة وليس لهم أصل ، ولكن تلك الدعوات غالبا ما تنكسر على صخرة العروبة الصلبة التي لن يستطيع أحد أن يكسرها أبدا
وهي باقية لأنها أساس وضعه الله حين أنزل القرآن ،وجعل أساس العالم في توحده على كلمة سواء ، ولن يتم ذلك إلا بالوحدة العربية أساس الوحدة الإسلامية.. ". ربما نعتقد أن الأمر كله دعايات قومية و إسلامية مدفوعة الأجر و موجهة للنشئ ،و لكن تواتر كتابات حول أفكار شبيهة تجعل من الملائم أن نفرد مداخلة خاصة لمناقشة تلك الأسطورة رغم سطحيتها ولا معقوليتها ، فالحديث عن إبراهيم و غيره من الشخصيات الأسطورية تحيل الأمر كله إلى سخافة ،
هذا بالإضافة أن التمسك الساذج بأهداب العنصرية وعراقة الجينات دليل لا يخطأ على التخلف و الإنحطاط الثقافي . "
نلاحظ بشكل مبدئي أن مثل هذه الكتابات هي غالبا بأقلام مصريين يستميتون في التأكيد على عروبتهم بالدم والعنصر . هذه المحاولة الهزلية بدأت منذ الغزو العربي ، عندما كان القبطي يشتري نسبا بدويا بالمال ، و استمرت حتى اليوم عندما يشتري المتأسلم نسبا بدويا بالتدليس و تزييف الوعي .
في المقابل فالإنسان المتحضر المستنير يرى أنه كما لا يشين المصري أو غيره أن يكون عربي السلالة ، فلا يشرفه ذلك أيضا . " . فالعنصرية، في كلتا الحالتين، دعوة مقيتة تفترض أن مجموعات بعينها من البشر تتمتع بتميزٍ في الجينات التي تسكن خلاياها. وبالإضافة إلي فساد تلك الفكرة علميا، فالمهم هو "الجينات الحضارية والثقافية"، وهي التي لا يُثبت نوعيَتَها إلا المنجزات على أرض الواقع (من ثمارِها تُعرف الشجرة...).
المشكلة أنه أحيانا عندما تدل ندرة المنجزات علي طبيعة تلك "الجينات الحضارية"، يلجأ العنصريون ممن يرفضون الاعتراف بالحق، الذي هو فضيلةٌ كبيرة، إلى أساطير تنفخ الذات مع توهم بمأمورية خاصة أوكلتها السماء لهم؛ بل وبأن السماء، وليس فقط الأرض، تتحدث بلغتهم.
حاولت التعرف على الأصول الإثنية للمصريين القدماء ، و استغرق ذلك مني جهدا جهيدآ في مقابل الحصول على نتيجة محدودة و لكنها صلبة إلى حد الثقة . في كتاب مصر القديمة تأليف الفرنسي ( جان فيركوتير ) و هو خبير بالتاريخ المصري القديم ،و يقف في الخط الأول مع أمثال ديلاكروا و شمبوليون و هنري بريستيد ، يرى المؤلف أنه من الصعب معرفة الأصول العرقية لسكان وادي النيل الأوائل ، و لكنه يعتقد أن الرصيد البشري الذي أعمر مصر تشكل حوالي عام 15000 ق .م. ، وشهدت البلاد حملة أخرى من الهجرات الوافدة من الصحارى عام 2400 ق م ، ومن ثم فسكان مصر لم يشكلوا أبدا عرقا نقيا ، و أصولهم أساسا من عرق إفريقي ،و يبدوا بالفعل أن عنصرهم السائد ظل قريبا من غيرهم من سكان شمال و شرق إفريقيا ، مثل البجا و البربر ، و حتى هذا المزيج الأفريقي تأثر في فترة مبكرة جدا بالساميين القادمين من الشمال عبر سيناء أو من الجنوب عبر البحر الحمر ( هجرات من شعوب سامية من مرحلة أسبق من ظهور العرب) . و قديما كانت هناك مبالغة في تقدير الإسهام السامي ، و لكن المؤكد الآن أن تلك الهجرات انصهرت في الكتلة العامة ، و هناك أيضا إسهامات سوداء نوبية و سوداء محدودة .
