RE: الشاعر فرج بيرقدار / أشعار ودراسات
تتوالي صورة المرأة في مرايا الغياب لدي فرج لكي ينوع علي اللحن السابق , للنظر لتلك القطعة :
كل الجهات
مسنونة
كل الجهات
غامضة ومتربِّصة
كلها خائنة ومقلوبة في رأسي
كلها ملعونة وذاهبة إلى ما لا يعود
كلها ليست نفسها
إلا في أحضان تلك المرأة
تلك المرأة
تلك.
هنا يرينا الشاعر في بساطة حالات الخيانات الذهنية التي قد تستولي علي السجين فاقد الحرية , يقلب الأمر علي وجوهه , تتبدي له طرق أخري للخلاص من قبضة سجانه , قد يفكر في السقوط فيها خلاصا بنفسه من أزمته التي طالت , يعدد لنا المقطع بالجمل الخبرية البسيطة رفضه لكل طرق الخلاص , الأخبار ( مسنونة , غامضة ومتربصة , خائنة ومقلوبة في الرأس , ملعونة وذاهبة فيما لا يعود ) ترسم لنا تلك الإدانات التي تدور برأسه لحظات تأمله , سرعان ما يثوب لرشده مقررا في بساطة أنها كلها ( ليست نفسها / هي زائفة ) , الطريق الوحيد الحقيقي هو في أحضان تلك المرأة .
من خلال الجمل الخبرية الأولي وبعلاقة ( النفي / ماهو ضد تلك المرأة) نعرف حقيقة تلك المرأة وصفاتها , هذه المرأة هي ( ضد ماهو مسنون , ضد ماهو غامض ومتربص , ضد ماهو خائن ومقلوب بالرأس , ضد ماهو ملعون , ضد كل ماهو زائف ) , ضد كل تلك الخيانات الذهنية التي تعتري عقل السجين للحظات , هنا هو يسلط الضوء علي تلك الخيانات في براعة , لكي يقرر أن الهروب من كل تلك الخيانات الذهنية هو الاعتصام بتلك المرأة النقيض لكل تلك الخيانات ( أحضان المرأة ) , وهو حين يأخذ هذا الحل يصوره بكلمة ( حضن ) التي تلمح بظلالها إلي الدفء والمودة والحنان وكل المحمولات المتعلقة بحضن المرأة حين يرتمي فيه الطفل أو الرجل أو الشيخ , هذا الحضن فوق أنه المشاركة الوجدانية الحميمة فإنه حضن الحماية .
بساطة الصياغة مرة أخري حين يعدد الطرق كلها ثم ينفيها بجملة ( ليست نفسها إلا في حضن تلك المرأة ) ثم يختم بأن يضع علي كل سطر جزءا من تلك الجملة ويفتتها جزءا جزءا كأنه يستعذبها ويسكر بها أو يجترها لكي يمكنها من الدخول في قرارته لكي تمسح كل ما راوده من خيانات لها , من هي تلك المرأة إذن غير الحرية الحقيقية , الحرية كجوهر للحياة , الحرية التي لا تقبل المساومة , لا تقبل أنصاف الحلول , لا تقبل إلا الحق والعدالة .
في القطعة التالية والتي كنت أود التعليق عليها قبل القطعة السابقة والتي سيعرف القارئ لماذا بعدها :
أفكِّر أحياناً
أن ما تكتبه النجوم
في دفتر الليل
وما تضمره الأشجار
من ظلال
وما تبوح به وردة لا نراها
يكفي.
لماذا إذن
لا توقظ جهاتك
في السادسة من نداوة الياسمين
أو في الثانية بعد منتصف الليلك
لتحتفي بالمرأة التي تحب
وهي تستحمُّ بغيمة بيضاء
ترتعش بين جانحيك.
تنويع آخر في تأمل المرأة في مرايا الغياب , فحين تضيق نفس المسجون يروح خياله إلي حالة الإمكان , إلي الأمل , إلي مظاهر الطبيعة يستولدها في خياله عناصر جمال , فالليل رغم أنه ليل بما يعبر عن ظلمة كاسحة فإن النجوم بعلاقة الضد تصنع فيه نورا ولو بسيطا , الأشجار رغم أنها ربما تكون عارية إلا أنها تضمر ظلا , الوردة التي لا نراها إلا بعين الخيال تبوح بعطر , هذا الأمل البسيط بوجود النتائج في الأشياء بالقوة , يشد من عزيمته و يري أن هذا كاف , لأن يحتفل بتلك المرأة التي بعثت تلك الفكرة , يستفز كل قواه ليتعانق بتلك المرأة , في الصباح في نداوة الياسمين الأبيض , أو عند منتصف الليل في منتصف الليلك , ولنظر للجمال الذي صاغ به كلمة الليلك فكأنها تعبر عن الليل ببدايتها في النطق وتعبر عن الليك بكمال نطقها وكأنه يقول في منتصف الليل وفي نفس الوقت في غمار الليلك , والاحتفال بالمرأة يأخذ طقس الحب المرسوم بجمال , المرأة التي تستحم بالغيمة البيضاء , ليست غيمة سوداء وإنما بيضاء , غيمة تحمل المطر بما للغيم من دلالة وفي نفس الوقت بيضاء لاستبعاد غير الأمل .
هذا التصوير أيضا صاغه بالطريقة المنطقية البسيطة التي رأيناها في المقطع المدروس في المداخلة السابقة وإن اختلفت الطريقة فالشاعر يسرد لنا أنه مادام هناك كذا وكذا وكذا , فإن النتيجة يجب أن تكون كذا , هنا المرأة هي الحرية ولكن بتنويع جديد , والعلاقة الجدلية بين هذا المقطع والمقطع السابقة علاقة عضوية , ذلك أنه في المقطع السابق وهو يسرد لنا الخيانات الذهنية التي بثها اليأس في نفسه وقاوم طويلا لرفضها حين حلل محمول تلك الجهات , فإنه هنا يرصد علامات الأمل بما هو ضد الخيانات الذهنية , كل قطعة تؤدي للآخري حيث يرسم الصورة الكلية للهواجس بشقيها هاجس خيانة الذات وهاجس بعث الروح ضد تلك الخيانات .
يالها من إمراة رائعة تلك الحرية التي يحملها في جوانحه والتي توقظ هذا الإبداع .
- يتبع -
كوكو
|