RE: الشاعر فرج بيرقدار / أشعار ودراسات
مرايا الغياب
في البداية يقدم الشاعر قصائده للقارئ بما يشبه الاعتذار أو ربما التفسير أنها كانت مرآة لما حدث , فالظروف التي أحاطت بالذات الكاتبة كانت قاسية , جارحة بما لا يمكن أن يكون معه صفاء في أي شئ , ثم يسرد لنا الظروف التي أحاطت بالكتابة
كان يمكن لهذه المرايا
أن تكون مطراً صافياً
أو صمتاً صافياً
أو دمعاً صافياً على الأقل
بيد أن الظروف
كانت من حجر
وكان صليل الزمان والمكان
مضرَّجاً بما يشبه الدم
وبما يشبه الجنون
وبما يشبه الآلهة
وبما لا يشبه شيئاً على الإطلاق.
بهذه البداية يهيأ الشاعر متلقي مرايا غيابه علي أنها حالة استثنائية جاءت بفعل عالم يفتقد المنطق يفتقد سيولة الزمان والمكان الأليفة , عالم غريب مفروض بفعل قوي فوقية كأنها ( ألوهية ) , لا يشبه شيئا علي الإطلاق , يعلن لنا الشاعر ببساطة أن نضال الشعر وكفاح القصيدة سوف يكونان ضد هذا العالم الذي وجد نفسه فيه , قد يتأمله , قد يسقط تحت وطأته بما هو إنسان ضعيف , قد يتجاوز محنه , قد يقاتله في ضراوة حين يسلبه روحه ولكنه في النهاية واقع تحت سطوته , فهو موجود فيه شاء أم أبي , عالم لا يمكن تجاهله لأنه انزرع فيه وأصبح جزءا منه .
تتمحور المرايا حول حالات الحضور التي تتبدي فيها الذات لنفسها عند التأمل فهي حوار داخلي ودفاع للذات ضد نفسها أن تتآكل أو تصدأ بفعل الظروف الآنية التي تمر بها , وتروح الذات تتجول في أحوالها واضعة كل صورة لها أمام مرآة لتعاينها وتكشفها , حالة الغياب هي حالة الحضور , فالذات المغيبة داخل سجن لا تنتمي للعالم الخارجي بأي شكل , ذات غائبة , ولكنها في نفس الوقت حاضرة تتأمل حالات غيابها , هذه الجدلية سوف نلقاها حاضرة تهيمن بقوة علي المحاور المتعددة التي ألتقي الشاعر فيها مع ذاته .
المقطوعات من الناحية الشكلية مائة مقطوعة إضافة للمقدمة , وكأنما الشاعر يلمح لنا من بعيد بأننا يمكن أن نعيد العد مرة أخري فنحن نعد من الواحد إلي الأعداد التالية بما لا يشبهها حتي نصل للمائة فنعود للعد من جديد وهكذا ,وكأنها دورة لا تنتهي , ثاني ملاحظة شكلية أن الشاعر قد اختار الشكل النثري الذي يحتوي موسيقي فوضاه المتلائمة مع عدم الانتظام والاتساق التي تحويها تجربته , فالشاعر كما سنري في قصائد أخري يملك الموسيقي ويعرفها فاختياره هنا ناشئ عن رؤية أن الموسيقي الخارجية ضد ما سوف يرصد , وكأنه يلمح هنا أن تلك النصوص تحمل موسيقي خاصة , موسيقي الفوضي الخاصة بنوع التجربة, فالتجربة محاولة للم تلك المزق والشظايا التي لا تتمكن من الائتلاف والتساوق مع بعضها لتكون حالة متماسكة , وإنما هي خاضعة لحالة السيولة التي تعتري النفس عند التحديق في عمقها , محاولة إدراك الظواهر بشكل مختلف عما كان قبلا أثناء وجود المنطقية في الأشياء , هنا في السجن لا منطق , هنا شئ لا يشبه شيئا مألوفا علي الإطلاق , شئ يتأبي علي الموسيقي الخارجية موسيقي الأوزان , لايستطيع أن يندرج تحت إيقاع منتظم , الموسيقي سوف تأتي من شعرية الحالة , قدرة اللغة علي تصوير التجربة .
ثالث ملحوظة أن القطع قصيرة وكل منها تمثل حالة واحدة , قد لا تتواصل في القطعة التالية لها مباشرة وقد تتواصل ولكنها في النهاية تتحد وتنصهر معا بشكل غير مباشر - فيما يجمع القطع كلها - من الإشارة إلي التجربة ككل , الذات بما هي وعاء يحل فيه , تتصارع فيه , تتبدل فيه , تنسخ بعضها بعضا , حالات المشهد الشعري , فكل قطعة تمثل أحدي تفصيلات تلك التجربة .
الملحوظة الرابعة هي التكثيف الشديد للقطعة الواحدة , أن يقطر القول الشعري التجربة داخل القطعة الواحدة , ينكمش السطر الشعري في كلمات قليلة قد تصل في الانكماش والتضاؤل إلي كلمة واحدة في السطر الواحد وسوف نري كيف استطاعت هذه الطريقة أن تخلق حالات التضاد أو الائتلاف أثناء القول الشعري , أن تطرح أسئلة , أن تتوقف أن الخطابية , أن تكون غير مباشرة في التوصيل , أن تجعل القارئ شريكا في الحالة , وهذا يمكن أن يعد قصدا غائيا من الشاعر , أن يجعل القارئ شريكا في المحنة , قارئ لن يكون محايدا , سوف يخرج من القراءة ساخطا , وعندما نعالج المقطوعات سوف نري كيف يتصرف الشاعر في القول الشعري في السطور لكي يعطي للغة مجالا لهذا الشحن بالشعري.
الملحوظة الأخيرة أن كثيرا من القطع تتوسل بالسردي طريقا للتعبير عن الشعري, والسردية وهي تعبر عن الشعري تحاول أن تجعل السردي عنصرا ضروريا لتلقي المعني , فكثيرا من المواقف المندرجة في السردية تصنع وهجها الخاص من خلال تلك السردية بما يجعل الوصول للمعني عسيرا إذا تجاوزناها .
- يتبع -
كوكو
|