و السكان منذ مطلع الدولة القديمة كانوا يتكونون من كتلة ذات تكوين مميز و خاص ، تسربت إليه بعض العناصر السامية و النوبية ، ولم يتغير السكان بشكل كبير على امتداد آلاف السنين .و يمكن القول أن سكان مصر أفارقة بيض في مجملهم .
يسود حاليا شبه اتفاق بأن اللغة المصرية القديمة و اللغات السودانية و السامية ، تشكل كل منها مجموعة مستقلة عن الأخرى ، و إن كانت جميعا مشتقة من لغة قديمة مشتركة ، ومن ثم فالمصري القديم ينتمي إلى غيره من شعوب أفريقيا البيضاء من حيث القسمات البدنية و اللغة على حد سواء. و قريبا من هذا أيضا ذهب د/ رمضان السيد في كتابه تاريخ مصر القديمة ضمن مشروع المائة كتاب ( سلسلة الثقافة الأثرية و التاريخية ) . في كتابه قصة الحضارة يذهب ويل ديورانت ، إلى رواية مشابهة فهو يقول أن ما من أحد يعرف من أين جاء المصريون الأولون ، و الرأي الغالب أنهم مولدون من النوبيين و الأحباش و اللوبيين من جهة و من المهاجرين الساميين ( ما قبل العرب ) و الأرمن من جهة أخرى ، و أن المهاجرين من غرب آسيا حملوا معهم ثقافة خاصة ، و أن تزاوجهم مع هؤلاء الأهلين الأقوياء فيما بين عامي 4000 و 3000 ق م . ، أنجبت سلالة هجينة كانت مطلع حضارة جديدة .
لا يوجد شعب قديم واحد تميز بالنقاء العنصري ، بما في ذلك الشعب اليهودي المنعزل ، فالعبرانيون أيضا هم مزيج من شعوب قديمة ، و لو تناولنا الشعب الإنجليزي المعاصر لوجدناه مزيج من شعبين رئيسين هما الأنجلو و الساكسون وكلاهما وافد على الجزر البريطانية ، بينما تتكون إيطاليا الحديثة من انصهار ثلاثة أجناس مختلفة .
إن الأمم الحديثة لا تبنى على العرق الواحد ، فالنقاء الإثني ينتمي للخرافة لا العلم . "
هناك أيضا النتائج التي توصل إليها د. لويس عوض في كتابه الهام " فقه اللغة العربية " ، هذه النتائج وصل إليها بشكل منهجي نتيجة إخضاع اللغة العربية لقواعد ( الفيولوجيا Philology) ، بفروعها المختلفة مثل علم الصوتيات ( الفونوطيقا) ،و علم صور الكلمات أو الصرف ( المورفولوجيا ) و قوانين الإشتقاق ( الإيتمولوجيا ) ، و ربط النتائج بعلم الإنثروبولوجيا ، و هذه العلوم وحدها غير كافية ، فلابد من ربطها بعلم الأجناس ( الإثنولوجيا ) ، و كل مسح إثنولوجي للمصريين الناطقين بالعربية أكد أنهم ينتمون لجماعة إثنولوجية مختلفة كلية عن المجموعة العربية ، بالإضافة لإختلافهم السلالي عن العرب .
بناء على نتائج الدراسة نصل إلى حقيقة أن العرب شعب حديث نسبيا ،
مع مراعاة أننا نبدأ التأريخ للحضارات من عصر استخدام الأبجدية و التدوين ، فهذا هو الميلاد الحقيقي للشعب.. يبدأ تاريخ الحضارة العربية الشمالية و الوسطى إعتبارا من 200 سنة قبل الميلاد ، بينما تبدأ الحضارة العربية في جنوب الجزيرة منذ 800 سنة قبل الميلاد ، و كلها بالتالي حضارات حديثة لا تقارن بالحضارة السومرية أو الفرعونية مثلآ . كانت الأبجدية الآرمية قبل الميلاد بقرون و بعده بقرون هي أبجدية التدوين في الهلال الخصيب سواء بين المتحدثين بالعربية أو بالآرمية ،و أول نص عربي شوهد كتب في 328 م ، أي بعد أربعة آلاف سنة من بدء الكتابة في مصر ثم في سومر .
