25 يناير
25 يناير
ساحة مسجد القائد إبراهيم
استند علي سور الكورنيش بظهره , أشعل سيجارته , سرح ببصره في المدي , سأل نفسه في قلق : هل أقدر اليوم , الجمع متناثر يدور هنا وهناك , يشتعل بالهتافات التي تصك أذنيه , قال لنفسه : ليست جديدة علي ّ , هل يمكن أن يفعلوها هم , تحسس رأسه التي تخلو إلا من شعيرات بيضاء قليلة , العيون السواء الواسعة تحتل مساحة كبيرة من الوجوه , قال : هل كنا هكذا ؟ , رآهم يتدفقون من طريق الكورنيش ومن شارع الترام ومن آخر شارع بورسعيد , لاحظ أن من بين الوافدين من في مثل عمره ولكنه لا يعرف أحدا منهم , يجدون في السير , دار في رأسه : لا بد أنهم متعبون , هل سيقفون لالتقاط الأنفاس مثله ؟, ربما تعرف علي واحد منهم , ربما بمعجزة ما يتخلق وجه يعرفه , عاد للقول : مستحيل أن يراها مرة أخري , لا بد أنها تمسح رؤوس أحفادها الذين يلوذون بحضنها , ربما حانت منها لحظة ذكري لمنظر الساحة , ربما اغرورقت عيناها بالدموع وهي تتذكر احتضان يدها الدافئة لأصابعه الباردة , ربما أحس حفيدها بسخونة الدمعة التي سالت علي خدها وهو يمسحها بكفه الصغيرة , قال لنفسه : ربما رأت صورته لو بثتها احدي القنوات الفضائية , تسائل : هل يمكن أن تتعرف علي صورته ؟ فرك سيجارته بعنف قي سور الكورنيش وراح يدور ببصره قي الجموع المحتشدة , جرب صوت الهتاف في حلقه الجاف , راحت حنجرته تردد صوته الضائع في زحمة الأصوات وهو يعبر الطريق متجها إليهم , بحث عن مكان يتناسب مع عمره , لم يجد إلا جدار البناية ليلتصق به , من خلال رائحة دخان الأشياء المحترقة التي تمتزج برائحة دخان الطلقات حانت من التفاتة إليه , جالسا علي الكرسي المتحرك يهتف, انتابته الدهشة من منظره وهو يلوح بيديه القويتين بعنف وهو يهتف , وضع يده علي كتفه فانتبه إليه ورفع رأسه إليه مبتسما , يرتدي معطفا من الجلد ويضع علي ساقيه بطانية أطفال صغيرة , ربما كان بردانا مثله , قال لنفسه : هل يبحث مثله عن شئ ضائع , شئ بعيد , شئ ربما يعيد إليه بعض الأمل , قال له : إذا اشتبك الجنود مع المتظاهرين فسوف أكون مسئولا عنك , رد عليه وهو يضحك ويشير إلي رجليه : دعك مني , انتبه أنت لنفسك , من المستحيل أن يفكروا في إيذائي ,أخذ يدير عجلات كرسيه المتحرك بيديه القويتين من خلال التروس أماما وخلفا خلال الهتاف , وكأنه يبعث الدفء في نفسه , أو يستمد طاقة ما من خلال الحركة التي يحسها تدب في الكرسي , عندما بدأ الجنود في الاقتراب وجده يصدر صفيرا من شفتيه ويلوح بيديه لشخص ما وسط الجموع , نظر في اتجاه المكان الذي يشير إليه , رأي كتلة غير محددة الملامح من الأجساد المتلاحمة , تفترق في ألوان الملابس وأشكالها فقط , سأل نفسه : أهو ملتحم بهذه الكتلة , أم أنه ابتعد عنهم من زمن بعيد , إنه لا يعرف أحدا منهم , هم في عالم آخر , ما الذي يربطهم به غير ذلك الهتاف الذي يردده معهم في رتابة وآلية ؟, ما الذي يدور برؤوس هذا الشباب الغض ؟ ما الذي يجثم في نفوسهم وراء هذا الهتاف ؟ , لو استطاع أن يخترق ذلك الغلاف الذي يفصله عنهم , ذلك الحاجز السميك الذي صنعه الزمن , ربما لو تعرف علي ما يفصله عنهم , ربما , ربما وجد الإجابة , انتبه له وهو يشير إليه مبتسما إلي مكان ما في الجمع الذي بدأ في التناثر : ابنتي ! , استطاع التعرف عليها من تلويحها له , فتاة سمراء طويلة نحيلة , يتطاير شعرها الأسود فيلتصق بجانب وجهها ويخفي عنه شفتيها وجزءا من خدها , أصابعها الطويلة الرشيقة تقبض علي كف الشاب الواقف بجوارها , نظر إليه , قال وكأنه يقرأ أفكاره : خطيبها , عندما التفت الشاب إلي مكانهما , استطاع أن يتعرف في ملامحه ملامح من مرت معه من هنا من زمن بعيد , نفس التصميم والعزيمة في الأنف , نفس الاعتزاز في الجبهة , نفس الحنان في الابتسامة , نفس الذكاء في العينين , هل يمكن أن يكون ابنها ؟ هل يمكن أن يتصادف وجود الشخصين بنفس الروح في زمنين مختلفين في نفس المكان ؟