كنا ننظر إلى سطوح مباني القاهرة عبر نوافذ المكتب العصري الأنيق. وكان رفيقي سليل عائلة أرستقراطية محلية وواحداً من مؤسسي الماركسية المصرية.
قال: "يجب أن نتحالف مع الإخوان المسلمين"، فاندهشت وقلت مستفهماً: "لكنك رجل علماني كلية.
إنك تناضل من أجل مجتمع عصري، فما الشيء المشترك بينك وبين أولئك المتدينين المتعصبين". فتنهد وقال: "إننا نحن الماركسيين بلا جذور بين الجماهير.
ويجب أن نتحالف معهم حتى نصل إلى هذه الجماهير".
فعقبت بأن هذا الطرح قد فشل قبلاً في إيران، حيث كان حزب "توده" اليساري قد تحالف، لسبب نفسه، مع الخميني قبل الثورة ليقوم الأخير بحله بمجرد أن وصل إلى السلطة. فقال: "لسنا نملك الخيار".
حدث هذا الحوار قبل ثلاثين عاماً، واندفع إلى ذاكرتي هذا الأسبوع وأنا أشاهد ما يحصل في مصر اليوم، حيث يقوم الإعلام الغربي (والإسرائيلي طبعاً) بنشر تقارير متحمسة عن المظاهرات المطالبة بالديمقراطية والمحتجة على نظام حسني مبارك.
ولا شك في أن بعض المتظاهرين هم من اليساريين، لكن معظمهم من النشطاء الإسلاميين والمتعاطفين معهم. وكانت الشرطة قد قامت بحملات اعتقالات كثيفة في أوساط الناشطين السياسيين، ومعظهم من قادة الإخوان المسلمين.
ليس ثمة مؤشرات على أن نظام مبارك على وشك السقوط. صحيح أنه وعد بإمكانية وجود مرشحين آخرين في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ولكنه قال ذلك على الأغلب لكي يسترضي الرئيس بوش، والذي يزعم يائساً أن غزوه للعراق قد أوحى بحدوث يقظة ديمقراطية في أنحاء العالم العربي. أما في الممارسة، فإنه ليست هناك فرصة من أي نوع في أن الوضع في مصر سيتغير. ولن يسمح لأي مرشح جدي بالوقوف في مقابل مبارك.
لكن، دعونا نفترض للحظة أن مبارك قد أجبر على التخلي عن نيته التمسك بإعادة انتخابه، وأن انتخابات ديمقراطية حقاً قد حصلت. في هذا الوضع الافتراضي، من الذي سيفوز؟
إن واحدة من الإجابات الوجيهة ستكون: الإخوان المسلمون. فهم يمتلكون، كما ذكرنا، جذوراً عميقة بين الجماهير. كما أن لبنيتهم التحتية تاريخاً يعود إلى خمسين سنة أو يزيد. وربما تجد الطبقة المصرية العليا العلمانية والليبرالية والمنفتحة على العالم نفسها فجأة تحت نير المتدينين المتعصبين.
إن المعضلة نفسها تتكرر في معظم الدول العربية. ففي حالة إجراء انتخابات ديمقراطية حقيقية، فإن القوى الإسلامية ستكسب قوة ترفض تماماً الرؤية التي يتحدث عنها بوش كثيراً حول الدولة العلمانية الديمقراطية الليبرالية.
وقد حصلت مثل هذه التجربة فعلاً. فقد خاضت الجزائر انتخابات ديمقراطية.
وفي الجولة الأولى، أصبح واضحاً أن القوى الإسلامية كانت في طريقها إلى تحقيق انتصار ساحق، فتدخل الجيش ومنع إقامة الجولة الثانية.
وقد أنتج ذلك حرباً أهلية شرسة خلفت مئات الآلاف من الضحايا. والآن، وبعد سنوات عديدة، يجري السعي إلى تحقيق نوع من التسوية.
في الانتخابات العراقية التي يبدو بوش فخوراً بها، حقق التحالف الشيعي نصراً مؤثراً، وهو يخضع كلية لسلطة زعيم متدين، هو آية الله علي الحسيني السيستاني، صاحب السلطة المطلقة. ولحسن الحظ، فإنه يختلف عن زملائه في إيران، الدولة الشيعية الجارة غير العربية. فعلى النقيض من آيات الله الإيرانية، يؤمن السيستاني بأن القيادة الدينية ربما تعاني من الخراب إذا ما انخرطت تماماً في الحياة السياسية. لكنه هو أيضاً يريد للدولة أن تخضع للقانون الإسلامي.
في الوقت الحاضر، يلتقي هذا الهدف مع المقاومة. فللحصول على أغلبية الثلثين المطلوبة لانتخاب رئيس وإعلان دستور، فإن الشيعة العراقيين يحتاجون إلى دعم الأكراد الذين هم في معظمهم مسلمون سنيون. ويرغب الأكراد انفصالاً ينتهي بالاستقلال ويعترضون على فرض القوانين الإسلامية. والنتيجة حتى الآن: عدم وجود رئيس ولا دستور. ويبدو كل شيء معلقاً في الهواء.
