الكذبة التي تحكمنا
السبت, 28 أغسطس 2010
حازم صاغيّة



ثلاثة قتلى وخمسة عشر جريحاً في الاشتباكات البيروتيّة التي اندلعت قبل أيّام قليلة. الاشتباكات أجمع المعنيّون على أنّها بلا خلفيّات سياسيّة أو مذهبيّة.
كان يُستحسن أن تكون لتلك الاشتباكات «خلفيّات سياسيّة ومذهبيّة»، لأنّ ذلك أكثر احتراماً لحياة القتلى وموتهم، ولدم الجرحى، وللملكيّات والسيّارات ودار العبادة ممّا دُمّر أو صُدّع أو انتُهك. وهو، طبعاً، أكثر احتراماً لذواتنا.
ما حصل إذاً لا يملك من الأسباب إلاّ كونه «حادثاً فرديّاً»!
أمام هذا الواقع ثمّة احتمال من احتمالين: إمّا أن يكون حقّاً «حادثاً فرديّاً» أودى بما أودى به، وفي هذه الحال يكون «الأفراد» الذين صنعوه بلا قضيّة تفوق «الحادث الفرديّ» أهميّة.
هذا يرتّب على المجتمع موقفاً جذريّاً منهم ومن قضاياهم المزعومة. إذ كيف يمكن أن يكون لأفراد فعلوا ما فعلوه قضيّة تستحقّ أن تُحمَل على محمل الجدّ؟.
الاحتمال الثاني، أن تكون هناك فعلاً «خلفيّات سياسيّة ومذهبيّة» يتمّ التكتّم عليها لأسباب كثيرة في عدادها أنّ «القضيّة» تستدعي التكتّم، كما تستدعي إنكار كلّ خلاف وتغليفه بذاك الإنشاء العريق، والبليد، عن «الأخوّة» وعن «الخندق الواحد» وسوى هذا.
ذاك أنّنا ما أن نباشر الوصف الحقيقيّ للأمور، أي ما أن ننزل من فضاء الكلام المؤدلج والكاذب إلى الواقع الفعليّ الملموس، حتّى تتحوّل «القضايا» كلّها إلى «حوادث فرديّة» هي، في الوقت نفسه، «ذات خلفيّات سياسيّة ومذهبيّة».
هذا ما لم تشذّ عنه أيّ من «القضايا» الكبرى التي عاشتها منطقتنا منذ تصدّيها لـ «الاستعمار»، كما لم تشذّ عنه أيّ من أحداث ذاك التصدّي المديد: نبدأ بالقضيّة التي تستدعي السلاح فينتهي بنا الأمر حروب زواريب و «إخوان»، فيما تنتشر، في الموازاة، أكثر الأفكار والتصوّرات ظلاميّة وعداء للتقدّم.
أمام هذا الواقع تتكرّر ردود الفعل إيّاها: البعض تصيبه الصدمة: معقول؟. البعض يحسّ بالخديعة: فعلها الإخوان!. البعض يحذّر من المؤامرة والطابور الخامس.
البعض يعد بمواجهة تالية تتخلّص من مثالب سابقتها: علينا بالإعداد الأفضل.
هذه الكذبة التي تحكمنا جيلاً بعد جيل لا يترتّب عليها إلاّ نتيجة واحدة: تهديد أمن البشر حياةً وأملاكاً وانتهاك التمدّن الذي لا يوفّره إلاّ العيش الآمن والمستقرّ للبشر. لقد رأينا ذلك على نطاق أضيق مع الناصريّة وصعودها الذي قسّم بيروت للمرّة الأولى، ثم رأيناه مع المقاومة الفلسطينيّة وحروبها، وبعد ذاك، في الثمانينات، مع «الفصائل» اللبنانيّة، الوطنيّة طبعاً!، التي عاثت بالعاصمة فساداً، وها نحن نراه مع الصيغة الراهنة للمقاومة بقيادة «حزب الله».
وما دامت هناك «قضايا» لا تُحلّ إلاّ بالسلاح، ستبقى حالنا هكذا: ستبقى الدولة مستحيلة القيام، وسيبقى الأمن نهب الأهواء، وستروح علامات التقدّم ومدينيّة المدينة تتراجع يوماً بعد يوم، بحيث لا يبقى لها إلاّ صرح واحد وحيد هو ذاك الذي بنته الولايات المتّحدة في شارع بليس!
هل هي صدفة أنّ الولايات المتّحدة هي ذاتها الطرف الذي لا ينتشر السلاح إلاّ لمواجهته!؟.