احرقوا الكتاب الاخضر..
بقلم: د. فتحي الفاضلي
يؤمن "القائد المسلم الثائر" معمر، وتؤمن بطانته، ويؤمن فقهاء الثورة، اصحاب البيان والتبن والتبيان، يؤمنون ان الكثير من احاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، مزورة وملفقة ومتناقضة. ويؤمنون ايضا، بانه لو كان الرسول حياً، فلا مانع من ان ناخذ عنه، لكنه منتقل الى جوار ربه، فلا يجب، اذاً ان ناخذ باحاديثه.
يؤمنون بذلك بينما نرى النظام وكتابه وقادته وابواقه، يستشهدون، في نفس الوقت، باقوال وافعال وتقريرات "أغسطس" و"افلاطون" و"ارسطو" وغيرهم من آل "طاليس" الذين عاشوا وماتوا، ليس فقط قبل الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، بل وقبل المسيح عليه السلام.
لقد بدأت الحرب ضد السنة النبوية في ليبيا، بحملة تشكيك طالت الاحاديث الشريفة، وطالت رواتها ونصوصها ومصادرها. على اعتبار ان وجود أحاديث صحيحة وأخرى ضعيفة وغيرها موضوعة، يتوجب طرح جميع الاحاديث جانبا، والامتناع عن التعامل بها، بل والامتناع عن اعتبارها مصدر من مصادر التشريع، لصعوبة التمييز بينها، وصعوبة معرفة صحيحها من ضعيفها.
واراد النظام ان يصبغ آراءه هذه، بصبغة شرعية، فرتب في يوليو 1978م، كما يعلم القاريء الكريم، لقاء، ضم معمر وبعض اعوان وزبانية ومنتسبي النظام، ومجموعة من قراء وحفاظ القرآن الكريم، كانوا في زيارة الى ليبيا، تتعلق بالحفظ والتجويد والترتيل، فوجدوا انفسهم، دون سابق انذار، وسط حوار على الهواء، بينهم وبين معمر، حول السنة النبوية ومكانتها في التشريع.
وكان ذلك اللقاء أقرب إلى المهرجان الاعلامي منه الى الحوار العلمي. حاول فيه معمر اثبات تناقض الاحاديث، وبالتالي عدم صحتها. مستندا، كما يتذكر القاريء الكريم، في محاولاته "التدليسية" البائسة، على حديث عائشة رضي الله عنها، وكيف نأخذ ديننا ممن يفترض انها ناقصة عقل ودين. واعتمد على نفس المنوال ايضا، على التناقض الظاهري بين حديث القتال بين المسلمين "اذا التقى المسلمان بسيفيهما، فالقاتل والمقتول في النار"، وكون على رضي الله عنه من المبشرين بالجنة. وقد رد عليه في ذلك الوقت الملايين من المسلمين وادحضوا تدليساته، بل ربما رد عليه في ذلك الوقت حتى بعض طلاب المدارس الابتدائية.
واوضح الحفاظ الكرام، في ذلك اللقاء، القواعد العلمية التي وُضعت لضبط وتحصين الاحاديث الشريفة (قواعد الجرح والتعديل). واوضح حفظة القرآن الكريم، كذلك، ان هناك احاديث موضوعة، واخرى ضعيفة، وغيرها صحيحة. وان لكل منها مقاييس ومعايير مستندة على اسس علمية دقيقة تحدد نوع الحديث. وذكروا ان الشعر القديم جدا، والذي نظمه "امرؤ القيس" او "زهير بن ابي سلمة" او غيرهم من شعراء الجاهلية الاولى والاخرة، نستطيع ان نحدد من ذلك الشعر: من.. من الشعراء؟ قال ماذا؟. بل ونستطيع ان نحدد حتى غير ذلك من معلومات دقيقة عن القائل، وعما قاله، ومتى قال، ولماذا قال ذلك؟ ومن رد عليه، وماذا سببت تلك الحوليات، والقصائد، والمعلقات، وما مناسباتها وتأثيرها ونقاط ضعفها وقوتها، نستطيع ان نحدد كل هذه الامور، بالرغم من انها نظمت وقيلت، قبل عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعلى أي حال، حتى لو ثبت فعلا أن هناك مشكلة في فهم بعض الاحاديث التي اختلف العلماء في شرحها وفهمها أو غابت عنهم معانيها أو صعب عليهم تفسيرها أو شكوا في رواياتها أو اختلفوا في الجمع بينهما، فان هذا لا يعتبر مبررا على الاطلاق لأن يلغى العمل بآلاف الاحاديث الشريفة التي لم يختلف العلماء على صحتها، بل ان الامة متفقة عليها وعلى معانيها وعلى ضرورة العمل بها منذ خمسة عشر قرنا، راضية بذلك، دون قهر أو استبداد أو تسلط او خلاف او اختلاف.
