مرحباً للجميع :

لو سمح لي الزملاء بالتدخل قليلاً وإبداء رأيي في مشكلة الأقليات المركبة . أو بتعبير أوضح تراكب الإشكالية الأقلوية في الوطن العربي .
نحن نعرف أن السنة أكثرية والشيعة أقلية ضمن المحيط السني وإن كانوا أكثرية ضمن محيط أضيق مثل جنوب العراق أو بعض المناطق في لبنان .
ولدينا إشكالية تتلخص في عدم شعور الشيعي بالأمان الكافي ضمن محيطه السني الذي يحمل في فكره ووجدانه مع الشيعي على حد سواء إرث 1400 عام مضت من الخلافات والصراعات والحروب والمطاحنات على قضايا هي سخيفة بمنظور اليوم للعاقل المدقق ولكنها تبقى حساسيات حتى ولو كانت الخلفيات تافهة كالخلاف على خلافة علي أو أبو بكر وعمر لمحمد ...!!

وبغض النظر عن سبب الخلاف فإن الخلاف واقع ، وبغض النظر عن الحساسيات فإن الحساسيات حاضرة ، ومهما فعلنا من أجل عقلنة الخلافات لن يتم عقلنتها ما لم يتم معالجة الأسباب الأساسية وهذا ما يبشرنا بأننا نعيش ضمن حلقة مفرغة في المنطقة غير منظورة الكسر ...

من هنا يأتي الدور الإيراني المعاصر بعد الثورة الإسلامية عام 1979 ، فالثورة الإيرانية ككل الثورات في العالم لو دققنا بها تملك أيديولوجيا وتملك منظرين وتملك حماة وتملك قائد لهذه الأيديولوجيا بالإضافة إلى هذا وذاك ، بل والأهم من هذا وذاك أنها ككل الثورات "الطبيعية" في العالم تسعى لتتمدد وتصدير فكرها إلى الآخرين .

من هنا أيضاً تأتي المفارقة التي يعيشها السنّة كأكثرية والشيعة ضمن محيطهم السنّي .
فالعقيدة الشيعية مناقضة للعقيدة السنية شكلاً ومضموناً لمن يعرف ولمن تبحر في العقيدتين ، هذا إذا لم نضف الإرث التاريخي لكلا العقيدتين والكره الضمني حيناً والعلني أحياناً المتبادل بين أتباع العقيدتين . فسينتج لدينا عقيدتين متصارعتين متناحرتين على نفس الحصة من البشر كونهما لا تتمددان إلى الغرب أو إلى الشرق الأقصى ، والتمدد محصور ضمن منطقة جغرافية محددة وتجاه شعوب عقائدية محددة .

وببساطة شديدة معظمنا يعرف أن سعي الثورة الإسلامية في إيران إلى تصدير مفهوم الثورة بداية إلى العالم العربي شجع الحركات الدينية السنّية (وإن سبق بعضها الثورة الإسلامية) على محاولة خلق أو تنشيط ثورات إسلامية مشابهة في بلدانها .

بعد كل ذلك يأتي ضمن هذا السياق فشل الحركات السنّية في العالم العربي في القيام بثورات حقيقية مشابهة لخلق جو غريب جداً مضمونه الفشل الثوري وشكله الاختلاف السنّي الشيعي .

إن فشل تصدير الثورة في شكل معين سوف يحتم محاولة إعادة تصديرها بشكل آخر ، خصوصاً إذا كان أصحاب الثورة مصممين على تصدير ثورتهم ، وخصوصاً إذا أدرك أصحاب الثورة أن انكفاء الثورة إلى الداخل سيؤدي إلى تحول هذه الثورة إلى مفهوم الدولة وبالتالي فناء مفهوم الثورة وتحوله تدريجياً لصالح مفهوم الدولة ولا أدل على ذلك الانتخابات الرئاسية الأخيرة في إيران التي رأى البعض فيها بداية سقوط للثورة الإسلامية ، والتي رأيت فيها شخصياً إرهاصات التحول الثوري إلى مفهوم الدولة وعقلنة الثورة وليس سقوطاً للثورة الإسلامية بالمفهوم الحرفي للكلمة .

