تاريخية ادعاء تواتر القراءات
ملاحظ ان ( تواتر القراءات ) هو ادعاء كثير من المتاخرين و هو مجرد ادعاء محض لا دليل عليه بل البحث في حال القراءات في عصورها الاولى يؤكد كذب هذا الادعاء .
اول ما يلحظ في القرون الاولى- وهي الفترة التى اهتم فيها المؤلفون بتتبع القراءات و تمييز وجوهها قبل تسجيلها في الكتب – غياب مسالة التواتر تماما .
قيقول الشيخ ( ايمن بقلة ) " ان القارئ سابقا في العهد الاول عندما كان يقرا علي شيخه لم يكن يسال عن التواتر او يستفسر من شيخه هل قرائتك متواترة و لم يوجد هذا اصلا لانه امر عسير بل لم يكن ما يسمى التواتر امر ملتفتا اليه في البدء " (1 )
لذا فان الفكرة التى تدور حولها قوة القراءة من حيث السند كانت ( الشهرة ) فهي ( السبعة الاشهر ) عند (ابن مجاهد) (2 )
و ( السبعة المشهورين ) عند (مكي)( 3)
ولا يذكر (الذهلي) كلمة التواتر مطلقا بل يكتفي ب ( الشهرة ) (4 ) .
و ( الشهرة ) هي "ان تكون القراءة في العصور الاولى لم تبلغ حد التواتر , الا انها مع مرور الوقت يتناقلها عدد كثير و يتلقاها علماء المسلمين بالقبول فتشتهر و تنتشر " (5 )
اي ان القراءة المشهورة لم تبدأ متواترة , و لكنها لاي سبب تشتهر عند الناس , و تحظى بقبول
( علماء ) المسلمين فتنتشر و تسمى ( مشهورة ) .
و بطبيعة الحال ان اعلان اوائل علماء المسلمين ( شهرة ) هذه القراءات يعني عدم تواترها , و هكذا تصبح اوائل الكتب المصنفة اول الادلة على غياب تواتر القراءات .
كان لابد لغياب تواتر القراءات عن بال اهل القرون الاولى في الاسلام ان يظهر هذا بشكل عملي , هو ما حدث بالفعل متمثلا في ظاهرة ( انتقاد القراءات ) و انكار ما فيها من كل رجال العلوم الاسلامية ( 6)
بمرور الزمن و بعد استقرار مناهج ( اصول الفقه ) و اعتبار ان ( اليقين ) او ( القطع ) لا يكون الا بالتواتر يبدأ الاتجاه الي اضفاء صفة التواتر على القراءات , بل و تجريم الاصوات التى تنكر مسالة التواتر و محاولة كتمها , فبدأ اضفاء شرعية ( التواتر ) على هذه القراءات في عصور متأخرة شيئا فشيئا , و ظل النزاع بين الفتاوى الفقهية و التفاصيل المختصة بالقراءات شيئا فشيئا كما سيظهر لنا في كتاب الونشريسي (المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والمغرب ) حيث تدور السجالات بين الاسئلة و فتاوى الاجوبة و تدخل الفقه في اطلاق الاوصاف الشرعية على القراءات دون ان تستحق ان تنالها , بل و اجبار الناس على قبولها و قتل من يرفض ذلك ( 7)
ثم تتفجر مسالة التواتر على يد ( ابن الجزري ) ( 8)
الذي فضلت ان افرد له فصلا مستقلا لبيان معركته الخاصة حول تلك القضية (9 )
ويصلح ( ابن الجزري ) كمثال لبيان الاضطراب الواقع في تلك القضية بسبب محاولة المتأخرين اضفاء شرعية ( التواتر ) على القراءات , و كلامهم المزيف عن تواتر القراءات و استعمال السلطة في هذه المسالة مما ادى الي خداع الكثير من العامة و الخاصة على السواء فعند التأمل في ان (ابن الجزري) نفسه اول ما كتب زعم تواتر القراءات (11 )
, بل و استصدر امر قضائيا باثبات هذه المسالة !( 10)
و لكن بعد ان اقتربت رحلته العلمية على النهاية , و بعد ان تمت مراجعته من قبل اقرانه اضطر الي التراجع عائدا الي قول القرون الاولى ( 12)
و اكثر من هذا اذ اخذ يؤكد عدم تواتر ما جاء في القراءات المزعومة التواتر (13 )
و هو نفس حال كبار علماء مرحلة (معركة التواتر ) مثل ابو شامة و غيره ( 14)
و بالرغم من استخدام ابن الجزري ت 833 هـ - قبل ان يتراجع - سياسة (تكميم الافواه) ( 15)
وهو يحاول ان يدفع بكل قوته نظرية تواتر القراءات , الي درجة امنيته الا يتكلم اي (إمام) في هذه المسالة (16 )
,و مع الاصرار على توريث هذه الاكذوبة بالرغم من تراجع ابن الجزري عنها , فاننا نجد استمرار الروح الرافضة للتواتر , و الارتداد عن محاولة ابن الجزري لتعشير السبعة ( 17)
فور موت ( ابن الجزري ) , وهو ما نلاحظه عند السيوطي المتوفي سنة 911 هـ اي بعد ( ابن الجزري ) بحوالي نصف القرن اذ ينتقد القراءات كانتقاده لقراءة ( ابي جعفر ) – احد اصحاب القراءات المزعوم تواترها - للبقرة 34 ( 18)
و هكذا يعود الحال الي ما كان عليه ليس فقط نفي تواتر القراءات بل و التطبيق العملي علي نفي نسبتها الي الوحي و الاستمرار في انتقادها كما كان من قبل
تطرح القضية للنقاش من جديد سواء كان هذا داخل مجال الدراسات القرانية , او حتى في مجالات الدراسات الادبية , فيثير الاشكالية عميد الادب العربي ( طه حسين ) فينفي كون القراءات متواترة ( 19)
و هو الراي الذي يتبناه الاستاذ (محي الدين الدرويش) ( 20)
ولن يختلف عنهم الشيخ (محمد سعيد العريان) في تعليقاته، حيث قال: "لا تخلو إحدى القراءات من شواذ فيها حتى السبع المشهورة فان فيها من ذلك أشياء" ( 21),
و بذلك فانه يهدم محاولة " رجال دين فهموا ان القراءات السبع متواترة عن النبي " على حد تعبيره و يضيف صراحة ان " الاحرف غير القراءات " و ان " الاحرف السبعة شئ اخر غير هذه التعديلات و التبديلات " ( 22) .