ان السبب الحقيقي الذي يكمن في حرب النظام وزبانية النظام واقلامه المأجورة، ضد السنة النبوية، هو ان تعاليم الاسلام (آيات واحاديث) قد تناولت قضايا الدولة من بابين رئيسبيين: أولهما أن بعض النصوص الشرعية من آيات واحاديث، تعتبر قوانين سياسية مباشرة في حد ذاتها، فهي تنظم وتهتم بالقضايا المالية والتعليمية والعسكرية والعلاقات الخارجية. ويفترض ان اصدار أي قانون أو قرار من قبل الدولة، يخالف أو يعارض هذه النصوص، يعتبر مخالفة للاسلام . وثانيهما أن جزءا كبيرا من آيات القران الكريم، الخاصة بتنظيم الدولة أو بالجانب السياسي والاقتصادي والعسكري فيها، موضحة ومشروحة ومفسرة بالاحاديث الشريفة التي يريد النظام في ليبيا ان يلغيها. فاذا ازيحت هذه الاحاديث، فان الطريق امام تفسيرها، سيكون عرضة للاجتهاد البشري، الذي لا يخلو من سيطرة الاهواء والرغبات الشخصية، فضلا عن الخطأ ومجانبة الصواب . وهذا ما حدث في ليبيا فقد كانت اغلب ممارسات السلطة، حتى يومنا هذا، واغلب القوانين والقرارات السياسية والاقتصادية التي اصدرتها، بالاضافة الى معاملة النظام للمواطن الليبي، متناقضة مع القرآن الكريم ومع الاحاديث الشريفة. هذه هي الاسباب التي يريد النظام وفقهاؤه ان يلغي بها العمل بالسنة النبوية الشريفة وخاصة الاحاديث منها.
ومن جهة اخرى، فان الجهل بالاحاديث الصحيحة، وترك العمل بها، يفسر لنا، التصريحات الغريبة، التي تطلق من حين الى اخر عن الشأن الاسلامي بصفة عامة، وعن الشعائر التعبدية بصفة خاصة.
بل لو اتبعنا منهجية فقهاء الثورة، ومنهجية معمر، في التعامل مع السنة النبوية الشريفة، لقمنا بحرق الكتاب الاخضر. الذي تناقض مع نفسه.. وتناقض كذلك مع الواقع.. لقد جاء في الكتاب الاخضر ".. ان الحرية مهددة ما لم يكن للمجتمع شريعة مقدسة، وذات أحكام ثابتة غير قابلة للتغيير أو التبديل بواسطة أي أداة من أدوات الحكم".. ورفع النظام.. بناء على ذلك.. شعار "القرآن شريعة المجتمع".. ولم يرفع شعار "القرآن والسنة شريعة المجتمع"، واعلن ذلك وثبته رسميا في "بيان سلطة الشعب" الذي استند على محتويات الكتاب الاخضر.
ولكن..
نفس "معمر" يقول أمام كافة الشعب الليبي، بل امام الامة الاسلامية: ".. والقرآن نقول لكم عليه إذا تصفحناه.. لا نجده يتحدث عن المشاكل التي نحن نحكم بها المجتمع.. نحن كبشر نحكم انفسنا.. القرآن لم يتحدث عن هذه القضايا كلها".
ونفس "معمر".. ايضا.. يقول".. آيات القرآن لا تتعلق بالمشاكل التي نحن نخلقها يوميا، ولكنها تتعلق بيوم القيامة، تتعلق بالحياة بعد الموت..". انتهى.
فكيف يا سيادة المسلم الثائر.. نعتبر ان "القرآن شريعة المجتمع" اذا كان القرآن الكريم، لا يتحدث عن المشاكل الي نحكم بها المجتمع؟
وكيف نحكم المجتمع بكتاب لا تتحدث آياته الا عن يوم القيامة (كما يؤمن صاحب الكتاب الاخضر).
بل كيف نحكم مجتمع، بكتاب لا يتحدث عن مشاكل المجتمع؟
معمر، ومن معه ، من فقهاء الثورة، يريدون ان يلغوا العمل بالاحاديث والسنة النبوية الشريفة، لانهم يرون ان هناك تناقض بين بعض الاحاديث. فها هو التناقض في كتابكم وافكاركم ومقولاتكم واضحة كالشمس، وانتم احياء ترزقون. والتناقض في كتاباتكم وافكاركم ومقولاتكم.. ليست من التناقضات الظاهرية.. التي يمكن الجمع بينها.. بل تناقضات اساسية.. ظاهرية وباطنية وعملية.
ولانكم قلتم.. من قبل.. "ايها الليبيون.. احرقوا كتب الدراويش" (اشارة الى كتب الصحاح).. على افتراض انها تحتوي على احاديث متناقضة.. لا يمكن الجمع بينها.. فاننا نقول.. اليوم.. "ايها الليبيون.. احرقوا الكتاب الاخضر" لانه محشو بالتناقض.. احرقوه.. واحرقوا معه كتب الدراويش الحقيقيون.. لان الله سبحانه وتعالى يقول: "من اطاع الرسول فقد اطاع الله.. النساء/80".. احرقوه..لان الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: (.. لا الفين أحدكم متكا على اريكته بأتيه الأمر من امري، مما امرت به، او نهيت عنه، فيقول: لا ادري ما وجدنا في كتاب الله اتبعنا". ثم يواصل الرسول صلى الله عليه وسلم، في نفس الحديث، قائلا: "ولكننا نقول: آمنا به كل من عند ربنا".
فاحرقوا الكتاب الاخضر.. واحرقوا معه كل كتاب.. ينكر. صاحبه.. او يلغي.. العمل بالسنة النبوية الشريفة.. العملية والقولية والتقريرية.. ويريد ان يستبدلها، بترهات وعبث واوهام. فالله سبحانه وتعالى يقول" "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.. الحشر/7". والله المستعان على امره.
د. فتحي الفاضلي