الثقافـة المصــرية في كارثـة
بقلم: جابر عصفور
الأهرام-25/10/2010
تعاني الثقافة المصرية من كارثة لم يسبق لها مواجهتها من قبل, سواء في درجة تعقيدها أو تشعب جوانبها, أو كثرة مايترتب عليها في مجالات الاقتصاد والصناعة والسياسة وغيرها من المجالات التي تبدو بعيدة عن التأثير الثقافي في الظاهر
ولكنها مشدودة إليه ومتأثرة به علي مستويات عديدة وفي مجالات متباينة. فالواقع أن تخلف الوضع الثقافي للأمة أو تقدمه يترك تأثيره في مجال من مجالات المجتمع, ابتداء من السلوك الأخلاقي وليس انتهاء بالقيم والتقاليد والموروثات والمعتقدات التي تغدو دوافع للتقدم أو التخلف. والحق أن المتأمل في الوضع الثقافي, أينما توجه ببصره في أي اتجاه, يجد مظاهر الكارثة الثقافية في كل مجال. ولعل أول هذه المظاهر لفتا للانتباه التراجع المخيف عن كثير من الإنجازات في المجالات التي حقق فيها هذا الوطن تقدما أكسبه صفة الريادة التي تم التراجع عنها في العديد من المجالات. خذ مثلا وضع المرأة المصرية, وكيف مضت في مسيرة صاعدة منذ ثورة1919 التي رفعت النقاب عن وجه هذه المرأة التي اقترن سفورها بالتقدم المتتابع في مسيرتها الي نهاية الستينيات علي الأقل. ماذا حدث لهذه المرأة, سواء من حيث متابعة صعودها, أو من حيث نظرة المجتمع لها ونظرتها هي الي نفسها؟ وأنا لا أسأل عن عشرات أو حتي مئات السيدات اللائي يتم التركيز عليهن إعلاميا, وإنما عن مئات الآلاف من طالبات الجامعة, والملايين من النساء في مجتمع تتزايد أميته التعليمية وضاق وعيه الثقافي والاجتماعي الي أبعد حد. ألا يكفي دليلا ما حدث من رفض مجلس الدولة تعيين المرأة فيه بإجماع الآراء تقريبا, وذلك بواسطة النخبة المتعلمة التي تنتسب إليه وتعمل فيه. وهو وضع بالغ الدلالة علي تراجع نظرة المجتمع الي المرأة ممثلا في عدد معتبر من نخبته المتعلمة, وماذا عن نوع الأسئلة التي ترسلها نساء الي قنوات الفتوي التي تبث الجهل الديني فنسمع سؤالا عن جواز خلع المرأة ملابسها أمام كلب ذكر في المنزل؟ أو هل ندخل المرحاض بالقدم اليمني أو اليسري؟ وماذا عن فتوي الرضاع المشهورة؟ واعتراض عشرات النساء علي تعيين المرأة في مجلس الدولة, ورفض المرأة المصرية انتخاب امرأة مثلها ابتداء من الإدارة المحلية وانتهاء بمجلس الشعب, ما الذي حدث لوعي المرأة المصرية بنفسها, ولماذا لم يواصل وعي حفيدات وبنات هدي شعراوي ونبوية موسي وسميرة موسي وسهير القلماوي ومفيدة عبدالرحمن تقدمه الي الأمام؟ وهذا هو منطق التطور الطبيعي للأمم. ولكن ما حدث هو النقيض الذي يتمثل في تراجع وعي المجتمع فيما يتصل بصورته عن المرأة, ووعي المرأة بنفسها وإمكاناتها, وذلك الي درجة أن أصبحت النساء عقبة أمام تقدم بنات جنسهن, كأنهن تحالفن مع رجال يزداد وعيهم الاجتماعي تخلفا وحرصا علي العودة بالمرأة ـ نصف المجتمع ـ الي الوراء وانشغالها بحجاب العقل قبل حجاب الوجه, ونقاب الوعي قبل نقاب البدن. تري هل كانت تحلم النخبة الثقافية التي أصدرت جريدة السفور سنة1915 أن المرأة المصرية ستنجذب الي النقاب, تحت دعوي الفضيلة؟! لقد تراجع وعي المرأة المصرية بنفسها, وأصبحت المرأة المستنيرة هي الاستثناء لا القاعدة, في مجتمع وصل وعيه بالمرأة الي قرارة القرار من التخلف. وأرجو أن يكون واضحا, في ذهن القاريء الكريم, أنني لا أعني بالثقافة ـ في هذا المجال ـ معناها الخاص المرتبط بإبداعات الفنون والآداب والعلوم الإنسانية, حيث مجال وزارة الثقافة, وإنما الثقافة بمعناها العام الذي