هكذا نصل مع د. لويس عوض إلى رفض نظرية كيتاني القائلة بأن حضارة الهلال الخصيب ليست سوى نتيجة نزوح فائض البدو إلى وادي الفرات و إلى الشام حيث استفلحوا الأرض . يصل لويس عوض إلى نتيجة منطقية هامة ، هي أنه لا يمكن تفسير ظاهرة تكوين اللغة العربية من عناصر مشتركة مع مجموعة اللغات الهندوأوروبية ، إلا لو أفترضنا أن التكوين السكاني للجزيرة العربية لم يكن فيضا سكانيا من الداخل للخارج ،و إنما على العكس تماما فيضانا سكانيا من خارج شبه الجزيرة إلى داخلها ، تشكل هذا الفيضان من أقوام بادية مازالت في مرحلة الرعي ، أو قبائل حيل بينها و بين الإستقرار في أودية الأنهار، و بالتالي فالجزيرة العربية هي التي استقبلت هجرات خارجية في الفترة من 1567 إلى 1000 ق م .
و يقول لويس عوض :" أن اللغة العربية هي أحد فروع الشجرة التي خرجت منها مجموعة اللغات الهندوأوروبية ، و إذا نحن اعتبرنا اللغة العربية نموذجا لبقية اللغات السامية ، خرجنا بأن ما يسمى مجموعة اللغات السامية هي أحد الفروع الرئيسية التي خرجت من هذه الشجرة ، ثم تفرعت إلى فروع ثانوية و كانت اللغة العربية إحداها ." إذا فالعرب موجة متأخرة جدا من الموجات التي نزلت على شبه الجزيرة العربية من القوقاز و المنطقة المحيطة ببحر قزوين و البحر الأسود نحو 1000 ق م ، فنفذت إلى الفراغ الكبير في شبه الجزيرة من طريق بادية الشام حاملة معها لغتها القوقازية المتفرعة من اللغات الهندية الأوروبية .
عند وصول العرب إلى الجزيرة اتصلوا ببقايا الهكسوس ( الأماليك بلغة التوراة ) أو من اطلق عليهم العرب " العماليق " المطرودين من مصر في القرن 15 ق م ، و الذين حملوا معهم ما قبلوا من معتقدات المصريين ورواسب لغوية امتزجت بلغتهم القوقازية ، فهم أيضا موجات سابقة من موجات الهجرات القوقازية ،و بالتالي فمصر الفرعونية هي أحد أصول الثقافة العربية و ليس العكس .
إذا كانت سجلات التاريخ، وليس الأساطير والأوهام، هي سبيلنا إلى الإجابة، فإننا سنكتشف أن "العرب" لم يكن لهم ذكر قبل القرن التاسع قبل الميلاد. " فالآثار المصرية، مثلا، بها نقوش تدل على أن قدماء المصريين قد عرفوا من الآسيويين: الحيثيين والعمو والميتاني والأشوريين والفرس. ولكن لا شيء يمت بصلة إلي "العرب" من قريب أو بعيد، وإن كانت هناك إشارات إلي "القوم الرعاة" وهو تعبير يظن علماء المصريات أنه ينصرف إلى قبائل وشعوب رعوية، ممن كانوا يهددون حدود مصر الشرقية.