وبالعودة إلى المشكلة السنّية الشيعية . إنطلاقاً من الفشل السنّي في القيام بثورة قائمة على أساس المذهب كالشيعة في إيران ، ونتيجة الفشل المتراكم للشعوب العربية في تحقيق النهضة أصبح هناك خلطاً حقيقياً في المفاهيم أنتج ضبابية شديدة في الرؤية وتعميمات مضحكة في الحكم على الأمور ... فنرى أن بعض الشيعة يشخص سبب فشل الشعوب العربية في القيام بالثورات هو سيطرة الفكر السنّي ، ونرى بالمقابل أن بعض السنّة قد أصيبوا بفوبيا إيران والمد الشيعي رغم أنهم أكثرية ورغم جذورهم الضاربة في المنطقة !.

طبعاً من الأمور التي رافقت هذا الفشل في تصدير الثورة الإسلامية في إيران إلى العرب محاولة تغيير شكل التصدير من قبل الإيرانيين والاستفادة من فراغات كبيرة تركها العرب لغيرهم كي يشغلوها ... فبات أي فراغ يعجز الدور العربي عن شغله والذي يشغله غالباً أشخاص سنّيين يجب أن يملأ بدور إيراني الذي يشغله بالضرورة أشخاص شيعيين وبالتالي عاد الصراع القديم الجديد إلى الواجهة بين السنّة والشيعة ، ومعه عاد خلط المفاهيم إلى أقصى الحدود ، فبات المنتقد لإيران منتقد للشيعة بالضرورة ، والمنتقد للدول العربية منتقد للسنّة بطبيعة الأمور ...!!

ومما ساعد على هذا هو حاجة الشيعة العرب كأقلية إلى الأمان ضمن الوسط السنّي العدائي نتيجة الفشل المتراكم للطرف الأخير والنجاحات المحدودة للطرف الأول ، هذا الأمان بدل أن يستمد من السنّة العرب إنقلب كي يستمد من إيران كونها دائماً شاغلة الفراغات في المنطقة وهذا حقها الطبيعي وإلا شغل هذه الفراغات دول أخرى .

إن التمدد الشيعي الممثل بالثورة الإسلامية في إيران يشبه تمدد الشيوعية في مرحلة الحرب الباردة . هناك بعض الجزر المنفصلة التي تقبلت هذا التمدد وتحالفت معه وحققت بعض النجاح النسبي . والأمر لا يعدو كونها طبائع الأمور ولكن قصر النظر الذي تعاني منه شعوب المنطقة ألبس تضارب المصالح الإيرانية العربية ثوب التشيع السياسي والتسنن السياسي الذي وقع فيه الغوغاء من الطرفين ، والذي عاد بالفائدة على قادة هذه المنطقة من الطرفين .

وحتى لا نقع في ميزان المفاضلة بين المذهبين ، فقد ثبت بالوقائع أن الأقلية الشيعية عندما تصبح أكثرية في منطقة ما ، فإن تصرفاتها لا تختلف عن تصرفات الأكثرية السنّية في شيء . وهذا من طبيعة الأمور بالنسبة للدوجما الدينية التي تحكم العقول بشكل خاص وبالنسبة لعقلية القطيع التي تقود الشعوب بشكل عام .

من المؤسف أن أدين الشيعة العرب فقط لأنهم يبحثون عن أمان لا يجدونه عند السنّة العرب الشركاء في الوطن ، ومن المؤسف أيضاً أن يعتقد الشيعة العرب أن الشيعة الإيرانيين أقرب إليهم من إخوتهم السنّة العرب وشركاؤهم في الأوطان .

إن الطرفين قد وقعا ضحية لإرث قديم وثقيل استفادت النخب الحاكمة في كلا الطرفين من تأجيجه . وبات من الصعب جداً في ظل غياب مفهوم الوطن وتسيد مفهوم الدين أن نخرجهما من الخندق* الذي تمترسا به ...


الهوامش :
نظرية "الخندق" لزياد الرحباني هي من الأفكار التي تستحق التأمل والتي عرضت في مسرحية فيلم أميركي طويل ، حيث يتلخص مفهوم الخندق على أن قوى التحرير التقدمية التي تتلقى الدعم من قبل الأنظمة الرجعية العربية المتحالفة مع أمريكا المتحالفة بدورها مع إسرائيل ، تتمترس بالنتيجة هي وأعدائها في خندق واحد في الحرب الأهلية اللبنانية .