يتطلع الناس إلى الفرح في العيد، حتى الفقير يجبر نفسه على الفرح، حتى ولو لم يكن يملك متطلبات ذلك الفرح. يقتصد بضعة دريهمات ليشتري لمن حوله ثياب العيد، وحين يجد أطفاله فرحين من حوله، يشيع في داخله فرح يرضيه ويكفيه.
وتفعل أنواع الناس الأخرى الشيء نفسه، المواطن والتاجر والطالب والموظف والحزبي والسياسي، كلهم يسعون إلى أن يتجاوزوا ما حولهم لكي يلتقطوا لحظة فرح. أحيانا من خلال لقاء الأحبة، وأحيانا من خلال متع صغيرة، وأحيانا من خلال قرار إرادي بنسيان الهموم، والكل يتمنى للكل عيدا قادما أفضل.
وراء هذا التمني بعيد قادم أفضل، تكمن الهموم الأكبر، الهموم الحقيقية التي تكاد تستلب الفرحة والفرح. يؤجل الناس الحديث عنها أياما من دون نسيان لها، ثم تعود هذه الهموم لتفرض نفسها. وما إن تعود تلك الهموم لتذكر بنفسها حتى يدرك الكثيرون أن العيد العربي أمر مستحيل.
إن كنت عراقيا، فما إن تخرج من باب منزلك حتى ترى بأُمّ عينيك دولة العراق المجيدة وقد انهارت. سترى الفوضى، وسترى الانفجارات، وسترى القتلى والجرحى، وسترى الفساد متجسدا في الأشخاص والقادة والأحزاب، وسترى الاحتلال، الاحتلال الأميركي، متجسدا ومتصلا بالآليات الأميركية، وبالجنود الأميركيين. بعضهم ظاهر أمامك في الشارع، وبعضهم محتجب في القواعد الاستراتيجية الثابتة، فيدرك أن يوم الخلاص من الاحتلال الأجنبي لم يحن بعد. يتفاءل بحوار السياسيين حول تشكيل حكومة، ثم يجد من يقول له إن تشكيل هذه الحكومة أمر مستحيل. حتى الذين جاءوا متحدين حول هذا الاحتلال يختلفون اليوم ولا يجدون ما يتفقون عليه.
أما إذا كنت سودانيا، فإن بلدك المجيد، بوابة العرب على أفريقيا، بلد النيلين بدل النيل الواحد، يقف على بعد ساعات من الفرقة والانقسام والانفصال. هناك من دون شك أخطاء داخلية صنعت هذا الانقسام، ولكن هناك أيضا ومن دون شك قوى استعمارية كبرى، تغري هذا الزعيم أو ذاك بالعمل من أجل الانفصال. يغرونه بدولة وبرئاسة دولة، وفي أذهانهم أن لديه ثروات مائية، وأن لديه ثروات نفطية، وهم يريدون النفوذ إلى تلك الثروات واستغلالها. وبينما يبدو الزعيم المحلي كبيرا أمام قومه، يجد نفسه صغيرا أمام من يمثل دولا عظمى، من الأميركي إلى الصيني داخل صراع النفط، إلى الفرنسي المتطلع إلى مناجم الذهب. ويتحاشى الجميع الحديث علنا عن اليورانيوم الكامن في بطن الأرض، والمحرك الحقيقي للحرب في دارفور. وغدا قد تقوم دولة في جنوب السودان، وبدلا من التفكير في الطرق والمدارس والمستوصفات، تبدأ هذه الدولة بالبحث عن تمويل لعشرات سفارات لا بد أن تنشأ، والبحث عن تمويل لمطارات دولية لا بد أن تقوم لتعبر عن وجود دولة مستقلة. وهنا تأتي الشركات من كل أصقاع الأرض، تعرض الأموال بيد، والعقود التي تحتاج إلى توقيع باليد الأخرى. أما الاستقلال... فيتحول عبر ذلك إلى حلم، حلم يستحيل معه فرح العيد.