يؤسس وعي المجتمع بنفسه والعالم من حوله, ويشمل القيم وأشكال الإبداع وأنواع السلوك والمباديء الأخلاقية والعادات والموروثات الجمعية والثقافة من حيث هي وعي المجتمع بنفسه, والعالم من حوله, تتكامل في رؤية عالم تصوغه كل مجموعة بشرية في سعيها الي مجاوزة شروط الضرورة والصعود الي ذري الحرية والتقدم الذي لا حد له أو نهاية. ويبدو أن علينا التمييز, في هذا المجال, بين ثقافة تتطلع الي مستقبل أفضل ينطوي علي حلم التقدم, وثقافة تتطلع الي الخلف كأنما انتقلت عيناها الي قفاها, فرجعت الي الوراء وسقطت في هوة التخلف علي كل مستوي, وذلك في علاقة تبادلية, فثقافة التخلف تدفع الي المزيد من التخلف الذي يصل الي وضع الكارثة, وأشكال التخلف السياسي والاقتصادي, فضلا عن الجمود الديني, تدعم الموروث من ثقافة التخلف وتزيده تخلفا علي تخلف. وللأسف فإن هذا هو الوضع الثقافي الكارثي الذي تعاني منه مصر الآن, خصوصا بعد أن استبدلت بطه حسين والعقاد ونجيب محفوظ فقهاء قنوات التطرف الفضائية واستبدلت بحرية الفكر وحق الاختلاف( أعظم ميراث ثورة1919) بقايا قانون الطواريء وطوائف المكفراتية من مشايخ التطرف الذين يتربصون بمثقفي الدولة المدنية والمدافعين عنها لينالوا من الردع ما يردهم الي حظيرة التخلف.
هذه الكارثة الثقافية التي نعانيها لها مظاهر كثيرة. أولها التطرف الديني المتبادل. صحيح أن جماعات الإسلام السياسي من دعاة الدولة الدينية هم الذين بذروا بذور التطرف التي كان لابد من رد فعل مواز لها عند متطرفي الأقباط, لكن الوضع وصل الي حال تنذر بالكارثة التي يعمل علي إشعال نارها من يفترض أنهم عقلاء, فما بالك بالبسطاء والسذج المنخدعين بأفكار أصحاب التعقل الكاذب من الأفندية, وأصحاب اللحي من مدعي العلم الديني في الفضائيات الدينية. وهناك ما يوازي التطرف الديني وما يماثله في مد التعصب الفكري الذي لا يسمح لصاحبه بقبول الرأي الآخر, أو يقبل حق غيره في الاختلاف. وما أكثر اندفاع الذين يرفعون شعارات حق الاختلاف الي محاولة استئصال المختلفين معهم معنويا, في ازدواج الوعي الثقافي وإعلانه غير ما يبطن في حالات كثيرة, حيث ما أسهل استخدام مفردات التخوين والعمالة للسلطة مقابل مفردات التكفير بكل درجاته. وهي ظاهرة أدت الي تقلص ساحات الحوار علي مستوي الأفراد والجمع, والمسارعة الي الاتهام بدل التروي والتبصر. والحق أنه بقدر مسئولية المثقفين عن افتقاد آداب الحوار بينهم, في مدي المسارعة الي الإتهام بدل المجادلة بالتي هي أحسن, فإن الدولة نفسها مسئولة عن غياب الحوار المجتمعي, وإشراك المواطنين في اتخاذ القرارات المصيرية. وأعتقد أن في ظاهرة عدم تجذر مبدأ المواطنة, وتحوله الي شعار أكثر منه واقعا فعليا ما يكمل الصورة التي تزداد قتامة, فأين هو وعي المواطنة عند المصريين الذين لا يرون أثرا لحقوق المواطنة في التعبير أو في حق العلاج والدواء والسكن والتعليم وممارسة الحقوق السياسية والديموقراطية وسط ضجيج النفاق والفساد, والمحسوبية, وبالقياس نفسه, نحن نتكلم عن ثقافة حقوق الإنسان ولكن الواقع العملي يعتدي علي هذه الحقوق التي لا يعرفها المواطنون للأسف, ولا يرون لها أثرا في الحياة التي يعرفونها, وما أكثر المباديء التي لا تحترم عمليا, سواء من الدولة التي وقعت علي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان, أو من المجموعات الفاسدة التي لا تعرف سوي ثقافة التمييز بين المواطنين علي أساس من الثروة التي تحالفت والسلطة, أو الدين الذي نسي