أكثر من مشكلة أقلية
الثلاثاء, 12 أكتوبر 2010
الياس حرفوش
لقائل ان يقول ان التجمع المسيحي المنعقد في روما هذه الأيام لمناقشة احوال المسيحيين في المشرق العربي، كان حرياً به، لو شاء أن يكون منهجياً في مواجهته مشكلة الهجرة المسيحية من هذه المناطق،
أن يتصدى للأصل بدل الفرع، أي ان يرى الى ما آلت اليه احوال المشرق العربي، والذي لم تكن تلك الهجرة سوى واحدة من ذيول ما حلّ به.
فعندما تجاهر اسرائيل بالإعلان عن نفسها «دولة يهودية»، وعندما تتفاقم النزاعات في اكثر من بلد في المنطقة، منذرة بانفجارات دامية على خطوط الانقسام المذهبي، وليس الطائفي فقط، تصبح مسألة هجرة المسيحيين تفصيلاً في اللوحة العامة الكئيبة لهذه المنطقة.
هذا هو المدخل الطبيعي، اذا شاء القيمون على هذا التجمع استعادة ما كانت عليه احوال المسيحيين في المشرق العربي. تلك الأحوال، على حيويتها وازدهارها وتعلّقها الشديد الرسوخ بأرضها، كانت نتيجة كون هذا المشرق غير ما نعرفه اليوم. فمن البديهي أن المسيحيين لا يستطيعون، في المناطق التي نتحدث عنها، ان يرتاحوا الى عيشهم براحة وبكرامة الا في مناخ يتيح فرصة للّون الآخر وللشكل الآخر وللفكر الآخر. اذ كيف لهم ان يعيشوا ضمن الحد الأدنى الذي يفترض أن يتوافر من شروط العيش الكريم، وهم الأقلية التي لا يتجاوز عددها عشر سكان هذا المشرق، من دون ان يكون متاحاً لهم ومعترفاً لهم بأنهم من اهل الأرض الأصليين، لهم حق الاختلاف ضمن اطار الدولة الواحدة القادرة على صيانة حقوق جميع مواطنيها على قاعدة المساواة؟
لقد تغير هذا المشرق وتغيرت تالياً احوال المسيحيين فيه. لكن احوال هؤلاء لم تكن هي وحدها التي تغيرت.
فعندما يصبح حق الاختلاف من المحرّمات، لا يصيب ذلك التحريم الأقليات الدينية وحدها، بل يصيب الأقليات من اي لون، سواء كان هذا اللون حزباً آخر مخالفاً لحزب الأكثرية، او رأياً آخر او مذهباً آخر، او حتى جنسية اخرى في البلدان التي تستقدم تلك الجنسيات للعمالة الرخيصة، ثم تحرمها من ابسط الحقوق، لمجرد انها ... «شيء» آخر!
هذا مرض يصيبنا جميعاً، اكثرية وأقليات.
الأكثرية تفقد حقها في ادعاء الديموقراطية واحترام حقوق موطنيها، عندما تمارس التسلط وازدراء كل ما هو مختلف عنها، وتفقد بالتالي مؤهلاتها في الحكم العادل. والمجتمعات تفقد خصائص التنوع التي تزيدها غنى، عندما تخسر ما يغنيها من مساهمات شرائح واسعة من اهلها، لعبت دوراً رائداً وحاضناً في مراحل النهضة التي عرفتها هذه المجتمعات.
ليس صدفة ان يترافق تراجع الدور المسيحي في المشرق
مع نمو العنصرية اليهودية في اسرائيل، التي تغذي وتتغذى من العنصريات المحيطة بها. وليس صدفة كذلك ان يقترن الإعلان عن دولة اللون الديني الواحد في اسرائيل في مطلع القرن الحادي والعشرين مع الدعوات في دول مجاورة الى التلوّن بلون ديني واحد كذلك. وفي الحالتين، تجد الأقلية المسيحية نفسها مهمّشة ومنبوذة وغير مرغوب فيها. لكن، مرة اخرى، ليست هي فقط التي تشعر بذلك. والدليل نسب الهجرة المضادة من اليهود «العائدين» من اسرائيل الى اوروبا والولايات المتحدة، وكذلك النسب المتزايدة من العرب الذين يجدون في بلاد الغرب مجالاً مفتوحاً لأفكارهم وفنونهم وإبداعهم ولقدرتهم على العيش، وليس هؤلاء جميعاً من المسيحيين وحدهم.
مشكلة المسيحيين التي يتصدى لها مؤتمر روما هي اذن اكثر تعقيداً من مشكلة اقلية بعينها.
انها مشكلة منطقة بكاملها انتقلت في غفلة من الزمن من مرحلة النهضة والتنوير الى مرحلة الظلمة والانحدار. 
وإذا كان الفاتيكان منشغلاً بمصير اتباع ديانته في المشرق العربي، فإن من واجبنا جميعاً ان نكون اكثر اهتماماً وانشغالاً بمصير منطقتنا التي تتآكل من الداخل وتخسر يوماً بعد يوم عناصر حيويتها ومناعتها الذاتية، وتجد نفسها من جديد محطّ اطماع القوى الكبرى المحيطة بها.