أما في تركيا المجاورة (وهي دولة إسلامية أخرى غير عربية)، فإن حزباً إسلامياً قد فاز بالانتخابات قبل بضع سنوات. وعندما شرع بتفعيل القوانين الإسلامية، تدخل الجيش وأطاح به. ويعتبر الجيش التركي نفسه حامي التعاليم العلمانية التي خلفها الزعيم العظيم أتاتورك، الأب المؤسس للدولة التركية الحديثة والشديدة العلمانية. وفي الانتخابات الأخيرة، فاز حزب إسلامي أكثر اعتدالاً بكثير، وهو يتحرك بحذر كبير، جزئياً لأنه يريد أن يتم قبوله في الاتحاد الأوروبي الأميل إلى الاحتراس من أول مرشح مسلم يسعى إلى العضوية.
وربما يؤدي تشريع القوانين الدينية إلى إغلاق بوابة الاتحاد الأوروبي في وجه تركيا.
في الدول العربية كلها تقريباً وفي الكثير من الدول الإسلامية الأخرى، هناك احتمال حقيقي لأن تقود انتخابات حرة إلى فوز الأحزاب الإسلامية المتطرفة بشكل أو بآخر. كما أن الدكتاتوريات التي تحكم في الكثير من الدول العربية تطرح نفسها كسدود منيعة في وجة القوى الإسلامية المتطرفة.
سبق ورأينا أن الانتخابات الديمقراطية لا تفضي بالضرورة إلى انتخاب الديمقراطيين. والمثال التقليدي على ذلك هو ألمانيا، حيث جاء الحزب النازي إلى السلطة عبر العملية الديمقراطية (رغم أنه لم يحقق أبداً أغلبية 51% من الأصوات).
كما أن حزباً مثل طالبان الأفغاني كان يمكن أن يصل إلى السلطة من خلال انتخابات حرة، ثم يقوم بفرض نظام إسلامي متطرف يضطهد النساء ويقصي الخصوم.
إن مكونات الانتخابات الديمقراطية التعددية، مثل حرية الحملات الانتخابية والوصول بدون عوائق إلى وسائل الإعلام، لا تضمن في ذاتها انتصار الديمقراطية. فذلك يتحدد بضرورة وجود بيئة اجتماعية مناسبة، وبقوة رسوخ القيم الديمقراطية في عقول الجماهير وبالقبول بحكم الأغلبية وحماية حقوق الأقلية.
وفي غياب مثل هذا الواقع، فإن الانتخابات لا تعدو كونها وعاء فارغاً. وربما يبزغ جني الإسلاميين الأصوليين من صناديق الاقتراع على نفس السوية التي قفز بها شيطان المسيحيين الأصوليين في أمريكا من صندوق الاقتراع.
ولكن، كيف هو الحال في فلسطين؟ ثمة حماس كبير للديمقراطية. وهو حماس لم يولد بعد وفاة ياسر عرفات كما يعتقد الكثيرون. فقبل تسع سنوات، حدثت انتخابات ديمقراطية حقيقية في مناطق السلطة الفلسطينية، كما أكد المراقبون الدوليون الذين قادهم الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر. لكن شخصية عرفات المسيطرة وتركز السلطة في يديه قللت من إمكانية رؤية ذلك الإنجاز العظيم.
والآن، ونحن على أبواب انتخابات المجلس التشريعي (برلمان السلطة الفلسطينية) وانتخابات المجالس المحلية، فإننا سنشهد للمرة الأولى مشاركة حركة حماس الدينية والتي يتوقع أن تبلي حسناً.
ومثلما في الكثير من الدول الإسلامية، فإن هذه الحركة الدينية تبدو جسماً يمتاز بالتزام اجتماعي قوي لم يصبه الفساد. ويجب أن يضاف إلى ذلك، بالطبع، الهالة التي أضفتها عليها المقاومة المسلحة لإسرائيل.
(كلمة حماس نحتت من أوائل حروف عبارة "حركة المقاومة الإسلامية").
أعتقد بأن مشاركة حماس في الانتخابات هي شيء حسن. وعلى المجتمع الفلسطيني أن يقرر بنفسه إذا ما كان يرغب مستقبلاً ديمقراطياً علمانياً أو مستقبلاً دينياً. وأنا آمل بالطبع أن يتحقق النصر للقوى العلمانية، لكنني على قناعة بأن النموذج التركي أفضل من النموذج الجزائري، حيث أن دمج القوى الدينية في العملية الديمقراطية أفضل من اضطهادها بعنف. إذ يستطيع الدمج أن يلين من مواقف الحركات الدينية ويجعلها معتدلة في الوقت الذي يؤدي فيه القمع إلى الدفع بها إلى التطرف.
(لقد ثبت ذلك في بلدنا أيضاً، حيث كان دمج حزب شاس المتعصب في النظام الديمقراطي مفيداً، بينما يمكن لثورة الأصوليين اليهود من المستوطنين وحلفائهم ضد النظام الديمقراطي أن تجلب نتائج فاجعة).
وهكذا، فإن ناتج العملية برمتها في البلدان العربية ربما يكون مختلفاً جداً عن الصورة التي يرسمها "المفكرون" الغربيون السطحيون من أمثال بوش. ذلك أن العالم العربي مختلف عن المجتمع الغربي، والديمقراطية العربية لن تكون نسخة كربون عن الديمقراطية الغربية. وأقتبس قول حاكم بروسي عظيم عن موضوعة التسامح الديني حيث قال: "على كل أن يسعي إلى الخلاص بطريقته الخاصة".
كاونتربنش
يوري أفنيري
http://www.alghad.jo/?news=17109