, سؤال هام ربما وجد له إجابة , لو عرف ما الذي أغرق قلبه في الفوضي , ما الذي جعل روحه تتآكل إلي هذا الحد , انتبه إلي كلمات رفيقه : مخطوبان من ثلاث سنوات , تعرف الإيجار الجديد وتكاليف الجهاز و .. , ليس لدي سوي معاشي , لو ملكت ما تأخرت عنهما , شاب ممتاز , تحرك بالكرسي المتحرك كعادته أماما وعندما ارتد به سقط الغطاء عنه فمد ذراعه ليلتقطه , ويستر به ساقيه , لحظة كانت كافية ليري أن ساقيه مقطوعان مع جزء كبير من الفخذين , ورآه يطيل النظر إليه متأملا شفقته التي ارتسمت علي وجهه فواجهه بعينين متحديتين وهو يهتف : في حرب أكتوبر , في حرب أكتوبر , غرق داخل نفسه في بطء وهو يستند بيده علي جانب الكرسي خوفا من السقوط , ورأي أن المسافة التي تفصله عن روحه تتسع لتصير بمساحة ميدان القائد إبراهيم كله , غابت الجموع عن عينيه للحظات , غاب الميدان ,غابت الرائحة الخانقة , غاب البحر , تركزت نظراته علي الوسام الذي أخرجه من صدره ليريه إياه , مد أصبعه المرتجفة ولمسه يتحسس نتواءته , يملأ بصره بألوانه الباهتة , ألوانه التي كانت له يوما ما , أعاد بصره للجمع مرة أخري لكي يري فوجد أن الاشتباك قد بدأ بعد أن تلاحم الجنود معهم في صراع .
أطل الهلال من أعلي مئذنة مسجد القائد إبراهيم ورأي رؤوسهم , من هذا البعد الشاهق لم تترائي له سوي كتلة واحدة سماها غمار الناس , أسفلت الشارع سمع هرولة الأرجل المضطربة إثر قنبلة دخان وسمع معها صوت الأحذية الغليظة تدق دقات منتظمة , عين الكاميرا تأملت من في الصفوف السوداء بخوذاتهم ذات الحاجز الزجاجي ولم تتمكن من التقاط أية شفقة في اليد الحاملة للعصا الغليظة ولكنها التقطت رهبة في القلب من الأذى القادم , طلقة الدخان التي سقطت علي الأرض مخلفة وراءها خطا أبيض متعرجا انزعجت من الرائحة التي تطلقها حين تدحرجت بين الأقدام , سماعة التليفون المحمول الملتصقة بأذن بثت صوت دافئ سري في الوجه الغض مسري النار , ( مسير الشمس من تاني , تنور فوق سنين عمري , وتصبح غنوتي لساني , وترجع فرحتي في صدري ) , الترام الذي وصل المحطة أنزل الحواجز الزجاجية عن نوافذه وسمح لوجوه كثيرة أن تطل ثم ترك أبوابه تنفرج وتتدافع أقدام لكي تلحق بالحشد في الساحة الصغيرة أمام المسجد , لافتة الجمعية الاستهلاكية للقوات المسلحة عبر الطريق راحت تراقب تقدم الصفوف السوداء تجاه الحشود الواقفة في قلق , الريح القادمة من البحر تأففت من رائحة الدخان وحاولت أن تطردها عن جو الساحة , سور الكورنيش تحمل أجساد من اعتلوه بعيدا عن رائحة الدخان , الطلقة المطاطية شقت الهواء في دوران سريع باحثة عن هدفها العشوائي وعندما استقرت في صدر تأوهت من الألم , القطة التي خرجت من الحديقة حدقت في مشهد التحام الكتلة المسماة غمار الناس والصفوف السوداء ثم تراجعت مذعورة تختفي تحت مقعد الحديقة متكومة علي نفسها , عمود النور وقف شامخا يرسل الضوء في عناد , العصافير التي كانت تأوي للشجرة طارت في اضطراب إثر طلقة صوتية و حلقت فوق سماء المستشفي الجامعي , دم سال علي الأسفلت وتسائل مبهوتا لماذا ؟ قبلها كانت حناجر تصرخ : سلمية , سلمية , سلمية , وردة انسحقت تحت الأقدام المتدافعة , سلام ضاع في زحمة الوجوه الغاضبة , لهب بدأ يتصاعد حتي امتلك الفضاء وأخذ يئز متمهلا ثم يلتف علي نفسه ثم يتصاعد الدخان الأسود الكثيف ليلف كل المشهد وكل زوايا الرؤية .
التصق جسده بعمق إلي جدار البناية و هو يراهم يتفرقون علي الجانبين في اتجاه كورنيش البحر وفي اتجاه الترام لكي تنكشف الساحة من الجموع تماما ويري الجنود وهم يتقدمون إليه ,رأي الكرسي المتحرك في منتصف الساحة بينه وبين الجنود , منقلبا علي أحد جوانبه والعجلة العلوية مازالت تدور أما صاحبه فلم يعثر له علي أثر.
كوكو
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 02-03-2011, 08:55 AM بواسطة coco.)
|