دعاته في تطرفهم معني الدين لله والوطن للجميع. وأضف الي ذلك ما يكمله من افتقاد ممارسة الديموقراطية السياسية عند الحكومة والمعارضة علي السواء. ونحن نتحدث كثيرا عن ديكتاتورية الأغلبية, وهذا صحيح, ولكن الأقلية لها ديكتاتوريتها. وانظر الي كم التجاوزات والاتهامات المرسلة في بعض صحف المعارضة التي تري في الإثارة والتهييج والكذب والتدليس وسيلة للرواج. تزداد الصورة بؤسا والكارثة وضوحا عندما نتحدث عن وسائل تثقيف المجتمع ابتداء من تعليم ينحدر يوما بعد يوم, فيخرج جهالا لا متعلمين, لا فارق في ذلك بين التعليم المدني والتعليم الديني الذي يعاني من وضع أشد في درجة الإنحدار, خصوصا في اقترانه بمؤسسة دينية لا تزال تبدو معادية للاجتهاد وتجديد الفكر الديني. ولا أستبعد من المسئولية الثقافية وزارة الإعلام التي لم تضبط بوصلتها علي اتجاه التقدم في حسم, ووزارة الثقافة التي لا يزال أمامها الكثير لتستكمله في نشر الثقافة الجماهيرية المستنيرة والتوسع في إنشاء المكتبات التي تتحول الي مراكز إشعاع ثقافي. وهناك وعاظ الزوايا والمساجد التي يتبع بعضها وزارة الأوقاف التي لم تحقق المأمول منها علي مستوي تجديد الوعي الديني, وتحرير العقل من خرافات الجهالة والتطرف. وشأن وزارة الأوقاف المجلس الأعلي للشباب الذي ينبغي أن يكون وزارة مستقلة, يتحدد دورها بتطوير وعي الشباب بما يناسب متغيرات العصر, ويبعث ذاكرته الثقافية التي يمكن أن يكون رموزها مثالا هاديا, وهو أعجز من أن يواجه عقل الشباب الذي سلبته جماعات التطرف الإسلامي وأفقدته قدراته النقدية.ولا تقتصر مظاهر الكارثة الثقافية علي كل ما سبق فهناك النظرة الجاهلة التي تستريب بالفنون, والتطرف الذي أشاع بين السذج أن النحت كالرسم حرام, وقد سمعنا أخيرا عن فتوي فضائية تحث علي تدمير التماثيل الفرعونية, فضلا عن أنواع النحت لأنها كفر يعود بالمعجب بها الي عصر الوثنية. وفي ذلك مؤشر علي كيفية الإنحدار من فتاوي الإمام محمد عبده الشهيرة عن التماثيل واللوحات الي فتاوي داعية قناة الرحمة في واجب تدمير التمثايل. ونحمد الله علي أن الفتوي لم تدفع شبابا متهوسا دينيا الي تحطيم المعابد الفرعونية أو تماثيل عظماء مصر الموجودة في الميادين. وهو وضع محزن مضحك, قرين كارثة أنهت العهد الذهبي لكليات الفنون الجميلة التي لم تعرف الطالبات المنقبات إلا في هذا الزمن الرديء الذي حرم فيه بعض الأساتذة تصوير الجسد الإنساني والوجه البشري, والتعكير علي ميراث الحركة التشكيلية المصرية ناهيك عن الوعي بأهميتها وقيمتها في الارتقاء بالذوق, فكانت النتيجة أن أصبحت المتاحف المصرية خاوية إلا من بضع زوار هنا أو هناك, فلم يعد هناك معني لزيارتها بعد أن انتشر القبح في كل مكان, وشاعت الفوضي المعمارية كالعشوائيات التي لا تليق بحياة البشر. وبعد أن كانت القاهرة واحدة من أجمل عواصم العالم المتقدم أصبحت من أقبح العواصم العربية وأقذرها. ولا عجب أن يحدث نوع من التطبيع بين سكان أحيائها الشعبية وأكوام الزبالة والقاذورات التي أصبحت أري فيها, مثل غيرها, مظهرا من مظاهر كارثة ثقافية وتخلف وعي اجتماعي وحضاري, لابد أن يوجع الذين عرفوا مصر المصنع والمتحف والجامعة المتقدمة التي يبدو أنها تنكرت لما أنجزته عندما أخرجت مصطفي مشرفة وسميرة موسي وأحمد زويل وطه حسين ونجيب محفوظ, لكن في زمن جميل مضي, ولم يبق منه سوي أطلال تبكي ماضيها وتنوح علي حاضرها, وتسأل مؤرقة عن أسباب الكارثة التي وصلت إيها أمة استبدلت بالأحلام الكوابيس.