أول ذِكر للعرب على مسرح التاريخ كان في وثيقة أشورية تعود إلي حوالي ٨٥٠ ق م تشير إلى القضاء على مؤامرة مجموعة من المتمردين من بينهم المدعو "جنيبو العريبي". وبعد هذه الوثيقة، وحتى القرن السادس ق م، وردت في كتابات الأشوريين والبابليين إشارات عديدة عن "العريبي" و"العرابو" و "العُربي"، أحيانا عن كونهم ممن يدفعون إتاوات، وأحيانا أخرى عن حملات تأديبية ضدهم في حالة خروجهم عن طاعة الدولة الأشورية.
وتشير بعض السجلات إلى "مَلِكات العرب" كقبائل تسكن شمال شبه الجزيرة. ومن هذه الإشارة ومن شيوع أسماء القبائل المؤنثة رجح بعض العلماء أن القبائل العربية عرفت في مرحلة من تاريخها نظام المجتمع الأُمَوي (ماترياركي Matriarchy) حيث المرأة هي رأس القبيلة.. (يبدو أن المرأة في ذلك الوقت قد سامت الرجل الأَمَرّين.. ولذلك، فما إن استعاد السيطرة حتى انتقم منها وما زال يستمر مستميتا، جاعلا أوضاع المرأة العربية الأسوأ في الكرة الأرضية بأكملها..).
والعرب حين يتحدثون عن منشئهم يقسمون أنفسهم إلى ولد قحطان، وهم عرب الجنوب، الذين يقال أنهم أصفى عروبة من ولد عدنان وهم عرب الشمال؛ ربما بسبب كون الأخيرين من أجناس اختلط فيها العرب مع الذين ينسبون أنفسهم إلى اسماعيل (عن طريق عدنان ومضر).
وهناك نظرية تربط بين العرب والهكسوس، تقول أن الهكسوس (الصيغة اليونانية من "حكا -خازو")، وهم قوم رعاة قد جاءوا إلى منطقة ما بين النهرين (ربما كانوا من أصول قوقازية) ثم طوردوا، أو لم يطب لهم العيش فيها، فتسرب البعض منهم إلى مصر عبر حدودها الشرقية. وإذ كانت مصر تمر بعصر ضعف تمكن هؤلاء من حكم الدلتا لمدة ١٥٣ سنة فيما بين ١٧٠٠ و ١٥٤٧ ق م، من عاصمتهم أفاريس. ثم استجمعت مصر قوتها في الجنوب حول العاصمة "طيبة"، وطاردتهم علي عهد أحمس. ويبدو أن المقام قد انتهى بهم في شبه الجزيرة، إذا لاحظ العلماء أن اسم منطقة الحجاز مشتق من (حكا خازو). كما أن اسم أحد ملوكهم (خمودي) أصبح يطلق على فرع منهم (ثمود) في شمال الحجاز.
وقد بدأ اسم "العربية" كمنطقة يظهر حوالي 530 ق م في سجلات للفرس باللغة المسمارية. أما الإغريق فقد عرفوا العرب في القرن الثالث ق م، وأشاروا إلي ديارهم باسم "أرابيا" علي وزن "إيطاليا"، ولكن بعض الكتابات تشير إلى البدو الساميين في كل صحراوات الشرق الأدني علي كونهم "عرب" أو "أعراب" (بنفس الطريقة التي يختص بها البدو عادة حتى اليوم).
الخلاصة إذن هي أن "العرب" أمة حديثة جدا، والزعم بأنهم أصل سكان مصر هو نوع من التشنج العنصري الذي يستدعي لتفسيره تشنجات جيولوجية وتاريخية يصعب اثباتها . فهم على الأغلب موجة متأخرة من الموجات التي جاءت من الشرق (القوقاز وما حول بحر قزوين). ولعلها لم تستقر في بلاد ما بين النهرين أو الشام الكبير لأنها وجدت فيها أقواما منظمة أقوى منها بأسا وأعلى حضارة، أو لعلها آثرت حياة البدو والرعي التي ألفتها في مهدها الجبلي الأول، فنفذت إلى الفراغ الكبير في شبه الجزيرة، حيث استقرت مكتفية بروابط العصبية القبلية والطوطمية العشائرية كأساس للتماسك الاجتماعي.