اما داخل المطبخ القراني , اي بين الدراسات المتخصصة في مجال القراءات , فيؤكد حقيقة (عدم تواتر ما في القراءات ) عدد من الباحثين المعاصرين في ابحاث و رسائل جامعية فيصرح الباحث د (نبيل بن محمد ابراهيم ال اسماعيل) ان ( القراءات مزعومة التواتر ) فيها ما هو غير متواتر ( 23)
,و يأتي نفس الرأي في رسالة ماجستير ( عبد العزيز بن علي) (24 )
و يوضح د (محمد المختار ولد اباه) ان الانفرادات الكثيرة التى انفرد بها القراء هي غير متواترة ( 25)
و هو ما يوافق (المعتصم بالله) الجزائري (26 )
, و يؤكد ( ايمن بقلة ) ان القراءات ليست متواترة من الرسول الي القراء , و من القراء الينا ففيها ما هو غير متواتر ( 27)
وهو نفس ما ذهب الي ( الزركشي ) من قبل (28 )
بينما يستمر المغيبون او ائمة الكذب في توارث و توريث اكذوبة التواتر (29 ).
و هكذا نرى صعود المنحنى انطلاقا من ( عدم تواتر القراءات ) في القرون الاولى الي ادعاء
( تواترها ) و يبلغ المنحنى قمته عند ( ابن الجزري ) ثم يعود المنحنى للهبوط الي اصله و لكنه يخالف دورته هذه المرة و يصعد مرة اخرى متجها ب( جهلة العوام و الخواص من المسلمين ) الي اعتبار القراءات متواترة مرة اخرى تكرارا لخطأ قديم !
و هذا هو حال ما كان عليه صنّاع القراءات من السلف و الباحثين في صناعة القراءات من الخلف و كلهم داخل المطبخ القراني , اما الفقهاء و ( علماء ) الاصول البعيدين عن تلك الصناعة فانهم مضطرون الي ادعاء تواتر القراءات لانهم يعرفون جيدا ان نفي تواتر القراءات يضفي بالشك على هذه القراءات و اصلها و مستندها و ذلك بحسب الاصطلاح الاسلامي ككل.
---------------------------
1- تسهيل علم القراءات 212
2- المنجد 18
3-الابانة 115
4- عبد الحفيظ الهندي , الامام ابن الهذلي و منهجه في القراءات , رسالة دكتوراة 428
5- المصدر السابق 435
6- راجع الباب الرابع
7- الونشريسي , المعيار المعرب والجامع 12 \ 73 - 74
8- اعجاز القراءات القرانية 81
9- ص 76
10- المنجد ص 15
11- السابق ص 51
12- النشر 1|18
13- اعجاز القراءات القرانية 92
14-المرشد الوجيز ص 174 .
15- الاشوح , اعجاز القراءات القرانية 25
16- المنجد 62
17- اي اضافة ثلاثة قراءات الي سبعة ابن مجاهد لتصيح القراءات مزعومة التواترة عشر قراءات
18- الاشباة و النظائر 1 \ 63
19- في الادب الجاهلي 96 – 96
20 - محي الدين الدرويش إعراب القرآن الكريم وبيانه، درويش م4، ص : 116
21- اعجاز القرآن للرافعي: ص 52، 53، الطبعة الرابعة.
22- المصدر السابق 122
23- علم القراءات نشاته اطواره – اثره في العلوم الشرعية 42
24- توجيه مشكل القراءات 299
25- تاريخ القراءات في المشرق و المغرب 22
26 - التبيان في قراءات القران 111 ط1 التبيان في قراءات القران 111 ط1
27- تسهيل علم القراءات 186
28- البرهان ج1 ص 318 بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، ط الحلبي
29- انظر كتب الرد على ( الشبهات ) مثل كتاب كشف شبهات المشككين و غيره