أما إذا كنت يمنيا، فالويل الويل لك. فاليمن السعيد ليس سعيدا على الإطلاق. الحوثيون في جانب يتحصنون في جبال يستحيل على الجيوش السيطرة عليها، يقاتلون ويقتلون، ولكن المشكلة أن لا أحد يعرف ماذا يريدون، يهددون استقرار النظام في اليمن، ولا يجيبون على السؤال: «لماذا؟». يتحدثون عن حرب سابعة دون أن يسألوا أنفسهم ماذا أنجزت الحروب الست السابقة، كأنما الحرب هدف في حد ذاتها، أو كأنما الحرب وسيلة للوجود داخل السياسة. ولكن ما جدوى السياسة بعد تفتيت الوطن؟
وفي الجانب الآخر هناك في اليمن أهل الحراك في الجنوب. هؤلاء الذين كان لهم فخر صناعة دولة الوحدة اليمنية، ثم ها هم الآن يعبثون بها، ويرفعون شعار الانفصال. لقد عاشوا طويلا في ظل الانفصال ولكنهم لم يجنوا شيئا سوى الضعف والفقر، فماذا سيقدم لهم الانفصال من جديد؟ الكل يعرف أن أهل الجنوب لم يعاملوا كما يجب، وتعرضوا لعملية إقصاء ظالمة وخاطئة، ولكنهم لو رفعوا شعارات ومطالب تعبر عن ذلك لنالوا تأييد الكثيرين، من داخل اليمن ومن خارجه، ولكنهم يخسرون قضيتهم في ظل شعار الانفصال، وقد يخسرون وطنهم أيضا. ولا ندري إذا كانوا يعرفون أن نشاطهم، ونشاط الحوثيين معهم، لن يبقى قضية يمنية، بل سيتحول إلى قضية إقليمية تمتد نارها إلى أصقاع ودول أخرى. ولذلك يجلس اليمني في منزله في أعلى الجبل، فيشعر بالخطر الداهم أكثر مما يشعر بفرحة العيد.
أما إذا كنت جزائريا أو مغربيا فالويل لك. كل طموحاتك تصطدم بصخرة يسمونها الصحراء أو يسمونها البوليساريو، وبسببهما تعيش الجزائر حالة حرب، وتخسر حالة الاستقرار والتنمية والتعاون. وتعيش المغرب حالة حرب تستنزف إمكانات الاستقرار والتنمية والتعاون. ويطل شعار الانفصال برأسه، بينما تتجه كل دول العالم نحو الاتحاد والوحدة، ولا يستطيع مشروع «الاتحاد المغاربي» أن يطل برأسه. وعلى الرغم من إمكانات الجزائر، وعلى الرغم من إمكانات المغرب، فإن رمال الصحراء تلتهم فرحة العيد حين يأتي، ولا يستطيع حتى الأهل والأقرباء أن يلتقوا عبر الحدود المغلقة، ليقول أحدهم للآخر: كل عام وأنت بخير.
أما إذا كنت لبنانيا، فحدِّث ولا حرج، والحديث يطول. من «البكاء» والجدل حوله، إلى الانفجارات المفاجئة في الأحياء، إلى الجواسيس، إلى قضية شهداء الزور، إلى الاعتداءات الإسرائيلية، إلى سلاح المقاومة الذي يدور الجدل حوله بين الفخر والإدانة.
وأما إذا كنت فلسطينيا، فحدِّث ولا حرج، والحديث يطول. من ثورة انتهت قابعة في حضن الاحتلال، إلى ثورة يمولها خصومها، إلى ثورة بدأت تفتخر ببناء نظام بوليسي برع في مواجهة الفدائيين واعتقالهم والقضاء على نشاطهم.
ثم يأتي العيد إلى لبنان، وإلى فلسطين، وكأنه يوم حسرة لا يوم فرح.
ومن العراق إلى فلسطين، مرورا بالسودان واليمن والمغرب والجزائر ولبنان، تجد الأميركي يقف متربصا عند كل منحنى وعند كل زاوية، تجده يعلن باسم هيلاري كلينتون أنه قائد العالم، أي أنه قائد كل هذه المشكلات، أو العاجز عن حل كل هذه المشكلات، فيصبح بذلك المسؤول الأول عن ضياع فرصة العيد.
أما القائد العربي، فمن حقه أن يحكم بلده هادئا مطمئنا، ولكن هل يستطيع القائد العربي أن يحكم بلده الصغير متجاهلا كل هذا الذي حوله؟ شرط الحكم، وشرط القائد، أن يلقي نظرة على الأفق، وأن يتعامل مع الأفق وما وراء الأفق، لكي يستطيع أن يحكم بلده الصغير، وإلا... وإلا فإن تلك المشكلات البعيدة ستمتد بآثارها إلى بلده.
وكلنا في الانتظار لكي نسمع أمنية غير مستحيلة تقول لنا: كل عام وأنتم بخير.
http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=586346&issueno=11611